الحُديدة المستعادة في شتاء قصير

مدينة تدفع ثمن وداعتها!
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 26, 2022

الحُديدة المستعادة في شتاء قصير

مدينة تدفع ثمن وداعتها!
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 26, 2022
Photo by: Shohdi Alsofi - © Khuyut

زرت أول مرة مدينة الحديدة برفقة أحد أقاربي في العام 1978. ما أدهشني في المدينة وقتها طبائعُ الناس وبساطتهم، أمّا لهجة سكانها الشائعة التي سمعتها وقتذاك، فقد كانت استطالة لتلك الكلمات التي بقيت أسمعها من بائعي الدجاج والطيور في زقاق السوق المركزي بتعز، حين كانوا يحضرون بقفافهم وسلالهم المصنوعة من جريد النخيل وبداخلها أنواعٌ مختلفة من الطيور والدجاج البلدي. كان يطلق على هؤلاء البائعين "الزبود"– نِسْبتهم بالملفوظ الشعبي، إلى منطقة زبيد في تهامة.

كان زحام سوق "المِطْراق"، وروائح المحلات التي تستخدم مراوح الأسقف البيضاء لترطيب الجو الحار، وعرض المنتوجات المحلية، وكذا مشاهدة العربات الخشبية التي تجرها الجمال والحمير، من الأشياء التي سكنت مخيلتي الصغيرة، والتي عششت فيها أيضًا كميات الذباب والبعوض المهولة التي كانت تتناوب على يوم المدينة مثل جيوش شجاعة ومنظمة؛ فالذباب يستأثر بها نهارًا ويترك البعوض لمعاركه الليلية الطويلة مع البشر. خليط الروائح الملحيَّة واليود وطفح المجاري والقمامة المكدّسة في الأزقّة، أخذت نصيبها من الإقامة في حجرة معتمة في بيت التذكر لتلك الرحلة.

بيت قريبي، التي كانت بقرب سوق "المطراق"، كانت واحدة من قلائل البيوت الحديثة في محيط من العشش الشعبية البسيطة، المبنية من القصب والقش، وجذوع الأشجار وأغصانها وسعف النخل التي تتشابك بطرق فنية حتى تسهل عملية مرور الهواء من كل الجوانب لتلطيف الأجواء الحارة فيها.

الحي التجاري ببيوته الأنيقة التي يطغى عليها اللون الأبيض وفلله الحجرية، وكذا الشارع الرئيس (صنعاء) الأشهر في المدينة بالمباني والعمارات المنظمة، كانا أيضًا من ملهمات تلك الزيارة الباكرة. أما الشبان الصغار الذين ارتصوا على كاسر الأمواج الأسمنتي المطحلب وأحجار البازلت الضخمة بمقابل حارة السور وبأيديهم سنانير الاصطياد البدائية يجلبون أسماكًا صغيرة لامعة من الشاطئ القريب ويضعونها في زنابيل صغيرة، فارتسموا في مخيلتي الصغيرة كأبطال صبورين وشجعان.

بعد عشرة أعوام تقريبًا، عدت إلى الحديدة في زيارة طويلة نسبيًّا، فشاهدت مدينة أخرى أكثر نظافة، وبها تمديدات مجارٍ حديثة نفّذتها شركة كورية، وبدت شوارعها منظمة ومشجرة. أما حديقتها المركزية (حديقة الشعب) فقد كانت تحفة حقيقية، قلّما تجد مثلها في بقية المدن. في تلك الزيارة بقيت أطارد بقايا صور استلهام الزيارة الأولى في المكان والوجوه والروائح، ووجدت منها الكثير أيضًا.

انتظرت حتى العام 2002، حتى أزورها من جديد، وهذه المرة لغرض عمل برفقة الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الراحل الكبير محمد حسين هيثم. كانت حالة المدينة تتشابه بكل المدن اليمنية التي فرض عليها أن تحضر في الحياة العامة كهامش وطرف بعيد عن المركز الذي يحظى بالاهتمام دون غيره من المدن. كانت الحديدة ما تزال هي الميناء الحيويّ الذي يشكّل شريان الحياة للكتلة الكبيرة من سكان اليمن في الوسط والشمال والغرب، وإن عشرات الشركات المتصلة بالملاحة كانت أبرز عناوين المدينة، وإن مصانع تعبئة المواد الاستهلاكية العديدة التي تتوزع على أطرافها الشمالية والشرقية (السجائر ومشتقات الحليب ومعلبات المنتجات الزراعية والمشروبات الغازية)، ومصنع الأسمنت في باجل، والتمور في نواحي زبيد، كانت تمنح المحافظة ميزة استقطابية مهمة.

اكتشف فريق صرف الإعانات أن أكثر من 70% من أولياء الأمور غير موجودين؛ فهم إما في عرض البحر يصطادون، أو قابعون في سجون السلطات الإريترية، أو يعملون في نواحي عدن وفي شواطئ اليمن الشمالية بالقرب من جزر فَرَسان اليمنية المحتلة

حين صرت مستشارًا إعلاميًّا لمشروع تطوير التعليم بوزارة التربية والتعليم، ابتداء من العام 2004، كانت الحديدة واحدة من مناطق الاستهداف المهمة في عمل المشروع وعلى وجه الخصوص (برنامج التحويلات النقدية المشروطة) الذي كان يستهدف تعليم الفتيات في المناطق الأكثر فقرًا في المحافظة، ولهذا تمكنت من مرافقة فرق المشروع في الكثير من مناطق تهامة (شرق وشمال وجنوب الحديدة)، فاكتشفت الوجه الآخر من تهامة الفقيرة، وهي الأرض الخصبة والبحر الغني؛ يقال إن تهامة تطير بجناحي السهل الخصب والبحر الغزير.

المزارع الخصبة التي تنتج الخضروات والفواكه والحبوب وتتكاثر فيها المواشي والطيور وتمتد من أقدام جبال (ريمة ووصاب وبُرَع وحراز والمحويت وحجة)، لتلامس لسان البحر، وتخترقها مجاري أودية (رماع، سردد، سهام، مور، زبيد)، صار يمتلكها نافذون في الدولة وخارجها، وتحصلوا عليها كهبات أو بفتات النقود، وصار مالكوها الأصليون أُجراء عند الملّاك الجدد، برغبة منهم، أو بدون رغبة. قال لي أحد أساتذتي الكبار إن المواطنين في تهامة كانوا -تحت إغراء المال للأغنياء والمتنفّذين- يبيعون أراضيهم الخصبة والواسعة ويشترطون على المشترين الجدد أن يعملوا لديهم أُجراء.

مهنة الاصطياد التي كان يزاولها الكثير من أهالي القرى والمناطق الحضرية الموجودة على الساحل، صارت مع الوقت مهنة مخاطر حقيقية تبدأ بأزمة الوقود وتنتهي باحتجاز الصيادين ومصادرة قواربهم من قبل خفر السواحل في دول الجوار من القرن الأفريقي. ثم أقفلت الحرب البحر في وجوههم، فصار أغلبهم يعيشون بطالة قاتلة.

أتذكر أنه في شتاء 2014، كنت مرافقًا إعلاميًّا لفريق صرف الإعانات النقدية لطالبات "الخُوخة"، وكان ضمن اشتراطات البرنامج أن يكون صرف المستحقات لأولياء أمور الطالبات يدًا بيد، وليس بواسطة أمهات الطالبات، كما هو حاصل في كثير من المناطق في المحافظة. اكتشف فريق الصرف أن أكثر من 70% من أولياء الأمور غير موجودين؛ فهُم إمّا في عرض البحر يصطادون، أو قابعون في سجون السلطات الإريترية، أو يعملون في نواحي عدن وفي شواطئ اليمن الشمالية بالقرب من جزر فَرَسان اليمنية المحتلة، ولهذا اتخذ الفريق إجراء صرف مستحقات الطالبات بنظر الأمهات حتى لا تتعطل عملية الصرف.

آخر زيارة لي إلى الحديدة قبل الحرب كانت في يناير 2015، وكانت لم تزل تعيش على وقع ارتدادات التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد وكان أحدثها استيلاء الحوثيين [أنصار الله] على السلطة وسيطرتهم على المدينة، التي لم تكن قد تعافت تمامًا من الشعارات العنصرية التي دُسّت على "الحراك التهامي"، وكانت تحرِّض عامة الناس على المقيمين فيها من محافظات أخرى، رغم أنهم يعملون في مهن بسيطة تتصل بالمعيش اليومي لسكان المدينة؛ أتذكر من تلك الزيارة أن الدوريات المكثفة على أطقم عسكرية كانت تحمل مقاتلين متحفزين بأسلحتهم وهم بكامل ملابسهم الشعبية التي تقيهم برد الجبال في مثل ذلك الوقت من كانون الثاني قاسي البرودة.

بقيتُ أتابع أخبار المدينة منذ تحولها إلى نقطة ساخنة في الصراع المحتدم، وكيف تقطعت أوصالها بفعل تمترسات المتحاربين داخلها وخارجها، وكيف أن سكانها الفقراء شكلوا أكبر موجة نزوح وتشتتوا في الكثير من المحافظات والمدن الرئيسة وعلى رأسها العاصمة صنعاء، وكيف أن السفر إليها صار يمثل مشاقًّا إضافية للراغبين الوصول إليها، وإن تدني الخدمات فيها وانقطاع الكهرباء، حول أيامها إلى جحيم لا يحتمل، وأن المتنفس الوحيد لسكانها، وهو البحر، صار محصورًا بمساحة صغيرة في غرب المدينة، بعد عسكرة بقية شاطئَيها الشمالي والجنوبي، تتكدس فيها العائلات دون أن تجد متعة في ذلك.

في الأسبوع الأول من يناير/ كانون الثاني 2022، واتتْني مناسبة لزيارة المدينة برفقة العائلة، بعد سبع سنين من آخر زيارة. لم يكن إغراء الطقس ورفقة العائلة هما السبب الخالص للزيارة، وإنما أيضًا الحنين للمدينة التي طالما منحتني الكثير من السكينة والدفء.

كنت بكامل تركيزي في الرحلة التي بدأت بعد فجر الجمعة، لاستعادة تفاصيل الطريق، التي تربطني بها علاقة حميمة، حتى يتخيل لي معرفة أدقّ تفاصيلها، بفعل مروري المتكرر عليها. (عَصِر، الصُّبَاحة، المساجد، مَتْنَة، بَوعان، بيت السلامي، بيت غَوبَر، خميس مَذْيور، مَفْحَق، بني منصور، البادية، بَرتن، المغربة، مَوسَنة، القدم، بني سعد، سُردُد، باب الناقة، باجِل، القُطيع، المراوعة، كيلو 16، شارع صنعاء، البحر)

المعالم لم تتغير، حتى الأسفلت بدا بحالة مقبولة جدًّا. فقط اللوحات ذات البعد التحشيدي والشعارات الطائفية على جنبات الطريق وفي المناطق المهمة، كانت هي الطاغية على غيرها من لوحات الدعاية والإعلان للسلع والمنتجات. اللوحات الخضراء الكبيرة والأنيقة التي تشير إلى مقابر ضحايا الحرب وتسمى بـ"رياض الشهداء"، واحدة من الأشياء الملفتة في الطريق. ففي معظم الخطوط الفرعية للقرى والمناطق، تتواجد لوحات تشير لهذه (الرياض) وتتسمى في الغالب بأسماء المناطق التي تتواجد فيها.

منذ بدأت السيارة الهبوط من جبال "بني مطر" و"الحيمة" و"حراز"، باتجاه الأودية الضيقة الدافئة، بدأت أولى معالم البؤس التي تشير إلى تهامة. مئات المتسولين من الأطفال والنساء على جنبات الطريق، وبكثافة غير معتادة عن تلك الحالة التي كنت أراها سابقًا، وقد انضاف إليها شبان على كراسيّ متحركة، يبدو أنهم من ضحايا الحرب التي أكلت الأخضر واليابس. وبمقابل هذا البؤس، تتظهّر تهامة الأخرى، الخصبة والمعطاءة، إذ رأينا من يعرض بالقرب من مجرى وادي "سردد" أنواعًا من الفواكه المبكرة قبل دخول موسمها، مثل المانجا والجَوافة والخِرمِش (الكريمة) والتمر الهندي، إلى جانب منتجات أخرى مستجلبة من المزارع القابعة بمحاذاة الطريق.

حالة البؤس العامة للمدينة تمثّلت في طفح المجاري وتآكل الطرقات، وتلطيخ جدرانها بالشعارات، إلى جانب تكدس القمامة. أما الفقر والجوع، فيمكن لأحدنا مشاهدته وهو يتقطَّر من وجوه الناس

دخلنا المدينة من جهة الشرق (كيلو 16) بعد فتح الطريق. أولُ حالة رعب انتابتني كانت من مشاهد دمار بوابة المدينة الحجرية الخضراء الجميلة، وتاليًا من دمار المباني في نقاط التماس بمنطقة "7 يوليو" التي مررنا بها بعد أن تعذر علينا سلك الطريق الرئيس الموصل لشارع صنعاء مباشرة، وهو الطريق الذي صار مغلقًا لأسباب تتصل بكثافة الألغام المزروعة فيه، كما قيل لنا.

اكتظاظ الفنادق بالنزلاء في مثل هذا التوقيت من العام، أعطى الحُديدة بعضًا من حيويتها، ولم تقف الأسعار المرتفعة والمُبالغ فيها للغرف والأجنحة من ازدياد الطلب عليها من قبل اللائذين بها من برد الجبال، وانعكس ذلك أيضًا في زحام الشاطئ (الكورنيش والكثيب).

حالة البؤس العامة للمدينة تمثّلت في طفح المجاري وتآكل الطرقات، وتلطيخ جدرانها بالشعارات، إلى جانب تكدس القمامة في الأزقّة والأحياء الشعبية. أما الفقر والجوع، فيمكن لأحدنا مشاهدته وهو يتقطَّر من وجوه الناس.

في قلب السوق الشعبي الأشهر في المدينة، تستوقفك لوحات بديعة لمسميات شوارع فرعية وأزقة بأسماء بعض رموز الحُديدة الثقافية والأدبية والسياسية، فقد رأيت شارعًا فرعيًّا باسم الشاعر عبدالله حسن غُدوة، وثانيًا باسم الأديب علي حمود عفيف، وثالثًا باسم الشاعر إبراهيم صادق، إلى جانب شارع باسم الضابط السبتمبري محمد الهنومي في المربع ذاته. هذه حالات تتوجب الثناء لتذكيرها برموز ثقافية وأدبية وسياسية تنتمي لهذه المدينة العظيمة، ولم يكن مرورها عابرًا في حياة اليمنيين.

يمكنك أيضًا مشاهدة بعض المحلات التجارية التقليدية لرواد العمل التجاري في المدينة، ومما شاهدت، المحل التجاري العتيق لرجل الأعمال الراحل ورئيس الاتحاد اليمني بعدن في العام 1952، (عبدالقادر أحمد علوان)، وهو ثابت في قلب السوق يقاوم الزمن، ويذكِّر بصاحبه الجليل.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English