كم نسمع من بين شعراء كُثر حال موتهم، أنّ شاعرًا ما من بينهم رثى نفسه! والحقيقة في خصوصيتها على عكس من ذلك بكثير، فإلى هذا المنحى، سار تعاطي الجمهور الثقافي في اليمن كمأخذ نمطي، مُستشفّين أنّها الرؤية القرائية والفعل المعنوي الضارب نحو التذكر، فبعد وفاة شاعر اليمن الكبير، عبدالعزيز المقالح، في نوفمبر 28/ 11/ 2022، تهافت البعض آخذين قصائد معينة لا تزيد حتى عن ثلاث قصائد من جملة دواوينه الشعرية التي تتجاوز الخمسة عشر ديوانًا، لعبة تعجل ولصق انتباه، لتشيرُ بغير دراية إلى أنّ الشاعر المقالح هنا في هذه القصائد نفسها إنّما كان يرثي ذاته، والحقيقة، قبل شاعرنا المقالح بكثير من العصور، هي أبعد من ذلك، فلا يوجد أي شاعر منذُ الوجود الأزلي، لم ينكتب في نصه، وليس بالضرورة هنا معنى "الانكتاب" هو لحظة حضور الذات الشاعرة في النص، أن يكون المعنى بوضوحه مؤكدًا للذات وحضورها بأناها واسمها ودلالتها، إنّما حتى كقول للنص لحظة انضمامه لعالم الورق، تكون ذات الشاعر من خلالها المنتهى والبدء في القصيدة، هذه هي مكرُمة الشعراء، قد لا يكون المتنبي أخصهم، ولا امرؤ القيس أو المعري، وإنّما جميعُ الشعراء منذُ القدم، والتعرض لهذه الفكرة هنا كبداية، سبيل دحر للنمطية، ودحر لأي ركونية تستثني إنجازات الشاعر المتعددة والمختلفة في حال وهي تكتفي بشكل نصّي واحد يكتفي معها الجمهور الفجائي، ويتطبعُ مع النص الواحد أو الرؤية الواحدة، منحذفين خلاله من اتباع الأثر في المنجز الشعري ككل.
فلنؤمن أولًا، في البداية، أن لا أحد يمكن في سياق وجوده أن يبكي الشاعر ويعبر عن ذاته مثل لغته، مثل ذاته كذلك، إنّهُ لا يكاد لمُعظم النقاد في حال تتبعوا إبداع الشعراء في مختلف عصورهم أن يستشفّوا في الرصد قصيدةً ينفردون بها عن كل أخواتها، ثم يصطلحون للصقها على أنّها الوحيدة التي تُمثّلُ رثاء الشاعر لنفسه، أقصدُ أيَّ شاعر. المهمة لا شك هنا ستكون صعبة وغير دقيقة أثناء انشغال الناقد بمعارفه وتلمُّسِهِ للسطح دون أن يتغلغل إلى الأعماق باحثًا مُدقّقًا، لا منفلتًا في العارض، ومدركًا أيضًا أهمية إيراد الفكرة بإيفاء مضمونها.
الشاعر المقالح في منتهى وجدانيته، ظلّ منسكب البكاء لكل ما يجرح مصدر وجوديتنا نحن والوطن، يتصدى لذلك، دون أن يلتفت لحساب الزمن، شاعرٌ صاحَبَتهُ آلام بلاده وإنسانها، فبما أنّ التاريخ هو عدة جراحات تحضرُ أوجاعها لحظة تكرر هذه الجراحات، فلقد عاش المقالح الدور الشعري بريادة تربّعت في دنيا الأدب اليمني لعقود، إنّهُ رجل مفصلي بحق، استطاع وهو يرثي بلادًا بحجم هذا الخراب، وبداخله أنين جراحاته وجراحات شعبه، استطاع أن يكون معنًى بأبعاده ومضامينه وضميرًا حيًّا، ومشيرًا إلى بلاده في شعره، لتحوز الدمعة حقًّا في وجدان القصيد لديه حُلة تموضعها كسِمة للنَّص، إنّ الدموع التي شرفها الشاعر المقالح بمعانيه، هي بحقّ دموعٌ مسموعة.
شاعر بفضل الحزن
من يقرأ أغلب -بل جميع- دواوين عبدالعزيز المقالح، أولها وآخرها، الدواوين التي طبعت في مراحل زمنية مختلفة من تاريخه هو وتاريخ هذه البلاد، يكاد ينطقُ أنّ هذا الشاعر الكبير بآلام وطنه، لم يتشافَ ولا في أيّ مرحلة زمنية من البكاء، وقد لا أبالغ القول، وأنا أتعرض للعُمر الشعري لشاعرنا المقالح خلال سيرة ومسيرة بكائياته ونضالاته الثورية، في أنّه لا يوجد شاعرٌ عربيّ معاصر أو قديم وصل إلى الحالة الوجدانية الشعرية والبكائية التي وصل إليها شاعرنا اليمني الكبير، والتي تَمثّلَها تجربةً وواقعًا وحسًّا وترجمها فعلًا في حياته وشعره، فهو يكاد ينفرد من بين كل الشعراء في اتكائه على البكائية فقط، وهذا ما لم يوله كخصوصية أيُّ شاعر من قبل، فعلى ذات التبويبات النوعية للشعر "الرثاء، المدح، الهجاء، الحماسة"، التي أدرج النقاد القدامى بحسب هذه الأنواع الأربعة، قصائدَ الشعراء في عصرهم، كلًّا في خانة على حِدة، نعتبر أنّ الباب الشعري الذي طرقه المقالح من بين كل هذه الأبواب هو باب الرثاء، ومن باب الرثاء طرق ثم ولج إلى البكائية، وسكن فيها لعقود حتى تُوفِّي، فالشاعر عندما يتحمّس، فإنّما يُهيج مدمع القصيدة، وعندما يهجو يبكي ذاته ووطنه والصداقة، أمّا عندما يمتدح فهو لا يقلب دمعته إلى الداخل، وعندما يكتب عن الحب فهو يرثي زمنه، ويشدنا نحو المستقبل.
في كتاب "أربعة شعراء من اليمن"، حوار لمؤلفه الصحفي إبراهيم المقحفي، نجد القول الأهم والفاصل الذي صرّح من خلاله المقالح بوجدانية صادقة أنّهُ شاعرٌ بفضل الحزن "إذا صح أنّني شاعر، فقد أصبحت كذلك بفضل الحزن... هذا النهر الشاحب الأصفر الذي رأيته واغتسلت في مياهه الراكدة منذ طفولتي"، يرجع المقالح سبب تكوينه الشعري إلى الحزن، والذي لا يعني هنا الحزن بالكلمة المثالية أو الحرفية، وإنّما ما يعنيه هو لحظة الإحساس التي ربت بداخله ذلك الإنسان المتوجع على وطنه وإنسانه، ولقد مثّل الحزنُ نواةَ تأقلمه مع الثورة ورجالاتها في تلك المرحلة، فالحزن هو أول قصائده التي كتبها راثيًا أخاه المتوفَّى، والحزن كذلك هو أول دواوينه التي جَمَّع شتات قصائده إلى داخله، بديوان يحملُ عنونة حزينة "دموع في الظلام"، وقد كانت أغلب القصائد لحظتها مكتوبة باسم مستعار.
من الصعب جدًّا أن نضع الشاعر المقالح إزاء تجربته أمام حالتين بوضع قطعي صارم، كان يمكن بفضلهما ألّا يكون بكائيًّا، أو فلنقل شاعرًا، إحداهما حدثت له في سن مبكرة، وهي موت شقيقه، التي استفزت الشاعر بداخله وجعلته يكتب قصيدته الأولى، أمّا الأخرى، وهي الغربة التي ظل فيها شاعرنا المقالح في القاهرة طالبًا لأزيد من عشرة أعوام حتى حصل على درجة الدكتوراة عام 1977م، من جامعة عين شمس.
مثّلت الغربة كتجربة شعرية دالة حنين الشاعر إلى بلده، وهي التجربة التي بفضلها اليوم نحن بصدد التعرض لشاعر من أهم الشعراء العرب الذي ظلّ عقودًا من الزمن يستقطع لنا من مخزونه الوجداني الكثيرَ من القصائد والدواوين الشعرية. إن حالتين أخريين أكثر قطعية سأوردهما، لو افترضنا أنّ الشاعر المقالح كان يمكنُ معهما أن ينقطع عن بكائياته وتتشافى لغته حسًا من ماء الدمع الكاثرُ في دواوينه؛ الأولى ألّا يكون شاعرًا، وهذا ما لم يحدث، والثانية أن يتعرض للموت في سن مبكرة، وهو ما لم يحدث أيضًا، فهاتان الحالتان صعبتان جدًّا، ندرك معهما أنّه من الصعب أن لا يكون الشاعر حزينًا، ومن الصعب جدًّا أن لا يكون للحزن الفضل الكثير في كتابة الشعر، وهو يمثّل صدق شاعرنا في القول بأن الحزن كان له الدور أو الفضل لتكوين وتشكّل الشاعر بداخله.
وهل يمكن ألّا يكون الشاعر بكائيًّا؟ هذا سؤال أيضًا، ومن بعيد الإجابة، يرد النفي، فتجريد الشاعر من أحاسيسه، يشبه تمثيله بكومة أحجار لا تفقه أي شيء! إنّ القول بالشاعر اللابكائي قول ينعدم من المعنى، فيه الصدق، ويكاد يعيب كلفظة جامدة جوهر الإنسان وشعوره بالحياة وكذلك شعوره بالناس من حوله. إنّ التعرّض للنتاج الإبداعي الشعري لدى تجربة أي شاعر، هو سبيل محاكاة الأثر في الوجدان المعيشي الذي تتجسّم فيه الدموع كولادة مرحلية وصُحبة اتصالها الوجداني النشط والأكثر وعيًا بالحياة، لم يختر المقالح -بقدر ما اختارت له الحياة- أوقاته ليبكي، وجدناه هكذا في دواوينه، قصيدة بكاء طويلة جدًّا، يتمرحل فاعلها الخيالي غير منخفضٍ أمام بؤس واقعية آمالها المبذورة في كينونة الشعر ونصه.
لا أقول بمزاج استعراضي وأنا أتحدث هنا عن واحدية وجدانية، هي "البكائية"، وقد وجدتها في جميع دواوينه من أول ديوان حتى آخر ديوان، لا أقول بواحديتها إطلاقها وهي قصيدة انسكاب طويلة، وليس كمن يقرأ قصيدة، أن ينطق ديوانًا، فالبكائية لديه تختلف نوعًا، بحيث يمكن أن نجد في شعره بكائية القرية، بكائية الأم، بكائية الأهل، بكائية الأصدقاء، بكائية المكان، وبكائية الحب والثورة، وبكائية الذات.
لا يوجد شيء في شعره لم يوجد في شعوره. فلكونه كُلِفَ بحمل همّ الرسالة الوجودية للشعر، وقد استطاع أن يكون علامةً فارقة، ورائدًا لا غبار عليه، وأبًا روحيًّا كدليل عدد من المبدعين اليمنيين الشباب من جيلَي التسعينيات والألفية، الذين توافدوا عليه بلهاث الطامح ليكتب لِمُؤلفاتهم مقدمات تصديرية، فقد كان عليه بما هو كل ذلك، ورمزًا وطنيًّا جمهوريًّا، أن ينفق حياته شعرًا، مهما خذلت دنياه الكلمة التي ظل يراهن عليها، ومهما أطاحوا بحالميته وحسه المرهف الذي وصل بشاعرنا عام 2018، لأن يشهر يأسه في قصيدته الشهيرة "أعلنت اليأس"، وهو، رغمًا عن حقيقة اليأس، ذلك الصوفي المتماسك، والشاعر الذي تجشّم عناء الوجود وحالة الاقتتال الحاصلة في الوطن، الشاعر الذي حمل مشقة الشعر وهمّ في زمن الحرب لتلقين الناس من حوله قصائد الحب، إنّها رسالة المتفرد، تلك الرسالة التي لن يحملها غيره، والتي مع ذلك كله، تبقى الرسالة التي من الصعب في معادلة الوجود أن يفلح شاعرٌ بتصديرها، خصوصًا في الزمن الذي لاقت فيه شفرات الذبح والرصاص من الحفاوة ما لم تلقَه القصيدة.
فبعد أكثر من عقد من الزمن، عاشه المقالح في القاهرة ومنذُ عودته تلك، لم تنفك جلدته الآدمية تلتصق بأي تراب آخر أو تبرح مكانًا غير صنعاء، تلك المدينة التي مثّلت مخزون كتاباته عن المكان والذي لم يتعرض له شاعرنا بوصفه "فيزيقيا"، وإنّما كحقيقية معيشية وكفضاء تعالق فيها نصّه وإنسانه.
إنّ حالة الشاعر الرثاء أو البكاء لم تكن لتظهر بتلك الإيرادات التي أصبحت سمة شعرية لدى أغلبية الشعراء سوى في انشدادهم التامّ وتعاملهم مع النصوص كمعطى وجداني يسترعي القضايا ويتفاعل معها إثر خلسة ونباهة، وهي ليست ناتجة أيضًا عن هزيمة في الحياة أو ضعف ثوري معلن، كما أنّها ليست حيلة ما فطن إليها الشاعر إلا ليسترسل ويقول من خلالها مجمل قصائده، بل إنّها واقعة شعورية. وكما هي البداية التي يذكرنا الشاعر المقالح فيها بمراحل تشكّل الشاعر الحزين بداخله ونضوجه نتيجة الألم، فمرحلة تقدم السن في شعره جعلته يقف متحدّيًا الشعر، لا لشيء بل ليكتبه محمولًا بأكثر من سؤال واعتمالٍ فكريّ، مقتربًا كشيخ وقور من الموت، مصطحبًا معه هواجس أقل كلفة، ولكنّها أكثر خيفة.
رداء الحضور الشعري
"في حضرة الغياب"، وفي "جداريته" يقف محمود درويش أمام الموت في مساءلة فجائعية وفي لحظة تأمل زمنها ما اكتسبه الشاعر العربي خلال تجربته من حيوات شعرية كثيرة كحامل موضوعي لهموم إنسانية ومصيرية تخص قضيته، استبق فيها درويش بذهنية شعرية مراثيه الكثيرة لنفسه، وقبل حتى أن ينطق بها أيّ شاعر مجايل ومريد له بعد موته، إنّها حالة الإدراك ووقفة النباهة حيال حتمية الموت التي فطن لها الشاعر الكبير محمود درويش، فمن العدمية في شعره إلى الغرائبية والكونية إلى الشعر الملحمي والذاتي، يصح أن نضع السؤال لدرويش: ثم ماذا بعد؟ لا شكّ سيقفُ درويش أمام نفسه المنكسرة، مناديًا في جداريته: "يا موت انتظر"، سيرة ملحمية شعرية مختلطة الفجائع والخيال والدراما، ويكفي هنا هذا الاقتباس لنشعر معه بوطأة الحياة الثقيلة جدًّا!
يساير المقالح هذه التجربة، وإن أفاد درويش من أبعاد فلسفية بحال مراثيه ومضمونها، فإنّ الشعر متمثّلًا وضوحه، فقد حلَّ موضع الفكرة المتوترة لدى المقالح شفافية خطابه الشعري الأكثر تمثّلًا لواقعه المعاش في النصّ الرثائي، فالمقالح الضاغط على لغته، إنّما ينوي بها كشف المعنى الظاهر وإجازة هموم وآلام ذاته وإنسان وطنه، فأمام المتلقي حتى وإن عجل الإيقاع في أغلب نصوص شاعرنا المقالح مبتغى الوقوف لفحص الانثيالات الوجدانية والدراية لكم المعالجات والوقفات الشعرية، فإنّهُ لا يخفى على المتلقي تلمس معاني انتحاباته في القصائد ويسر الوصول لمعانيه القصدية بعيدًا عن الحُجب، إنّ قصائد رثاء الذات لدى شاعرنا هدفها شد الناس إلى الحياة، أو دون ذلك التطلع إلى أسمى غاية حتمية الموت.
في العام 2018م، نشر المقالح قصيدته "أعلنت اليأس"، القصيدة التي ضج أوان نشرها الكثير من النقاد ومريدي الشاعر المقالح، ظنًّا منهم أنّها قول لمعنى عنونة القصيدة، دون ولوج إلى النص أو تفحص لمكنوناته وللمعاني الكامنة بداخله ومرادها، وهي قد تكون صادمة لأنّها بمثابة إعلان فوري في مرحلة تاريخية مأزومة من قبل شاعر آتٍ من منعطف ثوري محمولًا بصوفيته المتطلعة وبقصائد الحب والحض على الثورة والأمل، يقول فيها:
"حاولت ألّا أرتدي
يأسي
وأبدو مطمئنًا
بين أعدائي وصحبي
لكنني لما رحلت إلى دواخلهم
عرفتُ بأنهم مثلي
وأن اليأس ينهشُ
كلّ قلبِ
أعلنتُ يأسي للجميع
وقلتُ إنّي لن أخبي.
هذا زمان للتعاسةِ
والكآبة.
لم يترك الشيطانُ فيه
مساحة للضوء
أو وقتًا لتذكار المحبةِ
والصبابة
أيامهُ مغبرّةٌ
وسماؤَه مغبرّة
ورياحهُ السوداء
تعصفُ بالرؤوس العاليات
وتزدري التاريخ
تهزأ بالكتابة".
من يتلقف بدراية أبيات هذه القصيدة كاملة دون أي انسدادات تصدم المتلقي وتوقفه عند سطر دون غيره، يستشفّ رؤية عالية الفهم بالنسبة للشاعر من واقعه، واليأس هنا تاريخٌ، ليس ناجمًا عن علّة ذاتية، أو محاطًا بإطار ميتافيزيقي أو ثوري بالمعنى المثالي للكلمة، هذا اليأس حقيقة ناتجة عن صُنع آلة الشر أو " الشيطان" بحسب لفظ شاعرنا المقالح أعلاه، واليأس في القصيدة الإعلان منه يأتي بمثابة هجاء كلي، للعدو وللصديق وللذات، للمكان وللزمان، فمحاولة تخلص شاعرنا من اليأس العمومي غير مجدية: "لكنني لما رحلت إلى دواخلهم/ عرفتُ بأنهم مثلي/ وأن اليأس ينهشُ/ كل قلب/ أعلنتُ يأسي للجميع/ وقلتُ إني لن أخبي".
فلنأتِ إلى أهم ثلاثة شعراء عرب معاصرين استبقوا لأنفسهم كتابة مراثٍ عديدة، بين الثلاثة يتواجدُ اسم الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور الذي لُقِّب بـ"شاعر الحزن"، والذي كان قد رفض هذا اللقب، ملصقًا بجرحه وصفًا آخر رآه الأكثر مناسبة وهو "شاعر الألم"، هذا الشاعر صديق شاعرنا اليمني عبدالعزيز المقالح، ولا يستبعد أن شاعرنا المقالح تأثر به وجدانًا وفكرًا، وقد تعرض إليه الشاعر المقالح في كتابه "الشعر بين الرؤيا والتشكيل" الصادر عن دار بيروت 1981 بقراءتين؛ الأولى محاكاة لمؤلفه "حياتي في الشعر" 1969، فيما الثانية جاءت معنونة "عن الفارق بين الشاعر المتألم والشاعر الحزين"، إنّ "صلاح عبدالصبور" الذي اعتبر الحزن درجة ليس إلا ورفض توصيفه بالشاعر الحزين، مصرحًا أنّه شاعر متألم، تأتي نتيجة ذلك أنّه يقف كمثقف ملتزم في الصف الأول إلى جانب الكادحين والمسحوقين، وكوثبة ذات ومسؤولية تطمئن ضميرها الشعري، غير منفصل عن ضمير أمته الجمعي، ففي رثائه لذاته، سيوقظ الشاعر الأول، صلاح عبدالصبور ألمه المقهور ألف مرة في زمنه، وسيصدم محمود درويش، الشاعر الثاني، في الرثاء إحساسنا بزمن الفاجعة والغرابة المليء بالتناقض والزيف، ولكن المقالح، الشاعر الثالث، فسيتمثل الحزن في إطارٍ عمومي كمنشأ لتصدير حال الذات في أبعادها الصوفية، مرتجعًا سيره الشعري كمخزون في الماضي القريب والبعيد، مقهورًا من الزمن الحالي، ومن الحرب، يقوده حنين فقده إلى أمه وأخيه، إلى الأصدقاء، وكل من سبقوه في رحيله، إلى درويش وعبدالصبور أيضًا، الشاعرَين اللذين رثيَا نفسيهما قبل وفاتهما، ونحا هو مثلهم.
الشيخ الثمانينيّ الوقور
نلج من هذه المقاربة في فعلها التأثيري، إلى تمرحلات التجربة الشعرية الوجدانية في الشعر الرثائي والتي هي كفيلة لأن تقذف بالشاعر ليتصالح مع الموت، فيما هي مدعاة أيضًا ليتعرض الشاعر خلالها في مادة نصه للانكتاب، الذي هو رثاء النفس، والشكل الذي يُطري فيه البوح الشعري للذات المفردة سكن دموعها والانغماس في هموم الآخرين، قد تكون متصلة بكون وفضاء شعرها، وقد لا تكون، فالكاتب مع وعيه بما تصارحا به هما شكل القصيدة التي يُمكن أن تتجسد في مساحة من جغرافيتها وتترامى المعاني. يتصالح الشاعر عبدالعزيز المقالح في كثير من قصائده مع الموت، ليجملَ في سكن قصيدته رؤيتَه الفاسحة للموت. تسكن قصيدة المقالح في عينه، وهو لذلك، وقد دفعت به اشتغالات بوحه لأن يكتب بكائياته، سيُشاهِد كشيخ ثمانينيّ، في القبر فسحةً هي أوسع ممّا في هذه الأرض، كما يرد ذلك في قصيدة "بكائية"، 2016:
"دثريني فإنّي أرى القبر
أوسع من هذه الأرض
أوسع من بحرها
وأرى فيه شمسًا
أحنّ وأرأف من هذه الشمس
أشهدُ فيه نجومًا ملوّنة
وملائكة في الفضاء المديد
تصلي
وتغسل بعض ذنوب البشر".
فوجود الشاعر المتأمل بصوفية عذبة وشجية في زمن الموت والحرب، وفي ظل الهزأ بالشاعر وبشعره، هو وليد الصلة أيضًا لأن يحمل الشاعر مشقة الحضور في دفع الشعر من واجهة الموت إلى واجهة الحياة، وهي مشقة متحذلقة في القصيدة التي لا تحمل بداخلها فورة الإحساس الصادق، فعندما لا يكون أي معنى للوجود أو أي حس، ثم نتيجةً للحرب، يتم تعمية الشعب عن القول الشعري، ما يعدُّ بأمر صارخ إشهارًا أوليًّا للموت البطيء المليء بالعذابات في لغة الشاعر البكاء، إنّها مهمة فارقة يصعب معها في الحضور الشعري أيّ انبجاس لأي أمل، فالكلمة في زمن الموت ليست إلا بكاء، وهو ما ذهب إلى تعريفه بصدق شاعرنا المقالح في قصيدته "بكائية" 2016م، دالًّا فيها على طول تجربته الشعرية:
"وما كتبته يدي ليس إلّا صدى شجنٍ حارقٍ وبكاءٍ من الكلمات".
يظهر المقالح في قصائده الأخيرة مكسورًا، يتخلى عن العالم، كله، باحثًا عن الموت، ويستجديه، كأنّما هو مؤنسه من الحياة الصعبة ومنقذه من علل الوجود، يقدم كلمته قبل موته، يقولها فتقع على جنباتها المعاني التي تُعمد بِرُعافٍ حسيّ طويل حقيقة الألم:
"دثّرِيني
وشدِّي على كفني
ودعي فتحةً فيه
أرقب منها
رفيف الفراشات
أسمع صوتَ المياه التي تتحدر
-في ضحوةٍ- من أعالي الجبال
وأشعر في لحظةٍ
أنّ شيئًا جميلًا
سأفقده حين أطوي
بساط الحياة.
* * *
دثّريني
فإنّي سئمت الوقوف
بمنعطفٍ لم يعد آمنًا
والصعود إلى جبلٍ
لم يعد عاصمًا
وسئمت الرفاق الذين
بأوهامهم خذلوني
وباعوا خطابَ المودةِ
للريح
في زمن العاصفةْ.
* * *
دثّريني
وشدِّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحدٌ من ضحايا الحروب
التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدَؤُوها:
الحروبُ إذا دخلت قريةً
أكلتْ أهلها الطيبين
ولم تُبْقِ من حجرٍ واقفٍ
أو شجرْ.
* * *
دثريني
وقولي لأهلي
وأصحابي الطيبين
لقد كان مثل بقية أهل
البلاد
ومثل بقية كل العباد
يحب الجمال
ويأسره صوت شبَّابةٍ
يُتَصبّاهُ
يهوى أغاني الرعاةْ.
* * *
دثّريني
وقولي لأعدائي البسلا
إنه لم يعد يتذكرهم
يتذكر أسماءهم
يتذكر ليل عداوتهم
وسواد افتراءاتهم
وهو من هول ما يحدث الآن
ما يفعل الأهل بالأهل
في حيرةٍ مُرَّةٍ
وذهولٍ عظيمْ".
الذات الشاعرة هنا لا تستغلق نفسها ولا تحاصر معانيها، في حال أنّها أيضًا لا تستغلق الأهل وتخصهم في فضاءات التذكر، فتمتد إلى الأصدقاء، وتبكي الوطن، تبكي كلَّ الموجودات التي أدخلتها وجدانية المقالح عالية الحساسية في النّص، وهي أيضًا تقف بين ذلك، بفك عقدة الكل، لتصب دمعتها الخاصة.
إنّ الشاعرَ المقالح في مجمل قصائده، لا عراك له مع خصوصيته، وربّما لا مباشرة، ففي حال وهو ينزع نحو العام، بما فيه من رؤية عيانية ومفاهيمية بمحمولات وطنية وإنسانية ذات دلالات كبرى، فإنّ النصوص الشعريّة في قصائده، جُزءٌ من مخاضها يتشكّل ضمن إطاره المرجعي، ووَفقَ هذا المعيش المحكوم بمجاله العمومي.
فالشعر الرثائي قبل أن تحصل ولادته، هو إقامة حقيقية في ذات الشاعر، إنّها إقامة من الكلمات يمكن تشبيهها بجناحي طائر، الذي بفقد أحدهما لا يمكن أن يطير الشاعر المقالح للنّاس بدونهما، الجناح الأول يتمثّل بالبكاء الذاتي، أمّا الجناح الآخر فيتمثّل بالبكاء العمومي، فهذان الجناحان هما مَن شكّلا في بكائيات المقالح شكل طائره الحزين.
لا يوجد شاعر خاص أو آخر عمومي، إنّما يوجد شاعر يخص نفسه وآخر يعمها، والمقالح من النوع الأول الذي خص في شعره ذاته، ومراده هنا شيء من الحفاظ على ذاته دون أيّ إغراق، وهذه الجزئية هي امتداد تاريخي دأب على رسمه جيل الشعراء الكبار كالمتنبي والمعري ومالك ابن الريب، فالذي يعم نفسه نقصده في حالة غير سليمة يتغنّى بذاته ويجعلها تجري مجرى الوعظية، وهذا ما لم يحدث في ذات المقالح التي تبوح بآمالها أمام عراقيل الحياة بتحدٍ واضح في ذات ملتهبة داخل معادلها الوجودي.
ختامًا، من يقرأ متفحصًا مجمل أشعار المقالح عبر عدد من دواوينه الشعرية المواكبة، والمختلفة شكلًا ومضمونًا، بالأخص الدواوين الأخيرة التي حمل إصدارها المعنون مسمى "كتاب" شعري، سيذهب من خلال وقفة نقدية ملفتة إلى استنتاج رأي ملحوظ عن تجربة الشاعر أثناء كتابة ما يمكن تسميتهُ بالقصيدة الطويلة المقسمة إلى أجزاء، والتي غالبًا ما يتم جمعها في حجم كتاب واحد في مضمونه وشكله التجديدي بالغ الهدف. مفاد هذا الرأي الاستنتاجي أنّ الهدف الفنّي عند كتابة القصيدة في شعر المقالح هي سليل خطواته التجديدية التي نزعت إلى تكوين رأي بمأخذ مضامينه المتعددة الأبعاد، يُضاف إلى ذلك فيما يُحسبُ لها، أنّها أضفت طابعًا فنيًّا خاصًّا على الشعر كفعل لا تملأ اللحظة الشعورية فيه مخرجات العمل بفورية، وإنّما بأناة وإحاطة. ففي الفضاء الخارجي، لا يكاد الشاعر المُحمل بلحظة تدفّق شعورية عندما لا ينكتب أمامه "النص الفوري"، أن يحفظ في ذهنه بداية الخيال الأولي التي شكّلت على إثره القصيدة، كما أنّه لا يستطيع أن يدخر إلى كَمِّه الذهني أيًّا من الاعتمالات النفسية التي تنضاف في داخله لتولد القصيدة على ذات التوهج مرة أخرى مُلبية سياق النص، لا، إنّ كتابة القصيدة لدى المقالح بما هي كتبه الأخيرة تدل على حالة الاشتغال المستمرة على الكتابة إلى حين إنجاز كتاب واحد يحوي بداخله قصائد مترتبة لا تنفلت أيٌّ منها من خط مضمونها، وهي خدمة طوّعها الشاعر لشأن خصوصية الكتاب الشعري ذاته، يتجاوب المقالح مع ذلك وَفقَ رؤى الشعر العالمي التي دأب فيها عدة شعراء عالميون لا يبرحون مُطوعين قصائدهم لغرض خدمة محتواها الشعري وأبعادها الثقافية، هذا ما تدلُّ عليه إصداراته التي عنونها بـ"كتاب": (كتاب صنعاء 1999، كتاب القرية 2000، كتاب الأصدقاء 2002، كتاب المدن 2005).