تزخر المهرة (شرقي اليمن) بموروثٍ شعبيّ متنوّع ومتعدّد في تفاصيل الحياة اليومية للإنسان في هذه المحافظة التي تتميز بالعديد من المواقع الأثرية والتاريخية، والمعالم والمزارات والمناطق السياحية.
تعتبر اللغة المهرية -نسبة إلى محافظة المهرة- من اللغات العربية القديمة، إذ تعود جذورها إلى آلاف السنين، ويعدّها الباحثون واللُّغويون لغةً بدائية، ساميّة نسبة إلى سام بن نوح. كما ارتبطت ببعض الكتابات القديمة، مثل الخط المسند والخط المسماري، وتناقَلها أبناء المهرة شفاهةً جيلًا بعد جيل، ويمارسونها في جميع مجالات حياتهم اليومية، إضافة إلى اللغة العربية .
وتسعى الجهات المعنية بمحافظة المهرة للحفاظ على الخصوصية والتفرّد الاجتماعي والثقافي واللغة المختلفة المهدّدة بالتطورات والتداخل المجتمعي، ما يضع هذا النمط من "العيش" والحياة المختلفة في مواجهة خطر الاندثار؛ وذلك من خلال تنظيم الفعاليات والمهرجانات المتنوّعة لإحياء الموروثات والتعريف بها وبتميزها وخصوصيتها.
الاحتفاء باللغة والأهازيج
يتحدّث سكان محافظة المهرة لغةً خاصة بهم إلى جانب اللغة العربية، وهي لغة ساميّة قديمة منذ آلاف السنين، لكنها لغة غير موثقة كلماتها، وتتكوّن معظمها كلغة من الأصوات العربية.
يؤكّد سعيد غفيل- مدير مكتب الثقافة بقشن، لـ"خيوط"، أنّ هناك اهتمامًا كبيرًا باللغة المهرية على الصعيد الشعبي والرسمي، إذ يُحتفل بها وبالموروث المهري الذي تتميز به المحافظة منذ أربعة أعوام.
احتضنت مديرية قشن حفل هذا العام في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول لمكانتها التاريخية، ونظرًا لوعي أبنائها، ودعم السلطة المحلية، والهالة الإعلامية التي أحاطت المهرجان، وصل لدول عربية ومنظمات عالمية مثل اليونيسكو، بحسب غفيل.
من جانبه، يصف سعد بن غفيلة -رئيس قسم التوثيق اللغوي بمركز اللغة المهرية- مظاهرَ الاحتفال بيوم اللغة المهرية والذي يمتد لأيام، باستعراض كل ما يتعلق بالإنسان المهري قديمًا، حيث تشارك المدارس بتنظيم البرامج المدرسية باللغة المهرية.
ويتابع غفيلة: "كانت الإبل المهرية حاضرةً في المهرجان وبالطريقة القديمة، نظرًا لارتباط الإنسان المهري بها منذ غابر الأزمان، فكان يسمّى بها كـ"راعي سودة، أو راعي هبشة، أو نشوة" وغيرها من المسميات، ولها مسميات بحسب أوصافها، فهناك الإبل العيدية، وتلك التي تدل راكبها على العبر.
ويستعرض غفيلة الأهازيج المهرية وتنوّعها؛ "فمنها التي تقال عند طلوع البحر، حيث يلقي أحدهم كلمات ويردّدها الآخرون، وبعضها عن الاصطياد، أو ابتهال لله لكسب الرزق، وتركين القارب على السيف".
"بينما تتنوّع الرقصات الرجالية الجماعية كالهبيش، وهو فنّ رجالي يؤدّيه مجموعتان متقابلتان، مثل الزوامل، ويلقي الشاعر أبيات شعر ويردّدونها مثل (الحوار) مع دق الطبول ورقصات، وتقام في المناسبات الجماعية أو الزواج، أما رقصة (التنجيا) فكانت تستخدم قديمًا في الزيارات الدينية وعند العودة من البحر، وحاليًّا في الأفراح، وتختلف عنها رقصة الدويهاس الحربية والتي تكون عادةً مصحوبةً بأهازيج غنائية ودفوف، مع المبارزة بالسيوف من شخصين عند الرقص".
ويتابع غفيلة: "أما الزوامل فتكون مصحوبة بفنّ الدان، حيث ينتظم صفان متقابلان للقبيلة، تبدأ بالسلام والتطرق لأي موضوع، وأيضًا العارضة وهي الدان دان غير أنّها تكون عصر يوم الزواج، ويكون صف للمشارك وصف لأهل العريس".
منذ فترة الخمسينيات، كانت المرأة في المهرة ترتدي قميصًا يسمى "صبيغت" (مصبوغ)، واسعًا طويلًا من الخلف يعرف (بالديل)، وقصيرًا من الأمام. ويختلف عنه كما تشرح عوشن، ثوب العروسة بكثرة النقوش والزخرفة، وهو ما يسمى "البركالي"، وتزينها المجوهرات ووضع خطوط من الخضاب (مادة تحرق بالنار)، في جبينها وشفتيها.
كما أنّ هناك "المحريس" أو الشرح وتكون مساء يوم الزواج، وينتظم الراقصون بشكل دائري، وتوقد في الوسط نار مع وجود صفين من كبار الشعراء يتحاورون في موضوع معين، ويقوم الشاعر بارتجال أبيات تحمل وزنًا وقافية ومعنى تكون (ثنائية، ثلاثية) الكلمات، والرقص فيهن جميعًا لشخصين أمام الصفوف، باتجاه عكسي، ويدوران في الحلقة ويكون فيه تحدٍّ أحيانًا على مستوى الأفراد أو القبائل، وحاليًّا ظهر ما يسمى الشرح.
ويعتبر عامر سيلام قمصيت- مستشار المحافظ للشؤون الثقافية، رقصة "البرعة" من الرقصات المهرية، يرقصها أربعة أشخاص على صوت المزمار، وأيضًا التنويش (تنويش الشعر وتحريك الرأس)، وهي خاصة بالنساء قديمًا، وتكون مختلطة رجالًا ونساء، حيث توقد النار وعلى الإيقاعات الشعرية يصطف الرجال والنساء ليرقصوا، وتسمى أيضًا الدان دان.
الرقصات النسائية
بحسب أشواق عوشن- مديرة تنمية المرأة في محافظة المهرة، فإنّ الرقصات النسائية حاضرةً في المهرجانات والأعراس وتختلف وتتنوّع من مديرية لأخرى؛ فهناك (الزم، ومسره، والشرح، وتمهود)، وهي خاصة بأهل قشن فقط، وتختلف عند بقية المديريات، فهناك (بدينا، أو هريا بوه، والعري)، وجميعها تختلف بالإيقاع والكلمات ودقة اللعبة.
وتتابع عوشن لـ"خيوط": "من المأكولات القديمة التي تتفنّن في إعدادها المرأة في المهرة، "الدنجور" وهو من أنواع (الحلوى)، وأيضًا "العيش" بعد طحنه على الأحجار، ويحضر منه الخبز المسمى (رقاق).
بينما تعتبر "العصيد"، وهي من الأكلات المشهورة، وتتكوّن من الدقيق المخلوط بالماء، المُعدّة في المهرة بالسمن والعسل البلدي، كما تعد الحلوى التي يطلق عليها "بازمول" المصنعة من الدقيق والسكر ومختلف النكهات والتي يتم تقديمها في المناسبات، إضافة إلى حلويات بمسميات أخرى، تتميز بها بعض المناطق بمحافظة المهرة اليمنية، بالأخص المحاذية لسلطنة عـمان.
ويحاول المهريون التمسّك بنمط حياتهم المختلف، ومواصلة طقوسهم المرتبطة بلغتهم الخاصة، والحلوى، والقهوة، والبخور والرقصات والأزياء، وعادات وتقاليد أخرى تميزهم بشكل كبير عن بقية المحافظات والمناطق اليمنية التي تشترك في بعضٍ من هذه الطقوس.
الأزياء الشعبية
منذ فترة الخمسينيات، كانت المرأة في المهرة ترتدي قميصًا يسمى "صبيغت" (مصبوغ)، واسعًا طويلًا من الخلف يعرف (بالديل)، وقصيرًا من الأمام. ويختلف عنه كما تشرح عوشن، ثوب العروسة بكثرة النقوش والزخرفة، وهو ما يسمى "البركالي"، وتزينها المجوهرات ووضع خطوط من الخضاب (مادة تحرق بالنار)، في جبينها وشفتيها.
وهناك أيضًا "الكمة" التي كانت تضعها المرأة المهرية قديمًا، تُربط من الرأس وتُوضع على شكل دائري ويغطى بها الوجه، وظهر الآن ما يسمى "البرقع".
وعن الأزياء الشعبية الرجالية القديمة، يشرح عامر قمصيت، ذلك بالقول: "خلال فترة الخمسينيات، كان الزي الشعبي للرجال يسمى (الصبيغة) لصباغته وحياكته، وعادةً يكون من الخصر إلى الركبة ويُلَفّ على اليد اليمنى أو اليسرى، أما الرجل المقدم على الزواج "العريس" أو المسافر، فيرتدي القميص المزخرف والمنقش وعليه أزرار، ويربط خيط على اليد اليمنى اعتقادًا أنّه يقوّي ويشدّ العضلات ويدل على عنفوان الشباب، في حين هناك (الحجولة المعضدة) نوع من الفضة التي يتم ربطها في الزند الأيمن".
ومنذ الثلاثينيات، كانت هناك البنادق القديمة التي تم جلبها من أوروبا بأنواعها (الجرمل، الكندي، الشرفة، أبوهطف، مسليخ)، كما استخدم الإنسان المهريّ قديمًا الحصى للدفاع عن نفسه، والرماح، وتحاك الخيوط من غزل الإبل.
ويتابع قمصيت حديثه لـ"خيوط": "قديمًا كان الماء يُجلَب من الساقية، بقربة تُعمل من جلود الحيوانات، يتم تنظيفها وتحاك على شكل إناء، وتُشَدّ (يتم ربطها) بالخيوط على الأخشاب، حيث صارت جزءًا من الموروث الشعبي القديم حاليًّا".
لغة خاصة
تكلم الناس المهرية منذ زمن قديم، وتنوّعت ألسنتهم فيها حسب الجغرافيا، ولم تنحصر اللغة المهرية في اليمن فقط، كذلك قبائل في الدول المجاورة المنحدرة من المهرة .
وتعتبر المهرية لغة محكية في جنوب الجزيرة العربية، إذ يُرجع مدير مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث، عامر بلحاف، عمرها بحسب الدراسات إلى أكثر من (3000-5000) سنة، في حين ينتمي أهلها نسبًا إلى مهرة بن حيدان بن عمرو بن لحاف بن قضاعة، ويمتد النسب بعد ذلك إلى مالك بن حمْيَر، الذي سكن المهرة (شرقي اليمن).
قام مؤخرًا مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث بإطلاق مشروع لحصر وتوثيق مفردات اللغة المهرية، وتنفيذ برامج تدريبية في هذا الخصوص، للتعريف بالمشروع وأهدافه في توثيق مفردات لغة تاريخية غير مكتوبة.
وتتقارب اللغة المهرية المعاصرة مع العربية الفصحى، فمعظم الأفعال والأسماء فيها متوافق مع الفصحى لفظًا ودلالة، وتتطابق في الصيغ الفعلية، وتقسيمات الفعل (ماضٍ، ومضارع، وأمر)، والظواهر اللغوية اللهجية والإمالة والتخفيف ومد الحركات، وأبنية المجهول والتعدية والاستعمال، والأنظمة اللغوية في تقسيمات الضمائر.
وأثّرت التطورات الحديثة والتداخل مع المجتمعات المحلية الأخرى على اللغة المهرية وانحصار عدد المتحدثين بها في بعض المناطق، ممّا دفع الباحثين والأكاديميين لتأسيس مركز اللغة المهرية في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2017، لتوثيقها وتسجيلها في التراث اللامادي في اليونسكو، واعتماد هذا التاريخ يومًا خاصًّا للاحتفاء بها .
ويرى بلحاف أنّ "أبرز التحديات التي تواجه المهرية، هو عدم وجود نظام كتابيّ لها، أو معجم يحفظ ألفاظها، وتظافرت الجهود لقيام مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث في عام 2019، باقتراح نظام كتابي يعتمد الرموز العربية مع تمييز الحروف الزائدة في المهرية برموز خاصة، وقد حُوّل هذا الاقتراح إلى برنامج يعرف (بالكيبورد المهري)، ويستخدم حاليًّا في الحواسيب والجوالات، إضافة إلى تنظيم جولات ميدانية للمهتمين بالثقافة واللغة المهرية لمديريات المحافظة لتوثيق مفرداتها، تمهيدًا لوضع المعجم المهري الشامل".
وبحسب بلحاف: "هناك العديد من الأعمال الخاصة بالمستشرقين الذين دوّنوا كتبًا خاصة باللغة المهرية، مثل كتاب المستشرق آت جونسون (دراسة اللغة المهرية والسقطرية)، وأعدّ لها قواميس في الفترة بين عامي 1977 و1987".
تعزيز الخصوصية
إلى ذلك، يرى الإعلامي محمد الجدحي أنّ المهرة تزخر بموروث شعبيّ متنوّع، وجميعه تم إبرازه في مهرجان اللغة المهرية، حيث عزز مكانة قشن التاريخية، وتطرق إلى تفاصيل الحياة اليومية للإنسان المهري قديمًا، والعروض التراثية والبصرية الليلية بقصر السلطان بن عفرار (أقدم معالم المهرة)، وأقسام الخيمة التراثية، وجلسات السمر لتبادل الشعر القديم والحديث باللغة المهرية، والصور التاريخية، ومقتنيات متحف المهرة للباحث سعد مسلم الجدحي، واستعراض عملية الصيد بالمجاذيف، وكذلك تجفيف الأسماك بالطريقة التقليدية".
في السياق، يوضح سعيد القميري- المدير التنفيذي لمركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث، أنّ حفاظ المهرة على لغتها الأصيلة منذ مئات السنين، إضافة إلى الموروث الثقافي والإنساني الزاخر، المتمثّل في العادات والتقاليد، يتجسّد بمهرجان سنوي (يوم اللُّغة المهرية)، يتنوّع بين فعاليات فنية وثقافية وبحرية، وذلك بحسب حديثه لـ"خيوط"، لتعزيز الهُوية الاجتماعية الثقافية لأبناء المهرة وتاريخهم العريق، كذلك ما يتعلّق بالأفراح، وبعضها بالطب البديل مثل العلاج التقليدي الرابوت (تقليد يستخدم لعلاج لسع الثعبان حيث يجتمع الناس حول الرجل المريض، ويردّدون ترانيم خاصة بهم باللغة المهرية)، أو الممارسات الاجتماعية المختلفة وغيرها.
وتتعرّض كثير من المواقع الأثرية في المهرة للإهمال والتخريب، إذ تعرّضت جداريات كاملة من النقوش في أحد المواقع الأثرية التاريخية (غار "تَيَه(" للتخريب والاقتلاع بفعل فاعل، وباستخدام أدوات حفر وتقطيع بـ"الدريل"، لتُطمس بذلك معالم مهمة حول تاريخ هذا الغار وتاريخ المنطقة الواقع فيها، والمهرة أجمع، حيث كُتبت بعض هذه النقوش الجدارية بخط المسند البدائي، وربما بعضها بالخط الثمودي.