(1)
مرَّ عام على غياب الجسد، لكنها الروح لم تزل متشبثة بهذه الأرض مثل فنار يرشد الناس إلى خلاصهم.
لأكثر من خمسين عامًا، بقي أستاذنا الجليل عبدالعزيز المقالح عنوانًا صريحًا لليمن الجديد، شاعرًا ومثقفًا ورجُلَ تنويرٍ من الطراز الرفيع.
كتب عن تاريخها ورموزها ومبدعيها وعن تفاصيل أمكنتها بحبٍّ لا يجاريه فيه أحدٌ. كان شاهدًا حقيقيًّا على عملية التحول في اليمن منذ العام 1948، حين رافق والده في سجن حجّة وتتلمذ على يد رموز حركة الأحرار اليمنيين، وعلى رأسهم الأستاذ النعمان وولده محمد، وفي سبتمبر 1962، كان أحد أصوات الثورة المجلجلة شعرًا ونثرًا، فهو أحد قُرّاء البيان الأول، وأحد الشعراء الذين كتبوا لها بعد أيام ثلاثة فقط، قصيدة (عاش الشعب) التي ما تزال يانعة وكأنها كتبت اليوم.
"سلمَتْ أياديهم بُناة الفجر عشّاق الكرامة/ الباذلين نفوسهم لله في (ليل القيامة)/ وضعوا الرؤوس على الأكف، ومرّغوا وجه الإمامة/ صنعوا ضحى (سبتمبر) الغالي لنهضتنا علامة".
ارتبط منذ بداية حياته بالتعليم، حين عمل معلِّمًا في المدرسة المتوسطة أوائل الستينيات، وصولًا إلى تدريسه في كلية الآداب بجامعة صنعاء، التي رأَسها عقدين كاملين وحوّلها إلى قِبلة للباحثين والأكاديميين والمثقفين العرب، فقد كان يرى في التعليم بوابةَ الخلاص لليمنيين.
لم أكن قد قابلته قبل ذلك، وكانت إحدى أمنياتي أن أقابله شخصيًّا. رفعت يدي أستأذنه بالوصول إليه، فأذن لي وأشار للجندي الذي لاحقني بالانصراف. اقتربت منه وصافحني بأدب جمّ، وبدون مقدمات عرّفته بنفسي وباهتماماتي الأدبية بوصفي شاعرًا وكاتبًا مبتدئًا.
(2)
لم أزل أتذكر ذلك الصباح البعيد من سبتمبر 1987، وكنت حينها طالبًا في المستوى الأول بكلية التجارة والاقتصاد، وكنت داخلًا إلى القاعة الكبرى (بين كليتَي التجارة والشريعة) لحضور محاضرة في مبادئ الإدارة، فوجدت الممر المؤدّي إليها فاضيًا، ورأيت جنودًا كثيرين خارج البوابة يرشدون الطلاب للوصول إلى القاعة من الباب الخلفي. رأيته واقفًا لوحده في منتصف الممر، ينتظر في الغالب وصول شخصية كبيرة، ولم أدرِ إلا وأنا بمواجهته تمامًا وأصوات خشنة خلفي تطالبني بالرجوع.
لم أكن قد قابلته قبل ذلك، وكانت أحد أمنياتي أن أقابله شخصيًّا، رفعت يدي أستأذنه بالوصول إليه، فأذِن لي وأشار للجندي الذي لاحقني بالانصراف. اقتربت منه وصافحني بأدب جم، وبدون مقدمات عرفته بنفسي وباهتماماتي الأدبية بوصفي شاعرًا وكاتبًا مبتدئًا.
رحّب بي وأشعرني أنه يعرفني، وأعطاني رزمة من الجرائد كانت بيده، وبكل أدب طلب مني، في حال رغبت، زيارته في مكتبه برئاسة الجامعة، في المباني القديمة في الدائري، وقال إنه الآن ينتظر رئيس الوزراء الذي شارف على الوصول، فسلّمت عليه وغادرت.
بعد أشهر طويلة من ذلك اللقاء، زرته في مكتبه، بمركز الدراسات والبحوث اليمني بشارع بغداد، برفقة صديقي الشاعر الراحل نبيل السروري (أبو زرياب)، وتفاجأت بأنه تذكرني من ذلك اللقاء العابر، الذي لم يستمر أكثر من ثلاث دقائق. ثم أمر أحد موظفي مكتبه بإهدائي مع صديقي نبيل بعضَ مطبوعات المركز، ولسنوات عديدة كنّا نحضر مقيله ومقيل بعض أصدقائه القريبين، نقرأ نصوصنا ونسلّمه بعضها، لكي ينشرها في صفحته الأسبوعية بجريدة 26 سبتمبر.
استمرت علاقتي به ستةً وثلاثين عامًا، علاقة طالب مبتدئ ينهل من علم أستاذ غزير لا ينضب، علم ستبقى أجيالٌ وأجيال من بعدنا تتعلّم من إرثه العظيم.