الموشح اليمني ظاهرةٌ أصيلة في الحياة الثقافية اليمنية، غير أنّ أغلب اليمنيين يأخذهم هذا المصطلح إلى حيث الدلالات الدينية وحسب، مع أنّ شعراء هذا اللون تعدّدت اهتماماتهم الحياتية إلى درجة بات فيها هذا القالب يهتم بكافة اهتمامات الإنسان وحياته. هذا ما تؤكّده التجربـة الشعرية اليمنية، ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي، حيث ظهر الوشاح أبو بكر بن عيسى بن حنكاش في زبيد. ومنذ هذا التاريخ وحتى بداية القرن العشرين، كان الممارسون التقليديون للغناء يُطلقون على الموشحات اليمنية مصطلح (أغاني التراث). على أنه مع ظهور التوصيفات المناطقية التي تزامنت مع التقسيمات المناطقية في الجنوب والشرق، أخذ هذا البعد حيزًا كبيرًا في التداول اليومي لبعض المناطق اليمنية في جنوب وشرق اليمن، إلى درجة غاب معها استخدام هذا المصطلح الذي كان متداولًا منذ القرن الثالث عشر الميلادي. ولم تتنبه النخب الثقافية إلى مخاطر ذلك إلا مؤخرًا.
قبل ذهابي إلى تونس لم تكن المسألة متبلورة في ذهني على النحو الذي أقدم فيه ورقة إلى مؤتمر يحضره مندوبون من معظم الدول العربية. ومع ذلك رأيت اقتحام هذا المجهول بما يتيسر لي من المعلومات، حيث كان هذا الموضوع أحد محاور النقاش في هذا المؤتمر.
في العام 1985، اختارتني وزارة الإعلام والثقافة لحضور فعاليات المؤتمر الخامس للمجمع العربي للموسيقى في تونس، فرأيت كتابة ورقة عن الموشح في اليمن؛ وذلك لسببين:
الأول: إعطاء المؤتمِرين فكرة عن أن هذا القالب كان له حضور قوي في اليمن.
الثاني: أن لهذا القالب تفاصيله الفنية المختلفة في اليمن عنه في أماكن أخرى، حيث انتعش فيها هذا اللون.
وعندما جاء دوري لتقديم الورقة، فوجئت باستغراب بعض المندوبين العرب من وجود هذا القالب في اليمن. ومع المناقشات الجانبية التي كانت تجري على هامش الاجتماعات شعرتُ بالغبطة من تفهُّم كثيرٍ من المندوبين لهذا الأمر. ويبدو أنّ هذه الظاهرة حدثت تحت تأثير غياب الأدبيات اليمنية التي أرَّخت وحلّلت هذا اللون الغنائي. ومنذ ذلك الحدث بات أعضاء المجمع العربي للموسيقى متفهمين لهذا اللون، بل إنّ بعضهم راح ينقّب عن هذا اللون الغنائي على خلفية شغفهم بالتعرف على قوالب الموسيقى العربية وخصائصها من مجتمع عربي إلى آخر. وتدل المؤشرات على أنّ هذا القالب الماثل أمامنا ظلّ يزيّن حياتنا الثقافية بدُرر شعرية ونغمية كانت وما تزال حديث أبناء الجزيرة العربية والخليج العربي، بل والمهتمين بأشكال الإبداع العربي في كل مكان.
التأثير الاستعماري المناطقي
منذ النصف الأول من القرن العشرين، ظهرت توصيفات مناطقية على إنتاج شعراء الموشحات. وحتى نتوخى الدقة يجب الاعتراف بأن هذه النزعة المتطرفة التي جذبت إليها أسماء فنية وازنة في الحياة الموسيقية اليمنية كان لها تأثير بالغ على تراجع مصطلح الموشح لتحل محله توصيفات مناطقية ما أنزل الله بها من سلطان. ويبدو أنّ هذا الملمح أخذ بعدًا عميقًا في حياتنا الثقافية مع تراجع التنظير الفني بالدلالة العميقة للكلمة. وهذا التراجع أخذ ديناميته من الحالة السياسية التي خلقها الوجود الاستعماري البريطاني في جنوب الوطن. ولعل المتابعين يدركون بأن المصطلحات الفنية المناطقية لم تأخذ بُعدها الذي أخذته إلا في ظل وجود الاستعمار الذي يبدو أنه اتكأ على هذا البعد ليعمق حالة التنافر الوطني التي بدأت في التبلور مع ظهور المشاريع التفتيتية التي حملها البريطانيون.
ومع بروز الوعي التحرري العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وجد ذلك صداه سريعًا في اليمن الجنوبي الشرقي. ففي هذه المناطق وجد الوعي الوطني صدى قويًّا لدى المواطنين اليمنيين في الجنوب والشرق، حيث خضعت هذه المناطق لنفوذ أيديولوجي بريطاني وجد صداه في الكيانات السياسية التي تعمل في داخل منظومته السياسية والثقافية. وعند بروز رغبة تنشيط الحياة الموسيقية فيما كان يسمى بالمحميات الجنوبية والشرقية، وجدت هذه الرغبة نفسها محاطة بهذا الواقع الذي أدّى من بين ما أدّى إلى حالة تجزيئية تنافرية على حساب وعي وطني، بموجبه كان المواطنون يرون في انتمائهم اليمني إحدى الحقائق الجوهرية لحياتهم.
ومنذ التاريخ الذي بدأت فيه السياسة البريطانية في تغذية الروح المناطقية عبر آليات إدارية وأيديولوجية، تمكّنت من تحقيق ثغرة لا وطنية في سلوك جزء كبير من المواطنين اليمنيين في جنوب وشرق الوطن. على أنّه أتضح لاحقًا بأن هذه النزعة لم تدُم طويلًا، خاصة مع انتشار الوعي الوطني والقومي التحرري الذي اجتاح معظم أجزاء الوطن العربي، وعلى قاعدة ذلك الوعي انفجرت ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963، ضد الاستعمار البريطاني وركائزه، لتعيد لاحقًا هذه الثورة الاعتبار للهُوية اليمنية ببعدها الثقافي والاجتماعي.
ومنذ ظهور الوشاح ابن حنكاش، استقبلت الساحة الثقافية اليمنية العديدَ من الوشاحين اليمنيين الذين اغتنت بهم المكتبة الثقافية اليمنية على نحوٍ ما يزال فيه المهتمون بمكونات ثقافتنا الوطنية مبهورين بما قدّمه بعض الشعراء من موشحات تتسم بالمسايرة والمغايرة مع الموشح في الأندلس وبلدان عربية ظهر فيها هذا اللون الغنائي.
العمق الهُوياتي للموشح
قبل ذهابي إلى تونس، لم تكن المسألة متبلورة في ذهني على النحو الذي أقدم فيه ورقة إلى مؤتمر يحضره مندوبون من معظم الدول العربية. ومع ذلك، رأيت اقتحام هذا المجهول بما يتيسر لي من المعلومات، حيث كان هذا الموضوع أحد محاور النقاش في هذا المؤتمر. جهزت على عجل ورقة بهذا الخصوص تحت عنوان (الموشح في اليمن). كان هذا الموضوع قد بدأ يشاغلني منذ أن بدأت أتأمل مكونات التراث الغنائي اليمني. كان مصطلح (الغناء الصنعاني) يفرض نفسه عليّ تحت تأثير الخطاب الفني الشائع الذي بدأ في التبلور منذ النصف الأول من القرن العشرين، حيث بدأ يظهر على السطح هذا المصطلح ويشيع للدلالة على لون غنائي بدأ في التبلور في اليمن منذ القرن الثالث عشر الميلادي تحت مسمى (الموشح).
على أن الدكتور محمد عبده غانم ألمحَ في كتابه (شعر الغناء الصنعاني) إلى أن ظهور هذا اللون الغنائي كان في القرن الخامس عشر الميلادي على يد الشاعر الحُميني أحمد بن محمد بن علي بن فليتة. ولكن تواتر الدراسات التاريخية عن هذا اللون الغنائي، أكّد لاحقًا بما لا يدع مجالًا للشك، أن هذا اللون الغنائي بدأ في التبلور في اليمن في القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك مع ظهور الوشاح أبي بكر بن عيسى بن حنكاش (اشتهر في عام ٦٢٥ ميلادي). وبات من الثابت تاريخيًّا أن مدينة زبيد عاصمة الدولة الأيوبية، كانت المكان الذي استُقبل فيه هذا اللون الغنائي الجديد. وكان هذا الاكتشاف التاريخي إنجازًا كبيرًا تعمّقت به معرفتنا التاريخية بهذا اللون الغنائي، الذي لا يزال يجتذب إليه الكثير من المواهب الغنائية في اليمن.
ومنذ ظهور الوشاح ابن حنكاش استقبلت الساحة الثقافية اليمنية العديد من الوشاحين اليمنيين الذين اغتنت بهم المكتبة الثقافية اليمنية على نحوٍ ما يزال فيه المهتمون بمكونات ثقافتنا الوطنية مبهورين بما قدّمه بعض الشعراء من موشحات تتسم بالمسايرة والمغايرة مع الموشح في الأندلس وبلاد عربية ظهر فيها هذا اللون الغنائي.
موشح يا مالك الملك
ومن باب إلقاء شيء من الضوء على هذا القالب الغنائي، سأستعرض موشحًا للشيخ جابر أحمد رزق، الذي عُرف بكونه رائد الطريقة الصوفية الأهدلية في اليمن. لشيخنا تجربة بعيدة الغور مع قالب الموشح، وتكتسب هذه التجربة أهمية خاصة؛ لكونها انطلقت من معايشة عميقة للموشح اليمني الذي تمتد جذوره إلى القرن الثالث عشر الميلادي.
إنّ انغماسه في التجربة الفنية للموشح أمَدّه بمعرفة عميقة بمكوناته التقنية. وهذه المعرفة جعلته يقف على أرض فنية صلبة مكّنته من تقديم تجربة شديدة الخصوصية مع قالب الموشح. ولملامسة هذه التجربة سنتوقف عند موشح (يا مالك الملك).
يا مالك الملك يا أجلّ
يا خالق الخلق أجمعين
اغفر لنا الذنب والزلل
وارحم جميع الموحدين
الجار يا ساجي المقل
لأن حمل الهوى رزين
يضعضع السهل والجبل
مِن ثقله، كيف بالحزين
أوقفت مضناك في المحل
يشارك العيش في الأنين
كفاه بعد الذي حصل
ما الرأي في المطلق الرهين
توشيح
العالم في سكره
لا يدرون ما يكون
أصل العشق نظرةْ
تجلب أمر ام جنون
والأسباب ام عيون
هذا هو النص الموسيقيّ لموشح (يا مالك الملك)، وقد دوّنته من باب التعرف على خلايا هذا العمل الموسيقيّ، ولأنّه من المعروف أنّ كثيرًا من الناس لا يجيدون التهجي الموسيقي، فقد تجنبت الاسترسال في التعمق في الخلايا الموسيقية، وسائل قد يسأل: ما دام الأمر على هذا النحو؛ فلماذا إذن كتابة هذا النص الموسيقيّ؟
وهنا أودّ الإشارة إلى أنني فعلت ذلك لسببين؛ سببٌ يتعلق بالتوثيق الموسيقيّ، وآخر يتعلق بمساعدة محترفي الموسيقى في التعرف على الخلايا الموسيقية لهذا اللحن. أرجو أن يكون هذا العرض التحليلي لهذا لموشح، أحد سبل التعرف على الخلايا الموسيقيّة الخاصة بالموشح اليمني.