"الهمدانيّ" وأعلامنا الكبار

جمع في منهجه بين سِيَر الحياة والإبداع
د.عبدالحكيم باقيس
December 23, 2022

"الهمدانيّ" وأعلامنا الكبار

جمع في منهجه بين سِيَر الحياة والإبداع
د.عبدالحكيم باقيس
December 23, 2022

حقّقَ الدكتور أحمد علي الهمداني منجزًا نقديًّا يغري -دائمًا- بالتأمّل في دوره المهمّ والمتعدّد في التأليف، والترجمة، والجمع والتقديم، في حقول الأدب كافة؛ الشعر، القصة، المسرحية، والموروث الشعبي. ويمكن الاكتفاء هنا في إطلالة ببليوغرافية سريعة، بما كتبه عن أعلامنا الكبار فحسب.

أبصر الدنيا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي في حيِّ الشيخ عثمان، أكبر أحياء المدينة عدن، المدينة الميناء المفتوحة على الثقافات والاتجاهات والمشارب المتعددة، المدينة التي ارتبطت بأهم التحوّلات الثقافية والفكرية في التاريخ اليمني المعاصر، المدينة العتبة بين اليمن والبحر الذي أمدَّها بالتجارة والوافدين، وبالغزاة والمستعمرين، وقذفت هي إليه بالمغامرين والمهاجرين.

وأمّا الأسرة فطيبة وبسيطة، طِيبة وبساطة كلّ اليمنيين، وأمّا الرحلة في محبة اللغة والأدب فممتدة منذ الأب علي أحمد حسن الهمداني الذي كان معلمه الأول، حين درس على يديه خير ما يستهلّ به التعلُّم، وهو القرآن الكريم الذي صاغ وعيه وشكّل وجدانه ومنحه عشقًا أبديًّا للغة العربية وعلومها وآدابها، ثم الجدة لأبيه التي غمرت خياله بمجموعة من الحكايات الشعبية والسير والأمثال الشعبية، فكانت بالنسبة له المستودع الكبير، والكنز الأثير لتلقي الأدب الشعبي والموروث الثقافي والحكمة. 

وفي مراحل التعليم في مدارس عدن الابتدائية والثانوية، أسهم مجموعةٌ من المعلمين في ضبط وتوجيه موهبته نحو المعرفة، وتلقّي الأدب العربي، وكان أبرزهم الأستاذ الشاعر إدريس حنبلة الذي قال عنه الهمداني: "لقد شكّل تعرفي إلى الشاعر إدريس حنبلة مرحلة أخرى في قراءة والتهام الكثير من الكتب في الشعر والأدب والنقد، وفي الدين والتاريخ الإسلامي واللغة والسياسة..."، ولم يكف في نهم متصل عن تلقي كل ما كانت تجود به وقتئذٍ مكتبات عدن وأرصفتها من الكتب والإصدارات المختلفة، ما أتاح له التعرّف إلى الأدب العربي القديم وتراثه النقدي، وحركة الأدب العربي الحديث، وقد شكّل ذلك أهمَّ مراحل تكوينه الثقافي قبل أن ينطلق في رحلة جديدة في تلقِّي الأدب والفكر العالمي أثناء بعثته الدراسية الطويلة إلى موسكو، فتعرّف إلى رافدٍ جديد شكّل معرفة أكاديمية بأدب وتراث الآخر في مجالَي السرد والمسرح، والنظرية النقدية الحديثة التي كان للروس ومدرستهم الشكلية فضلٌ كبير على التراث النقدي العالمي.

من الملاحظ في دراسته لهؤلاء الشعراء، سيطرة النزعة التأريخية التوثيقية الإحصائية، وهذه النزعة من وجهة نظر النقد التأسيسي مبررة ومنطقية، لا سيما في حالة التصدي لميراث شعري كبيرٍ لم ينل ما ينبغي له من العناية والنقد.

مارس الدكتور أحمد علي الهمداني الكتابةَ منذ سنّ مبكرة، فكتب المقالات الأدبية والنقدية في بعض الصحف والمجلات المحلية، لكن انطلاقته الحقيقية كانت بعد عودته من موسكو في أواخر الثمانينيات، حين كرس اسمه فيما يكتبه وينشره في عدن في الصحف والمجلات من مقالات علمية نقدية. ومثلما في كل بيئة ثقافية محلية من المبدعين الرواد أو ركائز النهضة الثقافية لهذه البيئة ممّن تكاد تذهب بإبداعاتهم رياح الإهمال أو تُردم أعمالهم تحت ركام النسيان، يأتي بعد حين من أبناء البيئة نفسها من يجلو عنهم ذلك الحيف، فيحفظ إرثهم ليقدّمه للناس.

إرث إبداعيّ

ما سبق بعضُ ما يحسب لأحمد علي الهمداني في هذا المجال، فهو لم يكف في دأبٍ مستمر وجهد واضح للعيان، عن إخراج مجموعة من الكتب التي جمع بين دفتيها شتاتًا كاد أن يتلاشى من أعمال مبدعين يمنيين لهم مكانتهم الكبيرة في النهضة الثقافية اليمنية، وفي خريطة الإبداع الأدبي والفكري اليمني المعاصر، من أمثال محمد علي لقمان، وعلي محمد لقمان، ومحمد سعيد جرادة، وإدريس حنبلة، وغيرهم من أعلام الثقافة اليمنية المعاصرة. فأعمال هؤلاء أوشكت أن تختفي أو تظل حبيسة الأدراج والأرفف الخاصة، إمّا لأنّها لم تطبع، أو لأنّها طُبعت في فترات ماضية وبنسخ محدودة لا تليق بمكانتهم وإرثهم الإبداعي، مثل: محمد علي لقمان، وعلي محمد لقمان.

ولم يقف عند إخراج أعمال هؤلاء من ماضي النسيان إلى حاضر الاهتمام النقدي، فنراه يقدّم لكل مجموعة كاملة يصدرها من أعمال هؤلاء الرواد، بمقدّمات نقدية تتضمن دراسات تحليلية لجوانب من إبداعاتهم وحياتهم، بحيث يمكن اعتبارها متضمِّنةً لموادٍّ أولية تضع الباحثين على السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي تشكّلت فيه هذه الأعمال، ما يعني أنّ عمله لا يكتفي بمجرد الجمع والتقديم -رغم أهمية ذلك- وإنّما يُعدُّ عملًا نقديًّا محتفيًا بتراثٍ إبداعيّ مهمّ في تاريخ الأدب اليمني المعاصر.

وقد كان لشعراء عدن الكبار النصيب الأوفر في نقد الهمداني، فقد كتب عن معظمهم؛ أفرد لبعضهم الكتب الخاصة بهم، وآخرون تناولهم بالنقد إمّا في المقدّمات، أو في مقالات وبحوث مجموعة في كتاب، بل نراه قد أفرد لبعضهم أكثر من كتاب، مستقصيًا تاريخهم الشعري، ومتوقفًا عندهم في أكثر من مرة ومناسبة، ومن هؤلاء: الشاعران إدريس حنبلة، ومحمد سعيد جرادة، ربما لأنّه وجد أنّ هذين الشاعرين لم يوضعا في مكانهما المناسب في تاريخ الشعر اليمني الحديث، ولم يتناولهما النقد إسوة بغيرهما من الشعراء الآخرين من أمثال لطفي جعفر أمان، ومحمد عبده غانم، وغيرهما.

سيرة تجديدية

ومن الملاحظ في دراسته لهؤلاء الشعراء، سيطرة النزعة التأريخية التوثيقية الإحصائية، وهذه النزعة من وجهة نظر النقد التأسيسي مبررة ومنطقية، لا سيما في حالة التصدي لميراث شعري كبير لم ينل ما ينبغي له من العناية والنقد، بمعنى أنّه لم يكتفِ بالتوقف عند النتاج الشعري بوصفه ظاهرة إبداعية فقط، بل اتّجه نحو استقصاء كافة تفاصيل التجربة الشعرية في إطار تشكّلها التاريخي، مستعينًا بالإحصاءات والجداول البيانية التي يذيل بها بعض كتبه، والتي تشكّل مرجعًا مهمًّا في تحليل بعض الظواهر الشعرية عند الشعراء المنقودين، ولذلك سنجد عناوين كتبه تبرز هذا المنحى التأريخي التوثيقي في رصد مسيرة الشعراء، فعلى سبيل المثال نجد: (إدريس حنبلة؛ الشاعر والمناضل من الثورة إلى الذات) يصف فيه رحلة الانكفاء في الموضوع الشعري عند حنبلة، و(محمد سعيد جرادة؛ البحث عن النموذج/ المثال من مشاعل الدرب إلى قصائد لم تنشر)، يصف فيه تطور تجربته الشعرية، و(محمد عبده غانم شاعرًا؛ من الرومانسية إلى الكلاسيكية)، وواضح أنّ حروف الجرّ تؤدّي في هذه العناوين دورًا مهمًّا في الإفشاء عن المنهج النقدي في دراسته لهؤلاء الشعراء، رغم ما توحي به من مفارقة أحيانًا، وهي ظاهرة متكررة في عناوين أخرى للهمداني.

من الشعراء الأعلام الذين كتب عنهم الهمداني؛ الشاعران الكبيران محمد محمود الزبيري الذي أفرد له كتاب (الزبيري؛ شاعر التغيير في اليمن)، وهو كتاب سار فيه الهمداني على منهجه المعروف في الجمع بين الحياة والإبداع، بوصف الأخير ثمرة لمجموعة التجارب والأحداث التي يمرُّ بها المبدع، لا سيما في حياة شاعر كبير مثل أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري الذي ارتبط أكثر من غيره من الشعراء بنضال اليمنيين ضد الظلم والاستبداد والتخلف، ودفع حياته ثمنًا لمبادئه.

أمّا الشاعر الثاني فهو محمد عبده غانم، أبرز شعراء اليمن في النصف الأول من القرن الماضي، وقد أفرد له كتاب (محمد عبده غانم شاعرًا، من الرومانسية إلى الكلاسيكية)، ويقع الكتاب في قسمين؛ الأول تناول قراءة في مضمون المحتوى الشعري في دواوينه الستة، بداية بديوانه الأول (على الشاطئ المسحور)، ونهاية بديوانه الأخير (الموجة السادسة). وتناول القسم الثاني قراءة تحليلية للخصائص الفنية ومقومات التجديد عند محمد عبده غانم، ورغم موقع الشاعر الكبير في تاريخ الشعر اليمني الحديث، فهو -كما يخلص الهمداني- لم يكن مجدّدًا في كافة مراحله الشعرية، ولم يذهب به التجديد بعيدًا، ويذهب في هذا الميل مع رأي الأستاذ الدكتور المقالح الذي قدّم للأعمال الكاملة للشاعر، ووجد تراجعًا وعودة إلى المحافظة، قد اضطرّ إليها الشاعر في بيئة لم تكن تتقبّل التجديد الشعري بسهولة، فأخذ في المواءمة والتراجع أحيانًا.

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English