أصبح كل صاحب موهبة أدبية في هذا الزمن، يجد ما يُعينه من وسائط تخدم نشر إبداعه وإيصاله إلى المتلقي، بل وإلى آفاق لم تتَح لمن سبقوه، فها هي صفحات المواقع الافتراضية متاحة، وتلك ندوات الفضاء المفتوح ترحّب بالجميع، وما على أيِّ راغب إلا أن يبدع ويتواصل لنشر إبداعه والمشاركة فيما يراه نافعًا؛ فلا حدود سياسية، ولا موانع جغرافية تقف أمامه، ولا المسافات تمثّل أدنى حائل، حتى لأجل طباعة الأعمال؛ يكفي أن يراسل أيٌّ منّا الدار التي يريد، ويبعث بنتاجه الأدبي وهو على مقعده في بيته، لتتم طباعته، فأيّ أعذارٍ تبقت للكسالى؟
هذه ليست مقدمة عن العمل الذي سنقاربه، بل ردٌّ على من نسمعهم يتشكّون من أنهم لا يجدون من يرعاهم أو يشجعهم، قد يقبل هذا الكلام يوم كانت صفحات الصحف والمجلات هي النافذة الوحيدة لتسليط الضوء على الجهد الأدبي، لنجد صدى لمن كان يردد مثل ذلك التذمر، ونلتمس لهم بعض العذر، أما اليوم فلا أعذار قط. وما دفعني إلى كتابة أسطري السابقة هذه هي الإصدارات المتوالية التي أجدها بين يدي وأنا في اليمن، أحصل عليها عبر الإنترنت وأسحبها لأحيلها إلى كتب ورقية تمامًا كما أنتجتها المطابع، إضافة إلى ما يصلني من إصدارات ورقية، فمؤخرًا قرأت: للسيد نجم، رواية "حصار الحمام البيض"، ولنهى عاصم، رواية "هذا جناه الأدب على أحلام"، ولسمير محمد، رواية "موكا سيتي"، ولنبيهة محضور، مجموعة قصصية "هوس"، ولعلي القدسي، نصوص "ترنيمة جدتي"، وأخيرًا للأديب عبدالوهاب سنين، رواية "حي البيازين"، الصادرة مؤخرًا عن دار عناوين، في القاهرة، وهو العمل الذي يدعونا صاحبه، ومنذ أول صفحة، لمشاركته رحلته الشيقة، إلى أمكنة لا نعرفها وأزمنة لم نعِشها.
لم تكتفِ جغرافية الرواية بتلك المدن، بل امتدت إلى غيرها، وتجاوزت البر الإيبيري إلى البر الإفريقي، إلى المدن المغربية، مثل فاس ومراكش وغيرها.
من الأندلس إلى المغرب
بداية بالعنوان "حي البيازين"، حيّ في إحدى مدن الأندلس، محور الصراع بين بقايا حكام عرب إقليم الأندلس الذي استمر قرونًا طويلة، ثم لوحة غلاف الرواية، التي تعرض منظرًا بديعًا لمنازل مدينةٍ يبدو من ألوانها الجمود والموات؛ فلا طير في سمائها، أو أي كائن في شوارعها، عدا جدران وأسطح منازل في منظر محير لسكونه وألوانه الباردة، وكأن الكاتب أراد نقل وضع تلك المدينة في آخر أيام الوجود العربي، الذي أنهكته المؤامرات والدسائس بين عناصر المتحكمين هناك، بعد أن أفلس الجميع عن إضافة شيء إلى ما قدّمه أسلافهم.
تعدّدت قضايا الرواية، وشخصياتها، واتسعت جغرافية أحداثها، وهو ما مثّل في البداية صعوبة في استيعابها، لكن سريعًا ما تميط أستارها في قراءة متأنية، حتى يستوعب القارئ ذلك الزخم المتنوع، الذي نجح الكاتب بواسطته في الإمساك بكل التفاصيل حتى النهاية، انطلاقًا من حي البيازين الذي مثّل بؤرة الأمكنة ومركز الأحداث، ومنه تعرفنا على مدينة غرناطة بقصورها وأحيائها وما يحيطها من طبيعة، ثم نتعرف إلى مدن متباعدة، مثل مالقة وقرطبة وطليطلة وقيسارية وقرى البشرات حتى إشبيلية وقشتالة عاصمة القوط الزاحفين على آخر المعاقل العربية الإسلامية، معتمدين على جيشٍ من الخونة ينخرون نظام الحاكم في غرناطة، "ما أبشع العرش وكل واحد من المتنازعين يستعين بالعدو القشتاليّ، المتربص والمتأبط شرًّا، متى يعي هؤلاء المتصارعون أنّ البيت الأندلسي العربي أوشك على السقوط، وها هو السلطان محمد الصغير في قبضة ملك القوط، أما عمه الزغل فلن يسلم أمر المملكة لابن أخيه ...". ثم نقتطع، اقترب القائد خوان من القس ليطلعه على تلك الوثائق، ثم عرفه بالعربي الذي يعمل تحت إمرتهم، نظر إليه القس بعينين غائرتين بازدراء..."؛ تلك الأسطر تشير إلى عمق الصراع على السلطة، ذلك الصراع الذي كان جوهره الاستيلاء على الجباية، يجاور ذلك الصراع عناصر من داخل القصر تعمل لصالح القوط الزاحفين من الشمال، مذللين الصعابَ لهم ومرشديهم إلى طرق ودهاليز الوصول.
لم تكتفِ جغرافية الرواية بتلك المدن بل امتدت إلى غيرها وتجاوزت البر الإيبيري إلى البر الإفريقي، إلى المدن المغربية، مثل فاس ومراكش وغيرها.
كما حفلت الرواية بتعدد الشخصيات، مثل: الشيخ الرملي أو أبو يعقوب، والد ذلك الفتى الذي كان ضحية لأحد الأمراء "حسام"، وهو أحد رجال القائد القوطي "خوان" الذي يتبع الملك فرناندو ملك أراغون وزوجته إيزابيلا ملكة قشتالة.
ثم يأتي والد حسام "ابن جشعون"، وهو الرأس المدبر للدسائس وعميل القوط، وبعده شخصيات عديدة، تعج بها صفحات الرواية، قد تتجاوز المئة اسم، من أهمها: نزهون، ابن يسار، ماتيلدا، نور العين، مهجة، قاسم، ابن قمارش، ابن عياض، صوفيا، جاد، زهير، المحتسب، أبو عبدالله الصغير، محمد الزغل، سُهيلة، حسناء، صموئيل، الطبيب محمد، أنخل، حمدون، لوسيا، دي ثنيسيروس، ريفيرا، سيمونيت، الأشهب، مصطفى... إلخ من تلك الأسماء التي كانت تتبعها صفاتها، مثل: الورّاق، النسّاج.
عالجت الرواية مواضيع عدة، من أهمها: الصراع على السلطة، الصراع على الجباية، الدسائس والعمالة، العاطفة، حكايات الحب والخيانة، الرعونة والقسوة المتمثلة في حسام الذي كانت ضحاياه عديدة من خلال الاغتصاب، والتعذيب، والطعن، والبتر، والسجن.
الرواية حفلت بجوانب فنية مبهرة، مثل ذلك الوصف الباذخ للأماكن والشخصيات، إلى درجة أنّ القارئ يجد نفسه كأنّه جزءٌ من تلك المشاهد الوصفية، وفي حياة ذلك المجتمع.
اشتباك بالزمن والمكان
كما أظهرت الرواية قوة الصداقة والوفاء، تلك التي لم تقتصر على أبناء العرق أو الملة الواحدة، كما قدمت فضاءً تخيليًّا لما عرفناه عن آخر أيام الأندلس تاريخيًّا، بأسلوب مشوق وثوب فني جاذب، إضافة إلى الثراء المعرفي، وكل ذلك دليل على سَعة ثقافة الكاتب بحياة ذلك الزمن، الذي صبها في تكوين مجتمع متخيل، مستندًا على حقائق ووقائع تاريخية.
الرواية حفلت بجوانب فنية مبهرة، مثل ذلك الوصف الباذخ للأماكن والشخصيات، إلى درجة أن القارئ يجد نفسه كأنه جزءٌ من تلك المشاهد الوصفية، وفي حياة ذلك المجتمع؛ "ظل البلنسي يدور برأسه يمنة ويسرة مندهشًا من جمال القصر، رأى نقوشًا على جدران القصر الذي يعود بناؤه إلى عهد السلطان محمد الخامس الغني بالله، كتب على جدرانه "لا غالب إلا الله" (...) استمر في التقدم فرأى الأروقة بعقودها المحمولة على مئة وأربعة وعشرين عمودًا من الرخام الأبيض في بهو السباع تعلوها أربع قباب...". وكذلك وصف شخصيات الرواية بشكل يقرب ذلك الزمن للقارئ بكل ما فيه: "يرتدي الثياب الأميرية الأندلسية؛ قميص برتقالي وجبّة سُكرية من الحرير الخالص مطرزة ببعض الجواهر، أما مقبض سيفه فمن العاج المرصع بالفصوص الكريمة، يعتمر عمامة ملونة من المخمل على ناصيتها الزمرد...". وهكذا يستمر في وصف الأماكن والشخصيات بطول يقارب الثلاثَ المئة صفحة، ليندغم القارئ في بيئة ثرية بفنونها وشخصيتها وجمالها.
ولذلك يجد القارئ نفسه في مواقف متباينة، فيكره هذه الشخصية؛ كحسام وابن جشعون وماتيلدا، ويتعاطف مع أخرى؛ مثل أبو يعقوب ونور ومهجة والمحتسب وحبيب.
لنجد أن شخصيات العمل تتباين بين من يتحلّون بقيمهم الإنسانية السامية وأعمالهم وصلاتهم، وبين من يجنحون إلى الخيانة، تسيّرهم مصالحهم، وتتخلل حياتهم أفعالٌ غير سوية، كالغدر والخيانة والاغتصاب.
إضافة إلى ما ذُكر من فنون، نجد فن الحوار أيضًا يختلف عما ألفناه في الأعمال الروائية ذات الحوارات المختزلة، لنجدها هنا أكثر شمولية وبما يتناسب مع شخصيات ذلك الزمن في حوارات مطولة وغنية بالمعرفة، مطعّمة بالعديد من الأبيات الشعرية، وتلك الرسائل التي تعكس إيقاع حياة ذلك المجتمع، وبلغته القديمة والمقعرة.
وهكذا نجح الكاتب بنقلنا إلى جغرافية وزمن لا نعرفه إلا بقدر ما قرأنا عنه، لتنتهي الرواية بدخول القوط غرناطة، ورحيل السلطان إلى البر الإفريقي، ثم يختتم روايته بفظائع محاكم التفتيش، وما صاحَبَها من عنف، ونزوح من عُرِفوا بالمورسكيين والمارانو.
رواية حي البيَّازين تحتاج أكثر من قراءة، لما تبثّه بين طياتها من تساؤلات كثيرة، تثير مخيلة القارئ وتدفعه للمزيد من التحليق الجميل.