رحيل "أحمد فدعق" الصامت

روائيّ واقعي سحبَتْه الحياة إلى قاعها
د.عبدالحكيم باقيس
April 28, 2024

رحيل "أحمد فدعق" الصامت

روائيّ واقعي سحبَتْه الحياة إلى قاعها
د.عبدالحكيم باقيس
April 28, 2024
.

أحمد عبدالله فدعق، بسحنته البسيطة، المرسوم عليه كدّ الأيام وشقاء السنين، يرحل عن عالمنا بصمت حزين، وهو ملتصق بهموم المكان وأوجاعه، في مدينةٍ يبسط الحزن فيها جناحيه على ملامح الناس ووجوههم المرهقة، وحيث أمكنته العتيقة وذاكرتها المتخمة بالتفاصيل والأوجاع في سوق الطعام والزعفران والطويلة وكريتر وبقية أحياء عدن القديمة، التي تبادله الحزن ويدها مغلولة فارغة إلا من تحية وداع واحتضان أخير!

ولعل وصفه بـ"المثقف الصامت"، بحسب وصف مجلة "فنار عدن"، التي أجرت معه حوارًا قصيرًا قبل أشهر، من أصدق ما يمكن أن يُوصَف به هذا الكاتب، فقد أفضى فيه للمرة الأولى ببعضٍ من المعلومات عن حياته الاجتماعية والمهنية والإبداعية، قبل أن يلوذ بالصمت الأخير والغياب الأعظم، بعد أن عاش بعيدًا عن الأضواء وصخبها. وكنت قد سجلت له في مارس 2015، حلقتين، مدتهما ساعة ونصف من برنامجي (قال الراوي) في إذاعة عدن، حول تكوينه الثقافي وكتاباته ورؤيته للمشهد الثقافي وشجون عامة، لكن المؤسف أنّه لم تُتِح قذائفُ الحرب وأدخنتها التي ألهبت عدن وقتئذٍ لهاتين الحلقتين أن يُبثَّا، وتوقف البرنامج بتوقف إذاعة عدن التي كان يعمل فيها كذلك.

ينتمي فدعق على مستوى الكتابة الروائية، إلى جيل كتاب الرواية الواقعية في اليمن، الذي يتقدمه محمد عبدالولي في بدايات السبعينيات ويقف فيه طابور كبير من الكتّاب الذين تميّزوا بكتابة الرواية الواحدة، مع استثناءات نادرة جدًّا، ما يشكّل سمة عامة لعطاء هذا الجيل المتعثر في مواصلة الكتابة، على الرغم من وعيه بأهمية الرواية وتأثيرها، منهم من احتضنته المؤسسات السياسية والثقافية، فارتفع شأنه ولم يعِش المعاناة التي عاشها كُتّاب آخرون، ممن ظلت أوتاد المعيشة وهموم الحياة اليومية تسحبهم إلى قاع الحياة وتحجب عنهم فرص الأضواء، وإذا كانت حظوظ هذا الجيل من الكتّاب تفاوتت في الشهرة والانتشار، فقد كان فدعق الروائي، مثل باوزير القاص؛ أحد أشقياء هذا الجيل وضحايا ورطة الزمان والمكان في عدن، ممن لم يغامروا بالخروج من "الدائرة الحمراء"، بحسب وصف أبوبكر المشهور العدني، وهي ورطة متناسلة حتى اليوم وبألوان عديدة وجديدة، يعاني منها الكُتّاب والمبدعون من مختلف الأجيال، وأكثرهم ممّن يلوذ ببلاغة الصامتين!

كتب فدعق روايتين؛ الأولى "القرية التي تحلم" في منتصف الثمانينيات، ثم صمت بعد ذلك نحو ربع قرن، ليكتب "جذور لا تموت" في نهاية القرن، يبدو أنّ ملحمة الحياة اليومية في العمل والكد في مكاتب الترجمة والطباعة في كريتر، لم ترهق صحته فحسب، بل التهمت كل وقته، ولم يجد من ترف للتفرغ للكتابة ومواصلتها؛ ما أثّر على حظه وتعزيز وجوده في المشهد الثقافي، وهو في أحاديثه غير راضٍ عن روايته الثانية قياسًا بالنجاح الذي حقّقته روايته الأولى في الثمانينيات، وهذه شجاعة نادرة؛ أن يرى الكاتب أنّ عطاءه الإبداعي قد تراجع، لكن عند التأمل يمكن أن نستنتج أسبابًا أخرى لهذا التراجع، مثل غياب الفرص أو ندرتها في عدن، ما يؤدّي بكثير من الكتّاب إلى الانكفاء، وربما النكوص الإبداعي، وهي أسباب تتصل بخصوصية الفضاء السوسيوثقافي العام، وطبيعة البيئة المكانية الطاردة للفرص التي تصنع التطور والكتابة والانتشار، فللأمكنة تأثيراتُها في تطور الإبداع أو كبته.

لأحمد فدعق كتابات أخرى شعرية، جمعها في ديوان "من وحي قلعة صيرة"، وكتابات في الترجمة عن الإنجليزية، منها "تمرد عدن" لجوناثان ووكر، و"تحليل الوضع الاجتماعي لليمن" لدانييل مارتن، لكن اشتغاله بالترجمة العمومية والمتطلبات الأهلية بوصفها مصدر رزقه وطعامه، كانت تستنفد جُلّ وقته.

لقد كانت "القرية التي تحلم" بالنسبة لفدعق، أسوة بالعديد من كتابات الجنوبيين السائدة قبل أكثر من نصف قرن- ثمرةَ فَهمِ وظيفةِ الأدب في الالتزام بقضايا المجتمع، ووفق مبادئ الواقعية الاشتراكية في تخليق نموذج البطل الثوري الإيجابي، ودور الرواية والفن عامة في تثوير المجتمع؛ بمعنى أنّ رؤية الكتابة عنده كانت واضحة المعالم، وقد تخيّرَ بيئةً قروية شبوانية لإدارة الصراع في الرواية بين القديم الرجعي والجديد التقدمي، وقد ذكر هو نفسه أنّه استمدّ موضوعها من إحدى القرى في منطقة حبان في محافظة شبوة. والرواية تصف أساليب الظلم التي يتعرض لها المزارعون من شيخ القرية وعائلته، فيُقرّر أحدُ القرويين أن يقود ثورة ضد شيخ القرية ومجابهته بقوة السلاح، مستلهِمًا في أثناء السرد العديدَ من العناصر والخصوصيات المحلية في البيئة الريفية؛ كالصراع على الأرض، وقضايا الثأر القَبَلي، فضلًا عن استلهام الرواية العديدَ من العناصر الثقافية والموروثات الشعبية، وهو ما منح الرواية أهميةً خاصة بين المكتوب في فترة الثمانينيات، وقد تم تحويها إثر ذلك إلى مسلسل إذاعي ناجح، حين كان للبثّ الإذاعي جمهوره الشغوف العريض المتابع، وحين كانت الإذاعة نافذةً على الأدب والبرامج الجادّة والهادفة. في الرواية، تحرّرت القرية التي كانت تحلم بالتغيير، في إطار بنية المتخيل، لكنها في الواقع المرجعي سقطت من جديد في يد الشيخ القَبَلي المغتصب، وغرقت في الفوضى والصراعات، وتحوّل حلمها إلى كابوس، وعلى هذا النحو يمكن أن نفهم المفارقة في الرمز بين الأدب الحالم والواقع المرعب، والقرية بوصفها رمزًا للوطن الذي لا يكف الحالمون عن تشييد صورته، وفي كل الأحوال كانت الرواية سياسيةً واقعية واضحةَ المعالم والدلالات.

لأحمد عبدالله فدعق، كتاباتٌ أخرى شعرية، جمعها في ديوان "من وحي قلعة صيرة"، وكتابات في الترجمة عن الإنجليزية، منها "تمرد عدن" لجوناثان ووكر، و"تحليل الوضع الاجتماعي لليمن" لدانييل مارتن، منذ عشرين سنة خلت، لكن اشتغاله بالترجمة العمومية والمتطلبات الأهلية بوصفها مصدر رزقه وطعامه، كانت تستنفد جُلَّ وقته، فكيف لا يكون هذا الكاتب من الصامتين؟! 

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English