ذاكرة الشعر أبجدية الصداقة، هي باختصار سفر إبداعي ينجزه عبدالعزيز المقالح من بداية علاقته بالشعر، وهو ذاته زمن صداقاته المبكرة على طريق التأسيس التكويني لمعنى أبجدية الإنسان، وهي أبجدية لا متنامية على طرق عمارة الصداقة... ارتياد صعب في درب صيرورة القصيدة المتعبة التي تبحث عن نفسها، أو عن أفقها الإنساني، تقود الشاعر إلى حتفه أو خرابه الجميل -حسب تعبير "أدونيس"- فيه يحاول المقالح اختراق النص الصوفي في صورة وحدة الشهود، ووحدة الوجود، محاولة لمقاومة الواقع الفاسد عبر الفناء في الروح، (القيم الكلية)، الفناء والتوحد في الآخر، ذلك أن لا وجود للأنا إلَّا بوجود الآخر، الآخر الصديق.
نصوصه تبحث في الضياع والفراغ وفي الجمال عن معنى الصداقة، مستأنسة بإشراقات الروح في الذات وفي الآخر.
يبحث عن الإبداعي داخل النفس، داخل ذات روح الصديق.
هي أبجدية تبحث عن الإنسان، (الذات/الصديق).
وليست انسحابًا من "الحفر على الجدار" التي أطلقها في باكورة الرحلة "سنظل نحفر في الجدار"، بل مواصلة لذلك الحفر بالكتابة، بالشعر، وهو كما تقول د.يمنى العيد: "مسؤولية إنطاق الصامت اليمني وخلق تعبيره ولغته، يحاول تحويل المحسوس إلى قول، والمعيشي إلى كتابة"(1)، لأنه لم يكن مهجوسًا بالحداثة الشكلانية، في محاولة للحاق بصيحات الموضة الفنية والجمالية واللغوية، كما هو عند البعض، بل هي حركة إبداعية، وعملية فنية جمالية/ شعرية/ إنسانية تقوم على الحوار المعرفي، والثقافي المفتوح مع إشكالات الواقع المعقدة، ومع اعتمالات الروح الصافية الموصلة إلى نور الإبداع، حتى وإن كان المدى الواقعي لتحقق ذلك محاصرًا بضغوطات الواقع السياسي، كما يتكشف لنا في نص المقالح الشعري من خلال رحيله الدائم إلى داخل الروح، إلى الله، وإلى داخل ذاكرة الشعر، والصداقة، لاستنطاق الجمالي والبحث عن الإنساني فيه، أي محاولة الكشف عن الظاهر بالعودة للباطن، بالعودة إلى داخل الروح، وإلى الله.
مدد، مدد، مدد
غيرك في الوجود لا أحد
الأزل القديم أنت والأبد
يا سيد الزمان
والمكان
لا شريك، لا ولد
أنت الجمال والكمال
والسلام
والصمد
مدد، مدد، مدد
حين تضيق الروح في الجسد
وينهض العدو من عباءة الحبيب
ناشرًا صحائف الحسد
تنهدم القباب في ندى الروح
وتعتري الحياة رعشة
وظلمة من الكمد،
ومثلما تنكسر المياه في النهر
وتطرح الزبد
و لا أحد(2).
هي ابتهالات داخلية/ ذاتية لخلق حالة من التعايش بين الجسدي والروحي، بين الداخلي والخارجي في ذات الشاعر.
أبجدية الروح/ الديوان، والنص، وكل ما تلا ذلك من إبداع شعري، هو صعود في التشكيل نحو اختزال فضاء الجسد في مفردات قاع الروح الطالعة باتجاه شمس معرفة النفس، معرفة الله أكثر، وتصفية لدراما الهيئة الحسية للصورة الشعرية ممّا يغايرها عبر حوار داخلي، استعاضة عن صعوبة أو قهرية حوار الصمت/ القمع الخارجي الذي يكون ثمنه اغتيال الروح، ومقايضة العقل والشعر بالرصاصة، وكأن أبجدية الشعر/ الروح، نص واحد مفتوح يتناسل تقدمًا وإبداعًا في جلّ ما يقوله شعرًا، أبجدية وذاكرة شعرية حاضرة أبدًا تغتلي في مرجل المواجهة مع باطل الجسد (السلطة) الساقط نحو الهاوية التي لا خلاص منها إلَّا بتوق الروح المشتعلة حبًّا في قاع نفس الشاعر، وهي اللحظة التي يرمم بها الشاعر ما يتساقط من سقف العمر، وتعب العيش، وعبث الصداقات وانهيارات معاني الكلم، حين تتجه أو تتوحد بطوفان الجسدي والأرضي في معناه الزائد عن الحاجة.
فالصداقة والوفاء لها شيء أصيل في تكوين المقالح الذاتي، ومراراتها قاسية عليه، وهو ما يتسرب في العديد من قصائده في دواوينه المختلفة. يكفي أنه جعل من الصداقة عنوانًا لأحد دواوينه الشعرية (كتاب الأصدقاء).
ذاكرة الصداقة لديه ممتلئة بالحب، ولذلك تقوده بوصلة الصداقة للوفاء لكلّ من حوله، وليس لمن يحب حصرًا.
إنّ أبجدية الصداقة، عند المقالح مشتقة من أبجدية الروح، من ذاتيته الشعرية، والسلوكية، وهي ذاتها أبجدية الإنسان، وليست نصًّا أو ديوانًا، بل مشروعًا إبداعيًّا مفتوحًا في عقل المقالح الإنسان؛ هي ذاكرة الشعر، أبجدية الإنسان، التي تجدها حاضرة في أخص خصوصياته، ماثلة في الشعر والسلوك الشعري اليومي له، وفي جل تصرفاته الاعتيادية، (متسقًا مع نفسه)، وتتجلى أعمق في صداقاته –كما ألمحنا- التي تبدأ من ينبوع الصداقة الأول –حسب تعبيره- في صورة المتنبي الصديق إلى المعري، إلى النفري، عبدالله البردّوني، سليمان العيسى، أدونيس، صلاح عبدالصبور، إلى الزبيري، يمنى العيد، عز الدين إسماعيل، محمود درويش، أمل دنقل، قاسم حداد، جابر عصفور، عبده عثمان، عبدالودود سيف، محمد عبدالسلام منصور، عبدالكريم الرازحي، حسن اللوزي... إلخ(3).
وهي جميعًا محاولة للاحتماء بالصديق الإنسان، محاولة للاحتماء بالأنا الذاتية/ الإنسانية، وما يوافقها لتتويج كرنفال تيجان الروح في طقوسها الخالدة.
ولعشقه للصداقة والوفاء، ومحبته للأصدقاء، أفرد ديوانًا/ كتابًا كله للأصدقاء فيه الكثير من المحبة، والقليل من العتب.
في قصيدة بعنوان: "إلى أصدقائي الذين رحلوا عام 1997م"، يقول:
فاتحة:
يرحلون..
وتبقى روائحهم
ومواقفهم حية
ومعلقة في فضاء القلوب
في الشروق تراهم إذا شعشع الضوء
تلمح أحزانهم في جدار الغروب
بعضهم يترحل في أول العمر
والآخرون يضيئون بالعمر حتى يذوب(4).
وفي قصيدة بعنوان: "عندما تنكسر شمس الصداقة"
يقول، وكأنه يرثي بعض صداقاته:
للصديق الذي باعني، أنحني مشفقًا
خاشع القلب أقرأ في وجهه أمسنا
واخضرار طفولة أيامنا
يا أعز الرفاق
لماذا يصير الندى حنظلًا
والشفاه جراحًا
لماذا تصير اللآلِئ محارْ؟
كنت في زمن غير هذا
القبيح التجاعيد
تدخل كالضوء للقلب
لا تتسلل
تدخل مثل الهوى(5).
وفي قصيدة مهداة إلى الصديق، التي كانت بعنوان "أغنية للرماد"، يقول فيها:
قبل أن ترفع الخنجر المتوغل
في الظهر
دعني أراك
فإن دمي حين عانقه
شم في نصله مقطعًا منك
أدرك إيماءة للعناق القديم
وأدرك آثار رائحة للصداقة(6).
وهكذا، هو في جميع صداقاته، سِفر ذاتي إنساني لمعنى الوفاء، للأصدقاء وللصداقة، وعتب على خذلان بعض تلك الصداقات، وستجد عنوان الصداقة حاضرًا في العديد من دواوينه، حتى آخر قصائده.
الجديد في معظم قصائد دواوينه، ومنها ما نقرؤه اليوم -في بعض وسائط التواصل الاجتماعي- هو تلك المصادمات الخلاقة والمبدعة بين الأنا والآخر، الحياة والموت، الروح والجسد، الأرضيّ والسماوي، حيث لا تدرك ولا تصبح معروفة ومفهومة جملة هذه الثنائيات، إلَّا عبر اتحادها بالأنا الشاعرة، بالآخر، وكأنّ الآخر –وهو كذلك- جزءٌ أصيل من الأنا في تصور عبدالعزيز المقالح الشاعر، تحديدًا عندما يصبح الآخر الصديق، والغريب، القريب، والبعيد، مشوهًا ومزيفًا ومدمرًا للآخر ولنفسه، ولا يتحقق الخلاص من الجسد، هيئته وشكله، إلَّا بتعالي الروح على صور الانحدارات الأرضية.
إنّ مفهوم الموت يقترب عنده من مفاهيم الموت الفلسفية والوجودية الخالدة، فهو موقف روحي فلسفي يتخطى عقبة وعتبة الموت المادية/ الفيزيقية، كإشكالية في الوعي والنفس، بعد أن صار الموت في رؤية المقالح محاولة لصقل أو لزرع واستنبات روح المقاومة لإشكالية الموت، وهو المقدمة الأولى للحياة تجاوزًا للموت "الفيزيقي"، وهو كذلك المعادل الموضوعي للحياة، بالتعالي الرمزي/ المعنوي لقوة الروح على الموت، وهو ما يعيشه حياتيًّا ووجوديًّا المقالح اليوم، في رحلته مع التعب والمرض، الإنهاك الجسدي الذي رغم قسوته على نفسه، لم يطل الروح في داخله، ومن هنا تواصله الشعري والنثري الذي لم يتوقف حتى وهو يعاني ذروة منتهى الألم والوجع، حتى وهو في قمة التعب ما يزال سؤاله عن الأصدقاء حاضرًا.
الهوامش:
1- من مقدمة أعماله الكاملة، الجزء الأول، ص15.
2- أغنية للروح/ ديوان أبجدية الروح، الأعمال الكاملة الجزء الثاني، ص286.
3- انظر: ديوان الأصدقاء؛ الأعمال الكاملة، الجزء الأول.
4- الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ص152، من ديوان "بلقيس وقصائد لمياه الأحزان".
5- الأعمال الكاملة، الجزء الثاني من ديوان أوراق الجسد العائد من الموت، ص449-450.
6- الأعمال الكاملة، الجزء الثاني من ديوان "أوراق الجسد العائد من الموت"، ص447.