لا تكاد تسمع له صوتًا، كلماته همس، وأحاديثه قليلة الكلم، ولسانه كثيرة التلعثم، ضئيل الجسم، نحيف القامة، قصير الطول. لا تعرفه إلا بكوفيته الزنجبارية، هو شيخيّ المولد (مدينة الشيخ عثمان) في عدن، من حافة دبع -بحسب إفادة تلميذه في الابتدائي، القاصّ والمسرحي والكاتب الصحفي الساخر سعيد عولقي- وأنا الابن الشيخي العتيق، ابن حافة الهاشمي من قسم B، لا تفصل بيننا إلا عدة حارات تعد بأصابع اليد !
لم ألتقِه وجهًا لوجه إلا بشكل عابر، وربما في حديث غير مباشر، ومرات قليلة حضرت له ندوة أو فعالية.
كان يأتي إلى صحيفة (14 أكتوبر) إلى القسم الثقافي، يلتقي رئيس القسم العريق شكيب عوض، وفي لمح البصر: من هنا ضاع أو اختفى، لا تسمع خبرًا أنه جاء، حتى يلاحقك خبرٌ آخر أنه ذهب، ذهب مع الريح كأنه ورقة صفصاف أو أنه ذلك الرجل الذي ينطبق عليه قول الشاعر: "وولّى، ما عرفناه!".
يبدو للناظر إليه، أنه انطوائي يعتزل الناس والحياة العامة، عيناه كثيرًا ما تطرف وهو يجاهد أن يكلم أحدًا، وكثيرا ما تخونه لسانه فيتلعثم في إخراج كلماته، لكنه في سِيماء شخصه العابرة كالطيف، يبدو لك أنه بئر عميقة من الأسرار، وكنز مدفون من الإبداع غير المعلن. هذا انطباعيّ الأوليّ لراهب الكتابة، سخّر حياته لكتابة القصة القصيرة، وكفى نفسه شرّ التعارف أو التلاقي مع الآخرين، ومنهم أبناء الوسط الأدبي.
وسؤالي الذي يطنّ في رأسي: لماذا أهملت التواصل المباشر مع هذا الرجل، حتى لكأني أبدو مثله انطوائيًّا غير اجتماعي في خلق العلاقات العامة، عكس زملاء وشعراء آخرين، أمثال الشاعر شوقي شفيق، الذي نعرفه بسيد العلاقات العامة والانفتاح على الآخرين، تحت أيّ ظرف أو مناسبة !
كل هذه الاستعادات داهمتني بعد أن فات الأوان، وحلَّت ساعة ترحاله، وجاءت الأخبار برحيله الهادئ كهدوء شخصيته.
ولكن يبقى السؤال يلح عليّ: لماذا لم ألتقِ الرجل، ولم أنضمّ إلى باقة صحبته أو الجلوس معه أو الحديث إليه. سؤال ينم عن تقصير ذاتي مني بالتأكيد !
هكذا نحن شغلتنا الحياة وأناخت بكَلكَلِها على صدورنا حتى أنستنا من يكون حوالينا، ومن يرنم في خواء حياتنا نغمًا هامسًا، فلا نستمع لصوته الهامس؛ لأنّ جلبة البحث عن لقمة العيش غلبتنا وأغوتنا عن البحث في حقيقتنا الضائعة، وتركتنا بين غواية الانعزال عن أهل الدار (الدار الثقافية والأدبية) أو نسيان النص الذي يصنعه أمثال القاص الرائد، والذي يجعل منك قبل أن تكون الإنسان النمطي طيفًا لامعًا من الاكتشاف لمن حولك في عوالم متجددة. سأظل أندم على هذه الجفوة المأسوفة التي ارتكبتها في حق رجل يستحق الوصول إليه سعيًا وركبانًا!
قدرة فائقة على استخدام كافة طرائق التعبير، من سرد إلى منولوج إلى حوار، وتمكن من اختيار لغته حتى ارتفعت في بعض قصصه إلى مستوى الشعر.
مقاربة تجايلية مع الرائد محفوظ
ولأنني لا أكتب إلا عن أناس مبدعين أو غير مبدعين تنالني منهم حزمة ولو ضئيلة من أوقات التواصل أو اللقاءات، فلذا وأنا أحاول أن أكتب شيئًا عن الراهب القصصي أحمد محفوظ عمر، أجد صعوبة في تخطي حاجز الحاجة إلى الاقتراب الحميمي من هذه الشخصية الرائدة، إلى محاولة الكتابة عنها من المخيال النقدي أو السرد الافتراضي دون أي إمساك بلحظة حميمية تجعل من هذه الشخصية المختارة للكتابة عنها من دم ولحم.
وهذا ما يجعلني في حيرة الكتابة عنه!
إذن، هو أحمد محفوظ عمر، تقول سيرته إنه من مواليد ١٩٣٦، في مدينة الشيخ عثمان، مدينة مسقط رأسي. وهذا العام يجعله من جيل ميلاد أبي أو أصغر منه قليلًا. مجايلوه من القصّاصين: عبدالله سالم باوزير، وحسين سالم باصديق، علي باذيب، عبدالمجيد القاضي، وغيرهم من قصّاصي عدن.
تقول السيرة إنه أول ما عُرف، بصفته كاتبًا قصصيًّا، أنّه فاز في مسابقة القصة القصيرة التي نظّمتها مجلة (النهضة) العدنية عن قصته التي كانت بعنوان (مرضعة الأطفال)، عام (1956)؛ أي قبل سنة ميلادي بأكثر من عام؛ أي إنه احترف الكتابة وأنا في بطن أمي، وإن تاريخه الأدبي يتجاوز سنوات عمري من بداياته حتى يوم وفاته، ولقد نشر مجموعته الأولى (الإنذار الممزق) عام ١٩٥٩؛ أي وأنا أحبو بعد الثانية من العمر!
هذه مقارنة تجايلية بيني وبين مَن أكتب عنه، تضعني أقف أمام إبداع هذا الأديب الذي مقياس تاريخه الأدبي بمقياس سني وأكثر. وإنها لَتضعني في حالة من الاستيحاء في صوغ الكلمات عنه، وتجسيد الصورة الشخصية والأدبية وتقييمها عنه.
القاصّ الذي ارتقى سلّم الشعرية
لفت انتباهي ما قال عنه الأديب والناقد السوري، فوزي معروف: "طور أحمد محفوظ عمر الفن القصصي ووصل به إلى مستواه في بقية الأقطار لقدرته على استخدام كافة طرائق التعبير من سرد إلى منولوج إلى حوار، وتمكن من اختيار لغته حتى ارتفعت في بعض قصصه إلى مستوى الشعر. كما ابتعدت القصة عنده عن المباشرة والأسلوب التقريري، حتى وهو يعالج موضوعًا من الواقع، إذ نحس أنه لا يمسك القلم إلا بعد أن يكتمل نضج الموضوع في ذاته، كما أنّ القصة لا تلتزم عنده أسلوبًا واحدًا، بل تتنوع الأساليب حسب الحدث وطبيعة تطوره، وكذلك لا يتقيد بمفهوم تقليدي في بناء القصة، بل إنّ كل قصة عنده تبدع شكلها الذي يناسب مضمونها والهدف منها. وهذه صفات الكبار من أعلام هذا الفن."
عند هذه النقطة أقف لاستذكر مدى إعجاب القاصّ الراحل كمال الدين محمد بهذا القاص الرائد، والإكثار من الحديث عنه، حيث إنني أكتشف الآن أنّ القاص كمال الدين التقط من أسلوب القاص أحمد محفوظ عمر تلك الرغبة في استخدام اللغة الشعرية في كثير من قصصه، وتلك مزية سبقت عند الرائد أحمد محفوظ، وطورها كمال الدين محمد بأسلوبه الحداثي، والتقاطاته المائزة المعبرة عن زمنه وحدثه الخاص به.
ذلك استنتاج أحتاج فيه إلى التدليل عليه بالبحث والمقارنة؛ لأنّ دالتي الوحيدة في هذا الأمر هو ما أستخلصه من اصطفاء القاص كمال الدين، أحمد محفوظ عمر بتركيز الحديث عنه من بين قائمة القصاصين المجايلين لابن عمر.
هذا النص أو التحليل النقدي السالف الذكر، لقصص أحمد محفوظ، يكشف عن الهُوية الشاعرية في فنّ الكتابة التي جذبت القاصّ إلى هاوية الشعر. وبالمقارنة، سمة رأيتها جلية في قصص كمال الدين محمد، ولربما بدا كمال متأثرًا بأحمد محفوظ، ونقل عنه هذا الاشتغال، واشتغل عليها مليًّا حتى كادت تكون نصوص كمال الدين القصصية نصوصًا هي إلى الشعر أقرب.
أصبحت الكتابة القصصية لديه، بحثًا في تناغم الكلم جنبًا إلى جنب مع تناغم الأحداث المتواترة والمتخيلة.
مثلث التلاقي الثلاثي في المسرح التجريبي
أتذكر في الثمانينيات أنّ القاص كمال الدين كان وراء تحويل قصة (يا أهل هذا الجبل) للقاص أحمد محفوظ عمر، إلى مسرحية تنتمي إلى المسرح التجريبي، من إخراج المخرج المسرحي الراحل جميل محفوظ، ذلك المخرج المبدع وغير النمطي في اختيار مسرحياته؛ لأنه كما قلت مهتمٌّ كل الاهتمام بالمسرح التجريبي، وخاصة مسرح الأديب المسرحي العالمي الألماني أرنولد بريخت.
هذه المسرحية التي تم مسرحتها من قصة أحمد محفوظ عمر، عبرت عن مثلث التلاقي بين قاصّ (أحمد محفوظ عمر) أنتجَ نصًّا تجريبيًّا في اللغة والحدث والتصور العام، وبين قاصٍّ شاب (كمال الدين محمد) منبهر بل ومتواتر مع تجربة القاصّ الرائد أحمد محفوظ، ويتنكب تجربته القصصية على طريقته الخاصة وضمن المدرسة الحداثية، وبين مخرجٍ مسرحي غير نمطي (جميل محفوظ)، المهووس بالمسرح التجريبي.
ويومها كان العرض المسرحي (يا أهل هذا الجبل)، تعبيرًا وتجلّيًا عن مرحلة الثمانينيات التي تمتعت بالانفتاح على المستوى السياسي وبالتجريب والحداثة في معاكسة مع التسطير الأيديولوجي للمدرسة الواقعية في الأدب التي كانت سائدة، ومن الدهشة الإبداعية أن يأتي القاص أحمد محفوظ عمر من زمن الآباء، وليس من جيل الأدباء الشباب، ليعبر عن لحظة متقدمة وتقدمية في حداثيتها في صياغة النص واختيار الأسلوب وزاوية الرؤية الإبداعية لفنٍّ من فنون التعبير (القص)، تجاوز فيها جيله من القصاصين، وانتمى إلى زمن إبداعي ورؤيوي متأصل في إحداث الدهشة والفرادة والريادة، ليس على المستوى الوطني في عدن أو اليمن بل في الأدب العربي.
من لغة الصمت إلى انفجار الإبداع
أرى على المستوى التكويني والشخصي لأحمد عمر، في انعزاليته وانغماسه في وشوشة همسات كلماته في الحديث والقول، أن الكتابة القصصية أصبحت لديه بحثًا في تناغم الكلم جنبًا إلى جنب مع تناغم الأحداث المتواترة والمتخيلة.
ربما بحثه عن ملاذ الصمت الذي تجسده تلك المفارقة بين الأجراس ذات الجلجلة العالية وبين حالة الصمت التي تعيشها قصص (الأجراس الصامتة)، هو حالة تضادّ الوجود الكينوني الصاخب الذي وُلدت من رحمه مجموعتُه القصصية تلك، وهي مرحلة من تاريخ عدن واليمن، اتسمت بالكفاح المسلح قبل الاستقلال والعنف الثوري المنظم في أوائل السبعينيات، الذي اتبعته سلطة الدولة الوطنية الوليدة في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وبين الخيال الشعري الحالم الذي يتمنى به تجاوز قرع أجراس الأحداث المتسارعة، وهي في الأخير حالة تعبير عما هو عليه وفيه الإنسان أحمد عمر، وما هو عليه من بحث عن النقيض الذي يترجم أحاسيسَه ذلك القلمُ الذي يخط به قصصه ويرسم الخيال الذي يسبح به بعيدًا في عالم الهدوء والشعرية الناعمة.
جاء في الدراسة التي صدرت باللغة الروسية في مجلة (البشير)، الصادرة عن جامعة بطرسبرغ عام 2005، سلسلة رقم (4)، إصدار رقم (2)، بقلم: د. ميخائيل سوفوروف، وهي بعنوان (أحمد محفوظ عمر من التقليدية إلى التحديث)، وقد نشرتها مجلة الثقافة (العدد 79، يوليو 2007، السنة السادسة عشرة)، يفتتح الباحث مقالته:
"أحمد محفوظ عمر، أحد الكتّاب، الذي كان طريقه الإبداعي يوضح اتجاهات التطور الفني للقصة اليمنية منذ أواسط عقد الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات".
وتكمل المقالة: "بعد استقلال جنوب اليمن، قدم أحمد محفوظ عمر استقالته من الجيش في عام 1969، وعمل مدرِّسًا، حيث يبدو أنّ الحياة الجديدة في عدن، أدّت إلى خيبة أمل لدى الكاتب، وأظهرت روح اليأس والتشاؤم في أدبه. في عام 1974، أصدر المجموعة الجديدة (الأجراس الصامتة). قصص هذه المجموعة تميزت بلغتها الفنية والتركيبية المعدة بدقة، مع انتقاله السريع من مشهد إلى مشهد، من خيال البطل إلى الواقع، من الواقع إلى الذكريات والمناجاة الداخلية العاطفية، التي تتحول إلى تيار المشاعر بفكره الفلسفي العميق، مع اختلاف نوعية المشاهد، من المدونات اليومية إلى الصور والمشاهد الرمزية".
يعد أحمد محفوظ عمر آخر الأدباء المخضرمين من الذين سقطت أوراقهم قبله، وبقي هو في محراب صمته وعزلته شاهدًا على بواقي الإبداع الفريد من نسل آبائنا الأدباء المحترمين.
فرادة في التخييل والتجريب
أحمد محفوظ عمر كاتبٌ قصصيّ رائد في احتراف الفنّ القصصي، ولقد دخل عوالمه من طرق تخييلية غير تقليدية، واستخدم أدوات لغوية وحوارية في القصّ متجاوزة زمنه القصصي، وفي نصه ذلك العمق الذي لم يتوفر عند كثير من مجايليه من القصّاصين، وتلك حالة عبّرت عن فرادته في المشهد القصصي المتداول يومها، وكانت بالطبع تجربة ملهمة للجيل القادم من بعده، وخطّت مسارًا بقدر ما يخصه بصفته مبدعًا عند الاستقراء النقدي التقييمي لتجربته القصصية، ومنحته فرصة التجايل والتأثير مع جيل جديد من القصاصين الشباب، الذين عثروا عليه في منتصف الطريق منتصبًا بهامته الإبداعية المتفردة، ولم يتوانوا عن إكمال الطريق به وعبره.
هذه خلاصة متواضعة في تقييم أدب القاص الرائد أحمد محفوظ عمر، تجعله أيقونة في التجديد القصصي، وسيظلّ مُلهِمًا للأجيال من بعده، وقابلًا للحضور آنيًّا ومستقبلًا.
فمن الناحية البحثية، يعد أحمد محفوظ عمر آخرَ الأدباء المخضرمين الذين سقطت أوراقهم قبله، وبقي هو في محراب صمته وعزلته شاهدًا على بواقي الإبداع الفريد من نسل آبائنا الأدباء المحترمين. أختتم المقال بما نقله الكاتب الروسي في مقالته السالفة الذكر، عن الباحث الألماني جونتر أورت، الذي انشغل بالكتابة السردية اليمنية طويلًا، قوله:
"تم اعتبار أحمد محفوظ عمر رائدَ التحديث في السرد العربي واليمني، الذي تبعه الكثير من الكتاب اليمنيين، مثل: إبراهيم الكاف، زيد مطيع دماج، ميفع عبدالرحمن، علي صالح عبدالله، كمال الدين محمد، محمد صالح حيدرة، وآخرين".
وهذا ما كان عليه الرائد أحمد محفوظ عمر، وما أحدثه من صدمة تجديدية لا يزال وقعها ساريًا، وتجلياتها ساطعة، وأثرها باقيًا في سِفر الإبداع القصصي.