"إنّ ما ندعوه وردة، يبقى وردة وإن أطلقنا عليه اسمًا آخر" (شكسبير).
وإن ذبلت الوردة وإن ماتت وسحقت بالمنجنيق، والمجنزرات والكاتيوشا وصواريخ سكود وغرّاد والقنابل العنقودية، وحتى إذا امتدّ الأمر إلى القنبلة الذرية، سيظل عرفها في الذاكرة إن غابت عن الوجود، إنّ هذا التوصيف الذي قصدت به الشاعر الرائد عبدالعزيز المقالح، أجده يليق بمسيرة حياته الشامخة، فقد مرّ على ظهر هذه الأرض رجالٌ يشبهون شاعرنا في النبل والعبقرية والإبداع، لم تستطع الدهور محو آثارهم ولم تستطع السيوف قطع رقابهم، كما لم تستطع النيران التهام أحلامهم، فظلّت الأجيال تُسبّح بحبّهم وتبحر في بحار أحلامهم، مهما تقلّبت المنعطفات وكرّت بمائها السيول والغيول والأنهار. عطاء المقالح الغزير ما يزال مترعًا بالضوء والحنين إلى الإنسان في كل مكان، وما يجب علينا سوى قراءة هذا المعطى وتقديمه للأجيال، ولعلنا في مقطع واحد من إبداعه نستطيع أن نعرف من هو المقالح، وإلى أين ينتمي، وماذا يريد؛ يقول في تحية لأطفال الحجارة في فلسطين:
"وقوفًا: يقول التراب
وقوفًا: تقول الحجارة،
طعمُ الحياة لذيذ كطعم الممات
دفاعًا عن الأرض،
أين تولون أدباركم؟!
ساعة الدم دقت
وطفل يسمونه العدل
طفل يسمونه الغد
ينمو،
على شجر الدم تمتد أذرعه
وتصيرُ له عضلات من الصخر
ها هو ذا قادم
كلما ارتفعت في الميادين مشنقة زاد عُنفًا
وتخضر أحلامه في الزنازن
لا تفرحوا
إنّ موت المناضل نصر له".
هكذا هو يرحل بعد الثورات أينما وجدت، وكأنه يتفق مع تشي جيفارا الذي ظل يلاحق الثورات في بقاع كثيرة من الأرض مردّدًا: "حيثما ثمّة ظلم، هناك وطني".
لم تشهد اليمن نهضة ثقافية طوال التاريخ، بحجم ما شهدته منذ تخرج الشاعر الدكتور الكبير عبدالعزيز المقالح من جامعة عين شمس، في قاهرة المعز، ووصوله إلى اليمن في أواخر ديسمبر 1977م؛ فقد ألقى بظلاله على كل شيء في هذا البلد المنكوب بإرث متراكم من القمع والظلام والفقر والجهل. أفكر بصباح يوم غد كيف سأصحو غدًا على بلد غادره وجه المقالح البهي إلى الأبد؟ كيف ستصحو صنعاء التي أحبها، وكيف سيتمحل أصدقاؤه ورفاقه غياب كل هذا الحضور الكبير؟ حزني عليهم كيف سيوارون جثمانه الندي مثل شجرة بُن عتيقة، حزني على نوافذ جبال: غيمان وعيبان وشمسان وصبر، حزني على الواجهات التي تتدمشق فوق رفوفها الأحزمة والزخارف البيضاء، حزني على الكتب التي طالعها من عشرات السنين، والرفوف التي وقعت أصابعه الثمينة عليها، حزني على الشعر والكلمات العربية الفصيحة، وعلى جغرافيا الوطن العربي الكبير واليمن الكسير التي على شحوبها، أنجبت شاعرًا راح يشدو بمعية محمود درويش وأدونيس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي والسياب ونزار ونازك الملائكة والبياتي، شاعر تمتد جذوره إلى امرئ القيس ووضاح اليمن وعمارة اليمني.
عقود طويلة مرت منذ عرفت المقالح، ولا أخفي على أحد أنّ أول ما أسرَني فيه تواضعه الحصيف وأخلاقه الآسرة وانسجامه مع نفسه ومواطنيه. سلمته في بداية التسعينيات قصة كتبتها، ففوجئت بها بعد أيام قلائل منشورة على صفحته في صحيفة 26 سبتمبر، كانت قصة رمزية تتحدث عن تحقيق الوحدة اليمنية، وقد عنونتها بـ"الشارع اللعين"، ثم توالت بعد ذلك لقاءاتنا. كان يومها يستخدم إحدى غرف مركز الدراسات والبحوث في استقبال ضيوفه بعد ظهر كل يوم ثلاثاء تقريبًا، وكان ضيوفه من اليمن ومن خارجها من مصر والعراق ولبنان والسعودية وسوريا والمغرب ومن دول عالمية أخرى؛ كان في كلِّ مقيل يفتح قضية للنقاش ويعمل على إشراك الجميع، فلا بُدّ أن يتعلم الجميع أهمية تنظيم الحوار، وأهمية الإيجاز والمناقشة الفاعلة. وحين أصدرت حكومة البلد قرارًا يمنع المقيل في المؤسسات الحكومية، كان هو أول من تمثّل القرار وسار على نهجه.
وقد كان هذا ديدنه، في تشجيع المواهب -أقصد- وإعطائها ما تستحق من العناية، ولشدة ملازمتي له بعد ذلك لم ألمحه يتقاعس عن استقبال موهبةٍ ما، لقد كان مفرطًا في حبّ الناس، وقد سألته في إحدى الأيام عن سرَّ رحابة صدره، فأجابني بأنّه لا يستطيع أن يتمالك نفسه أمام إنسان يحبّ الشعر والكتابة، وأضاف: "إنّ من يحبّون الشعر قليلون في بلادنا، وإنّ من واجبي الترحيب بهم، لأنّ من لا يجد الترحاب هنا سيجده في مكان آخر"، فقد كان يرى أنّ الكثير من الشباب يذهبون دون دراية منهم إلى أحضان القبيلة والتنظيمات المدججة بالسلاح، أو إلى أصحاب "المشاريع الصغيرة"، وأخبرني بأنّ الاهتمام بالقصيدة أفضل من الاهتمام بالرصاصة. وقد كان يعتبر الإنسان أهمّ ثروة على وجه الأرض، وأنّنا نرتكب حماقة حين لا نهتم بالإنسان في سياقه الإنساني أو حين نتخذ من الشبان مادة للصراع، فمن يأتي إلينا علينا أن نحافظ عليه، فإن لم يكن شاعرًا أصبح مثقفًا من نوع خاص، ولطالما كان يعبر عن ذلك في شعره:
"حزين أنا.. والنهار
وشباك نافذتي.. والجدار
وصورتها.. يوشك الحزن يذبح قلب الإطار
كتابي حزين.. وهذا القلم
وعصفورة خلف بابي تنثّ الألم
وأشجار حارتنا والكلاب حزينة
ووجه المدينة
وفي الأفق غيمةُ حزنٍ ترش الفضاء
تعد مشانقها للنجوم
تنقر وجه الضياء
نهارًا -يقولون- ولكنه كالمساء".
في تلك المرحلة كان شاعرنا الكبير يعمل بالتنسيق مع بعض الكتّاب لإصدار مجلة "أصوات"، الذين على رأسهم: الشاعر محمد حسين هيثم، الذي رأس تحرير أعدادها الأولى، والأديب خالد الرويشان، الذي أعقبه برئاسة التحرير، وكانت المجلة تهتم بالكثير من القضايا الأدبية والفكرية، ولعل أهم ما كان يشغلها، الاهتمامُ بالشعر "الأجد"، وهذا المصطلح هو المصطلح الذي أطلقه شاعرنا الكبير على قصيدة النثر، وهي القصيدة التي انتشرت في تلك الآونة، لتجد لها قَبولًا في أدبيات المقالح وصفحاته التي فتحت أبوابها على أشدّها، وله في كلِّ ما يكتب رأي، فكم أشرف على رسائل علمية في الجامعة، وكم كتب من المقدمات والدراسات والقراءات التي أثلجت الصدور وحفزت العقول.
ألفت الأنظار هنا إلى كتاب "البدايات الجنوبية" التي استعرض فيه تجارب شعراء يمنيين شبّان، صاروا مع الوقت عناوين بارزة في المشهد الشعري والعربي، منهم: محمد حسين هيثم، وشوقي شفيق، وعبدالرحمن إبراهيم، وصبري الحيقي، وعلي الحضرمي، وغيرهم.
أتذكّر أنّه في إحدى المقابلات التي أجريت معه، قال بأنّه قد نذر نفسه للتعريف بالأدب اليمني، وأنّه لولا هذا الهمّ الذي يقضّ مضجعه لكان قد تفرغ للشعر فقط، وفي نبرة تواضع منه، قال: "ولَكانت موهبتي الشعرية أكثر إجادة ممّا هي عليه الآن". لم يكتفِ شاعرنا بذلك، وإنّما سعى إلى نشاط ثقافي ونقدي غير مسبوق في اليمن، وتحوّل بمفرده إلى مؤسسة عملاقة تتفرّع منها عديدٌ من المؤسسات، فبالإضافة إلى تقريضه للشعر، عمل رئيسًا لجامعة صنعاء، واستثمر وجوده في المنصب لإحداث ثورة هائلة في التعليم، وظل نصب عينيه إنشاء يمن جديد، بكل ما تعني هذه الكلمة من دلالة، فاعتمد على خيرة أكاديميّي الوطن العربي وجامعاته، ومكّنهم من قاعات المحاضرات في جامعة صنعاء، وبقية الجامعات اليمنية والكليات. شبّهه الدكتور والناقد المصري جابر عصفور، بطه حسين في مصر، من حيث إنّه أشاع التعليم وسهّل وصوله إلى الإنسان البسيط، ولن أنسى أبدًا أنّني تتلمذت في الجامعة -بفضل جهود المقالح- على يد الدكتور كمال أبو ديب -مثلًا- وحسام الخطيب، الذي تُوفِّيَ قبل أيام، وعبدالملك مرتاض، وفهد عكام، وفايز الداية، ومحمد سعيد إسبر، وملكة أبيض...، وغيري تتلمذَ على يد وهب رومية، وعزالدين إسماعيل، وسيد مصطفى سالم، وإبراهيم عبدالحميد، وعبدالسلام نور الدين، ورضوان السيد، وحاتم الصكر، وعلي جعفر العلاق، وصبري مسلم، ووجدان الصائغ، وعبدالإله الصائغ، وعبدالرضا علي، وإبراهيم الجرادي، وغيرهم لا تسعفني الذاكرة بهم لآن.
ويحسب للشاعر عبدالعزيز المقالح، أنّه أحد محطات التجديد الشعري في العالم العربي، فهو من أبكر الشعراء اليمنيين الذين اتّخذوا من الشعر الحرّ اتجاهًا للكتابة برفقة شعراء، أمثال: إبراهيم صادق، ومحمد أنعم غالب، وعبده عثمان محمد. لصاحب الموهبة الموسوعية عبدالعزيز المقالح جهودٌ جبّارة لا يستطيع الإنسان تلخيصها بمقالة، ولعل أهم ما يميزه أنّه كان ينحاز للجديد دائمًا، حتى وإن كان هذا الجديد يتجاوزه -إن وجد- ففي صدره رحابة الشاعر وعمق التاريخ، تربَّى على شموخ ثورة 26 سبتمبر وعظمة ثورة أكتوبر.
وعيه الثوري الذي شبّ مع بواكير تكوينه اقتطف بزغة حياته؛ التصق بها إلى درجة أنّ الكثيرين يعرفون أنّه من أوائل من قرأ بيان الثورة السبتمبرية، ويقول آخرون إنّه هو من كتب البيان، لكنّني لم أسمعه يتحدث عن ذلك؛ لشدة تواضعه. وأتذكر أنّ شاعرنا الهمام كان في كل عيد ثورة يكتب من أجل الأجيال الجديدة، عديدًا من المقالات التي تتحدّث عن حتمية ثورتَي سبتمبر وأكتوبر، وبكل ما استطاع من قوة فكرية، كان يحاول تجسيد الحياة قبل الثورة، وما الذي حدث بعدها وللأمانة التاريخية، فقد كان أكثر اليمنيين وعيًا بضرورة المحافظة على هذا الإنجاز الذي أعده اختراقًا جبّارًا لحياة نفقية مظلمة. ولأهمية الفكرة الثورية عنده كان يلجأ إلى الكتابة في عموده الأسبوعي في الصفحة الأخيرة من صحيفة الثورة مرة وثالثة ورابعة إذا استدعى الأمر. فضلًا عن كتبه التي مجّد بها مشروعية قيامها، ومن ذلك إصداراته الشهيرة: "من الأنيين إلى الثورة"، و"عبدالناصر واليمن: فصول من تاريخ الثورة اليمنية"، و"الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني"، وكتاب "حكيم الثورة" عن حسن الدعيس، وكتاب "أحمد الحورش الشهيد المربِّي"، وكتاب "ثوّار ومتصوّفة"، وقبل ذلك كتاب عن الشهيد زيد الموشكي، وكتاب عن المدن التي زارها، وكتب أخرى كثيرة كلُّها نصوص ومتون خالدة في الأدب العربي والشعر الجديد، وعلى كثرتها لا أستطيع حصرها هنا، وقد أطلعني في آخر زيارة له على كتاب تأملات خضراء، الذي أعدّه للنشر الباحث مفيد الحالمي، حيث إنّه كتاب مختلف، يختص بكتاباته التي تناولت البيئة اليمنية.
وأخيرًا، أبشّر روحَك عالية الهمّة، أنّ الثورة اليمنية، التي عشتَ تتغنَّى بها طوال عمرك، لن تخفت أبدًا، وأنّك لم تمُت، لأنّ الثوار والشعراء لا يموتون، خاصة أنّ فلسفتك الثورية لم تكن مقتصرة على قلب النظام، وإنّما قلب الحياة برمتها وتغييرها، فأنت نموذج حي للثائر الشاعر الإنسانيّ والفيلسوف المفكّر، المتصوّف، ديوانك "أبجدية الروح" ترك أبلغ الأثر في حياة الإنسان العربي، وربما العالمي:
"يا سيدي، ورق العمر تذوي من غير سوء
سوى ثرثرات المرايا
وأبخرة تتصاعد من كبد الشك
فهل تستطيع اللغات التي ستموت معي
أن تعبر الدهشة الصامتة"