يطل عيد الفطر المُبارك مُطلقًا قيود الصيام المفروضة في شهر رمضان المنقضي. ورغم ما تمتاز به اليمن من خصوصية اجتماعية في تقاليد الاحتفال بالعيد، فإنها أيضًا تشترك بعادات مع محيطها العربي، بما في ذلك: الغناء للعيد.
في هذا السياق، تستحضر اليمن في معظم تلك الأغاني، أساليبها الموسيقية التي تتميز باختلاف وخصوصية لافتة عما هو في العالم العربي، وهو اختلاف مُرتبط بعدة عناصر، بما في ذلك نسيجها المقامي والإيقاعي.
ولا يمكن إغفال شحة الإمكانيات التي فرضت على اليمنيين أن يكون غناءهم على العود غالبًا، دون مشاركة آلات موسيقية عديدة. وولدت أول أغنية للعيد في اليمن، وفق تلك الإمكانيات المحدودة.
إذ لم يكن هناك الكثير من زخم التحضير والترتيبات، إنما جاءت أغنية "آنستنا يا عيد" لعلي الآنسي، في لحظتها لتصبح فرح اليمنيين في العيد. وبحسب القصة الشائعة عن الأغنية، بأنها كُتبت ولُحنت في جلسة "قات"، جمعت شاعرها عباس المُطاع، وصاحب اللحن والغناء علي الآنسي.
كانت الجلسة بينهما في الليلة الأخيرة من رمضان قبل ما يزيد عن أربعة عقود. واقترح على الاثنين مُذيع في إذاعة تعز، وبعد مرور بعض الوقت دوّن المُطاع بقلمه شعرًا على بطن علبة السجائر، ثم انتقلت المدونة إلى الآنسي الذي أمسك عوده وارتجل اللحن. وهذا بالمُختصر قصة أغنية العيد التي هيمنت على ذاكرتنا اليمنية خلال أربعة عقود.
اختار الآنسي لأغنيته مقامه الأثير (البيات)، الذي كان له النصيب الأكبر من بين ألحانه، واتخذ طابعُ الأغنية أسلوبَ المذهب والغُصن، مُعتمدًا على لحنين مُختلفين؛ أحدهما للمذهب والآخر للأغصان، يناسبان سمتين تعبيريتين تتسم بهما صيغة المذهب من جهة، والأغصان من جهة أخرى.
فالمذهب دعوة للانبساط والفرح بالعيد وتأجيل متاعب الأيام؛ بينما الأغصان اتبعت سرد وصايا، منها ما هو تقليد شائع مثل السلام على الأهل والأصحاب، أو ترك العادات السيئة في العيد مثل المشاحنات، أو البُخل، دون إغفال العطف على السائل.
هذا الأسلوب المُنتحل، لأداء الموروث اليمني في موطنه الأصلي وبذلك الإفراط من التقليد، يبدو محاولة غير واعية لتوطين ما تم مسخه من غناء يمني خارج اليمن، وفي الوقت نفسه ينم عن تخبط لدى شريحة من الشباب اليمني في إيجاد هوية غنائية حقيقية لهم.
كان لِتردُّدِ الأغنية في كل عيد سببٌ في انتشارها ونجاحها بين اليمنيين على مدى سنوات طويلة. لكن ذلك ليس السبب الوحيد، إذ تتوافق عدة عوامل؛ منها سهولة اللحن وانسياب جملها اللحنية، بما يجعلها سهلة الحفظ والترديد.
وهذا أمر في غاية الأهمية؛ كون الأغنية مُناسباتية وخطابها يشمل شرائح مُجتمعية متنوعة ومختلفة، وليست موجهة لنخبة مُحددة. ولا ننسى محتواها التعبيري الذي أقام جسرًا واقعيًّا مع عادات العيد المُرتبطة بالواقع اليمني، ويتناولها بصيغة بسيطة مُغلفة في قالب من الحِكَم، التي من شأنها دفع الناس إلى خلق أجواء صحية في العيد.
وتمتاز أيضًا بتناولها الكلام اليومي، في سياق لطيف؛ أي إنها حاكت واقع العيد وجزءًا من تقاليده اليمنية. وهذا كان عاملًا جوهريًّا في ارتباطها بذاكرة العيد على مدى أربعة عقود وأكثر، بيوم العيد، شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا. وبالتأكيد كان للتلفزيون اليمني والإذاعات دورٌ في جعل الأغنية تُردَّد. لكنها أيضًا في أزمنة سابقة، كانت تنبعث بشكل واسع من البيوت أو السيارات يوم العيد.
وليس خفيًّا أنها أيضًا ارتبطت بالشاعر عباس المُطاع وصوت علي الآنسي المحبوب لدى شريحة واسعة من اليمنيين.
وبخلاف هذه الجزئية الأخيرة التي لا تستمر مع ظهور أجيال جديدة، تتطلب منهم أن يضيفوا إلى أغنية العيد، ألا أن ما تظهر من أغانٍ للعيد، لم تأبه لعوامل نجاح رئيسية، وهو أنّ أغنيةً للعيد ليس مطلوبٌ منها الكثير من البهرجة، إنما ملامسة المشاعر اليومية للعيد، والتعبير عنه كلامًا ولحنًا بانبساط.
ولا يعني أنها أُغنية مُلزمة بالتقليد الموسيقي اليمني البحت، بل على العكس، فالغناء مطلوبٌ منه الخضوع للتجديد والابتكار؛ فالأزمان تغيرت وواقع العيد أصبح مشغولًا بواقع أكثر تعقيد.
لكن بعض ما يصدر حديثًا عن العيد، يتبنى تلفيقًا يحاول أن يكون تجديدًا؛ وبالتالي يصبغ الغناء اليمني نفسه بطابع مشوه، وتحديدًا في تبنيه ما يُستنسخ من الألحان اليمنية في إسرائيل، وهو ما شاع تقديمه في أوساط المُغنّين الإسرائيليين المُنحدر أسلافهم من اليمن.
وهو ما انتقل مؤخرًا لأغاني العيد، كما في أوبريت "ما عيد إلا في اليمن" الذي يقدمه مجموعة من الفنانين اليمنيين الشباب؛ فالغناء يبدأ بالطابع المُنتحل السابق ذكره، والذي لا صلة له بالأسلوب اليمني، ويمكن اعتباره تقليدًا لأداء مُنتحل، ينم عن قصور في الوعي الموسيقي لدى الشباب اليمنيين.
وبعيدًا عما تشهده الألحان اليمنية من تغييرات مقامية هناك، فإنها تخضع لتلوينات صوتية خاصة بهم، منها تلك الرعشات الصوتية التي تخص أسلوبهم، هذا بخلاف اللكنة المُحرفة لأداء الكلمات المُحرفة، التي تنعكس حتمًا على الأداء التعبيري للحن أو الغناء، وتقدمه بصورة مشوهة مهما تميزت الأصوات هناك.
وحتى لا نكون متحاملين، يمكن تقبل هذا الطابع المُنتحل للغناء اليمني وسط مجتمعات إسرائيلية من أصول يمنية وُلدت في فلسطين، حيث يتماهى مع تقاليد إحيائية وُرث من خلالها حنين الأسلاف لجذورهم، وكذلك نوعًا من تأكيد الهُوية وسط مجتمعات فسيفسائية تم تجميعها من مختلف بلدان العالم إلى فلسطين.
بينما هذا الأسلوب المُنتحل، لأداء الموروث اليمني في موطنه الأصلي وبذلك الإفراط من التقليد- يبدو محاولة غير واعية لتوطين ما تم مسخه من غناء يمني خارج اليمن، وفي الوقت نفسه ينم عن تخبط لدى شريحة من الشباب اليمني في إيجاد هوية غنائية حقيقية لهم، ولعلها محاولة للتغطية على ذلك، وعدم اقتدارهم على خلق تجديد حقيقي.
ومحاولة التوطين كانت واضحة، في مجاراة هذا الأسلوب المُقلد، ضمن سياق يُبرز تقاليد يمنية واضحة، فرِداء المُغنيين المؤدين لهذا الأسلوب، تقليدي، بينما الإيحاء اللحني المُرتبط بالموروث اليمني يقتصر على إيقاع البرع، كما أن المنزل صنعاني قديم، وتظهر فتاة مرتدية زيًّا صنعانيًّا يعلو رأسها ربطة "المشك" بمقدمة تاجية، وهو الطابع الأثير الذي ترتديه نساء المجتمعات الإسرائيلية في المناسبات، لإظهار موروث أسلافهم القادمين من اليمن.
وليس مفهومًا لماذا تعمد فيديو الأوبريت المؤدين للغناء بطابع يمني تقليدي، يرتدون ملابس حديثة. ليس عيبًا، إذ لم يحتكر الرداء التقليدي الفنانون اليمنيون وهم يؤدون موروثهم أو غناءً مُلتصقًا بميراثهم. لكن ما معنى تلك المُحاكاة والتلفيق الذي لم يُنتج لحنًا للعيد قابلًا للبقاء في ذاكرة اليمنيين؟!
صحيح أن الأغنية اليمنية لم تحقق التطور المطلوب مُقارنة بجوارنا العربي، بما فيه الأكثر قربًا؛ أي منطقة الخليج، لكن لا يمكن إغفال قاعدة تجديد أسَّسها فنانون يمنيون في عدن وصنعاء، قابلة لأن نذهب بها بعيدًا.
وهذا أيضًا ينطبق على تقديم عمل يمكنه الانضمام لأغنية يتيمة ما زال اليمنيون يستحضرونها كل عيد، لكن بين زمن ولادة "آنستنا يا عيد" ويومنا تشكلت هوة بين فترة صعود وطني وزمن أفوله، وما السياسة إلا واقع يلتصق جنبًا إلى جنب مع ملامح أُخرى، منها الفن. وما الأغاني إلا مفردات تُعبر عن ماضٍ كان الطريق لا يزال أمامنا طويلًا، قابله فتور الهمة، وحاضر صحا ليجد نفسه عالة في السياسة والفن على ماضيه، ويقتفي الآخرين مشوهًا.