لن يختلف اثنان على المكانة الفريدة للأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح في الأدب اليمني المعاصر، قامة علمية وثقافية وإبداعية سامقة، وأيقونة اليمن الثقافية، وعَلَم من أعلام الأدب العربيّ الحديث، تقصر الكلمات عنه وتتحشرج المعاني في الحديث عنه، وهو الذي حمل اليمن وهمومها الثقافية في كلماته ومؤلّفاته، وتحدّث فيها وعنها بقلب محبّ وذهن شفاف، ما يجعل كل كلماتنا عنه بضاعة مزجاة في محرابه البهي وظلاله السخي.
تتعدّد أوجه مقاربة هذه الشخصية الفريدة في تاريخنا الحديث لثرائها في العديد من المستويات، فهو الشاعر الكبير ورمزٌ من رموز الشعرية العربية، وهو الشخصية الأكاديميّة البارزة، وواحدٌ ممّن أرسوا مداميك البحث العلمي والدراسات الحديثة، ورحلته الحافلة بالعطاء والتجديد في الحياة الأكاديمية اليمنية، ما بين رئاسته لجامعة صنعاء ثم مركز الدراسات والبحوث اليمني، كانت مثمرة وعيًا وأجيالًا من الباحثين. وعلى الرغم من كلِّ الظروف، استطاع من خلال موقعه الأكاديميّ أن يستقطب كبار الأساتذة في اختصاصاتهم العلمية، والنقّاد بمختلف مناهجهم لوعيه الكبير بأهمية البحث العلمي، فكان لا بُدّ من صنعاء، ولا بُدّ من ذلك القطاف التسعينيّ المثمر من شباب الباحثين والمبدعين، وهو نتاج ذلك الغرس السبعينيّ والثمانينيّ للمقالح.
لقد ظلّ سخيًّا بهيًّا في التعامل مع الجميع بحنوّ الأب وروح الصديق، وفي المستوى الإنساني والاجتماعي لا يباريه أحد، في صبر العلماء وتواضعهم، وصدق الرائد وفطنته، وإحساس الإنسان النبيل وأصالته... وكأني بالشاعر لا يصف غيرَه، إذ قال:
هو البحر من أيّ النواحي جئته فلجّتُه المعروفُ والجودُ ساحلُه
رحمَ اللهُ أستاذَ الأجيال عبدالعزيز المقالح، فقد كان أشياء كثيرة اجتمعت في رجل واحد، وهذا ما يستدعي منّا التوقّف والتركيز في الإشارة الوامضة إلى أثره النقدي، بوصفه ناقدًا كبيرًا يحمل رسالته الفكرية والتنويرية، ويؤمن بوظيفة الأدب الثقافية والاجتماعية.
كُتبه في المجال الثقافي والدراسات الأدبية تزيد على أربعين كتابًا، ما بين أولها (قراءة في أدب اليمن المعاصر) في عام 1977، وليس آخرها كتابه (ذكرياتي عن خمس وعشرين مدينة عربية) في عام 2018، فضلًا عن كتابات إبداعية شعرية تزيد على عشرين ديوان شعري. هي حديقة نقدية وإبداعية وارفة الظلال، وقطوفها دانية للأجيال، حمل فيها الوطن وتماهى معه في كل مفاصله التاريخية، منذ لمحة البصر الأولى إلى إغماضة الرحيل الأخيرة، فكان الأدب عنده رسالة وتعبير عن روح الانتماء ومشاطرة الوطن كل همومه ومحنه، إلى درجة التماهي التامّ، ألم يقل ذات يوم:
في لساني يمن
في ضميري يمن
تحت جلدي تعيش اليمن
صرت لا أعرف الفرقَ ما بيننا
أيُّنا يا بلادي يكون اليمن؟!.
حين تبكين أسقط دمعًا على راحة الحزن..
... ... ...
حين تحتضرين أموت..
يُصدِّرني الموت للعالم الأسفل المظلم القاع
يشربني العدم المرّ..
يأكلني حيث لا قبر لي.. لا وطن!
إنّ مفهوم الوطن عنده يتخذ أبعادًا عديدة، ما يصلح لأن يكون مجال دراسة قائمة بذاتها، وقد كان المقالح صادق الإحساس في هذا التماهي إلى درجة الصدق في الموت نفسه، فحين هوت اليمن إلى محنتها الكبرى التي نعيش آثارها الآن، اعتلّ قلب شاعرها ووهن جسده، وهو يرى مشاهدها المؤلمة، وعندئذٍ أدرك أن منيته قد حانت، فنعى نفسه ورثاها، وكأنه يرثي اليمن في قصيدته الأخيرة (أعلنت اليأس) التي تنضح حروفها وكلماتها بكلِّ معاني الوجع والحسرة والألم:
أنا هالك حتمًا فما الداعي إلى تأجيل موتي
جسدي يشيخ ومثله لغتي وصوتي
ذهب الذين أحبّهم وفقدت أسئلتي ووقتي
أنا سائر وسط القبور
أفر من صمتي لصمتي
... ... ...
أنا ليس لي وطن أفاخر باسمه
وأقول حين أراه: فليحيا الوطن
وطني هو الكلمات والذكرى وبعضٌ من مرارات الشجن
باعوه للمستثمرين وللصوص وللحروب
ومشت على أشلائه زمر المناصب والمذاهب والفتن!
وما بعد بلاغة هذا الوجع من بلاغة، وما بعد هذه الزفرات المحتضرة من حياة، إلا حياة المخلصين الحقيقيين في قلوب كلّ من أحبّوا أوطانهم، فمن أحبّ الوطن سيحبّ المقالح!
لقد ظلّ الشعور بالوظيفة الوطنية والقومية دافعًا محرِّكًا للإبداع النقدي عنده، ولم تعد الكتابة مجرد ترفٍ نقديٍّ في قراءة النصوص وتحليلها وإبراز قيمها الجمالية وعناصرها الفنيّة بعيدًا عن مضامينها الاجتماعية والسياسية، وإنّما الانطلاق من الوعي بوظيفة الأدب ودوره الاجتماعي ورسالته الإنسانية في ظلّ السياقات والظروف التي يتشكّل فيها. والحقُّ أنّ جلّ أدبنا منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كان أدبًا منغمسًا بقوة في أوجاع الوطن والتعبير عن أحلامه، في ظلّ ذلك العصر الثوري والروح المتّقدة بالأمل، فجاء الأدب نتاج تفاعل الأدباء مع قضايا مجتمعهم ومختلف التحولات التي مرّ بها، ولذلك كان لا بُدّ من أن تأتي قراءات المقالح في كل كتاباته النقدية منشغلةً برصد الظواهر الإبداعية والتجارب الخاصة للأدباء من زوايا العلاقة بين قضايا الفنّ والشكل وقضايا المضامين التي عُبر عنها من خلال الأشكال الفنية للأدب.
ليس المقام هنا تقديم عرض ببليوغرافي عن كتابات المقالح النقدية، أو التأكيد على مكانته في النقد العربي الحديث، فذلك أمرٌ يعلمه الجميع، ولكن للتنويه في محافل الاحتفاء بهذه القامة الثقافية السامقة، ومقدار الخسارة والفقد لرجلٍ ظلّ في عطاءٍ متصل خلال حياته كلّها، وعلى الرغم من ذاك فالمقالح باقٍ في الذاكرة الأدبية والوطنية، وميراثه النقدي والثقافي سيمنح اسمه الحضور الدائم والمتجدّد على مرّ الأجيال.
لقد كتب المقالح في كل شيء، وعن كل شيء في كتبه ومقالاته ومقدّماته لكتب الآخرين، كتب عن المعاصرين والراحلين، عن أجيالٍ من الكتّاب والمبدعين اليمنيين والعرب، كتب في الشعر وفي التاريخ والقصة والرواية والمسرح، والأدب الشعبي والعامي، كتب في أشياء كثيرة، ورفد من خلال ذلك المكتبة العربية بالمراجع والدراسات المهمة، والدواوين الشعرية، غير أنّ كِتابًا لم يكتبه المقالح، وكم تمنّيت أن يكتبه، وهو كتاب سيرته الذاتية أو مذكراته، أو ذكرياته، أو غير ذلك ممّا يتوّج هذه الحياة الحافلة بالعطاء والمراحل ومعايشة الشخصيات، لكنه لم يفعل ذلك!
لقد توفرت له -رحمه الله- دوافعُ كتابة السيرة الذاتية ودواعيها، فقد حقّق المكانة الاعتبارية والتاريخية للشخصية العَلَم، وفي حياته من المواقف والتجارب ما يشكّل الأسوة، وحقّق منجزًا نقديًّا وإبداعيًّا ثريًّا يؤهله للحديث عنه وعن ظروف تشكّله، وبلغ من العمر ما يستوجب الكتابة عن الذات، وأنذره المرض والوهن الجسدي بما يتيح له تخليد حياته في كتاب، وهو الأجدر بكتابة سيرته الذاتية أو مذكراته، بما تحقّق له من الوعي الجمالي بكتابتها وأساليبها، وفي ظنّي، قد تحقّق للمقالح من الدوافع والداعي ما لم يتحقّق لغيره من الكتّاب، فهل كان المقالح يصدر عن أيديولوجيا مضادةّ لكتابة السيرة الذاتية؟!
والأيديولوجيا المضادّة للسيرة الذاتية تعبيرٌ يشير إلى مجموعة من التصورات السلبية التي ترى السيرة الذاتية مجرد أدبٍ مزيف ينافس الأجناس الأدبية الأصيلة، كالشعر والقصة والرواية والمسرح، وأنّها تفتقر إلى الخيال لارتباطها بدرجة أساس بالمرجعي أكثر من الخيالي، وتتسم بالنرجسية والوقاحة في سرد الذاتي والشخصي، وبالجمالية السطحية الخالية من المنفعة، ويُجمِع دارسو تاريخ السيرة الذاتية على تعرضها -بخلاف غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى- لكثيرٍ من المواقف الرافضة، ومعاناتها المستمرّة من عدم الاعتراف بها إلّا بوصفها جنسًا أدبيًّا ثانويًّا، لأنّها من وجهة نظر المعارضين أدبًا غير تخييلي.
ولا أظنّ أنّه في إطار هذه الرؤية يمكن أن نفهم سببَ غياب السيرة الذاتية أو المذكرات عند المقالح؛ فقد عُرف عنه وعيه واعترافه بالأجناس والأشكال الأدبية جميعها، وتفاعله مع فكرة التجديد والتجريب في الكتابة، لكن أيضًا عُرف عنه خجله الشديد، وميله إلى الزهد في الحديث عن الذات، وهذا شعور مشترك بين كثير من الكتّاب، والقليل هم الذين تخلصوا من هذا الشعور فكتبوا سِيَرهم الذاتية، ولعلّ هذا سببٌ في غياب نصِّ سيرتِه الذاتيّة. وربما لأنّه وجد في الشعر أفضِيَةً للتعبير عن الذات، لا سيما في دواوينه المتأخرة نسبيًّا، مثل (كتاب صنعاء) و(كتاب القرية)، و(كتاب الأم) فقد درج الشعراء على البوح بشذرات من حياتهم في قصائدهم. لكن اللافت الذي يجعل القارئ يظن بوجود أيديولوجيةٍ ما مضادّة للسير الذاتية عند المقالح، أنّه لم يتناول هذا الجنس الأدبي بالدراسة في أيٍّ من كُتبه، وصحيح أنّ هذا الجنس الأدبي لم تترسخ تقاليد كتابته في الأدب اليمنيّ الحديث، لكنه لم يكن غائبًا الغياب التامّ، فهناك العديد من السِّيَر الذاتية والمذكرات المكتوبة، وتكفي الإشارة إلى وجودها في كتابات محمد بن علي الأكوع الحوالي (صفحة من تاريخ اليمن الاجتماعي وقصة حياتي)، و(مذكرات المقبلي) لحسين محمد المقبلي، و(الرشد في سنوات الطفولة) لأحمد قائد بركات، و(استعادة الزمن المفقود) لعبدالله سالم باوزير، وغيرها.
لكم كان القارئ في شغفٍ للانحناء من على كتف المقالح والتلصّص النبيل على حياة ملهمة يسطر حبرها أكبر أدباء اليمن ونقّادها، أسوة بسِيَر ذاتية عربية لنقّاد دوّنوا حياتهم في كتب بعد أن حقّقوا منجزاتهم العلمية والنقدية، وشعروا أنّهم أدّوا رسالتهم الثقافية، كما فعل شوقي ضيف في سيرته المعنونة (معي)، وإحسان عباس في سيرته الذاتية (غربة الراعي). فهل تحمل لنا أوراق المقالح غير المنشورة شيئًا من ذلك ممّا تركه على ذمة التاريخ؟!