في البَدء أعترف بأنـه لم يتَح لي لقاء عدد من الفنانين الكبار، مثل الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي ومحمد صالح عزاني، لكن الحظ أسعفني بأن أحظى بالمعرفة لفنانين كبار، ومنهم: محمد مرشد ناجي، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد محسن عطروش، وفيصل علوي، وعبدالرحمن باجنيد. وكانت هذه المعرفة فرصة لأن أقترب من عالم هؤلاء العظماء، الذين أثروا ذائقتنا الموسيقية منذ الصغر، مثلما كان افتقاد اللقاء والمعرفة بالآخرين خسارة معرفية لي، لا تكمل الصورة التي يرسمها المرء عن هذا العلم الفني والغنائي أو ذاك، ولا يمنحه فرصة معرفة تفاصيل تساعد على تكوين الإطار الكلي لها من النواحي الإبداعية والإنسانية كافة. ومن هؤلاء الفنانين الكبار الذين تعرفت عليهم، كان الفنان المرشدي الشخصية الآسرة والممتعة بخصال (المعلم)، التي تجعل من وقوفك أمامه أو بين يديه مجرد تلميذ نجيب، يحاول استكشاف جغرافيا إبداعه في احتراز ووجل ومهابة، وهذا ما شعرت به في أول لقاء به.
لكن الأمر الذي كان يشغلني، وما زال، ذلك التخصيص الذي يأتيك منه وهو الفنان الكبير عبر الأثير أو على لسان جليس في مجلسه أو باتصاله المباشر بك بكل تواضع لكي يسألك عن نشر مادة أو خبر أو الإلحاح على السؤال عليك في غيابك، وهو أمرٌ يملؤك اعتزازًا وفخرًا.
ربما كانت هناك مساحة من المعرفة البعيدة التي كنا ننسجها أنا وزميلي الفنان عصام خليدي، ونملأ بها مداد ورق الصحف من خلال فعاليات تكريمية لعدد من الفنانين والمبدعين، كنا نحرص على إقامتها بأشكال نوعية في ندوات يتخللها الحديث الجاد والتحليل الموضوعي للشخصية المكرمة أو المحتفى بها، وهو عمل عادة ما كنا نحاول تجسيده في هذه الفعاليات، ويبدو أن شيئًا من هذا قد وصل الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، فالتقط الرسالة التي كنا نجهد نفسينا أن نقف على قاعدتها، وهي أن الحركة الغنائية الحديثة التي شهدتها مدينة عدن في الخمسينيات والستينيات كانت في الأصل شكلًا من أشكال الحركة الثقافية، ووسيلة من وسائل النخب السياسية والثقافية والأدبية الموجودة في ذلك العصر الذهبي الغنائي الجميل، في محاولة لإيصال رؤاها الثقافية والسياسية بما يتعدى الغناء كونه طربًا وتطريبًا وتسلية، إلى أداة فاعلة لحركة سياسية وثقافية شاركت أو كانت تحلم بها تلك النخب في ذاك الزمان الجميل، وهو موضوع له مكان آخر من التفصيل.
محركات سياسية
إن الحركة الغنائية التجديدية التي بدأت بالأغنية العدنية منذ مطلع الخمسينيات وتطورت إلى أرقى أشكالها من بعد ليست بعيدة عن مؤثرات ومحركات سياسية وثقافية عاصرتها النخب السياسية والثقافية، وجعلت من الأغنية أداة لتوصيل مواقف سياسية وآراء فكرية وإبداعية، وهذا ما يفسر الثنائيات بين الشاعر والفنان في ذلك العصر، وسعي هذه النخبة الدؤوب لتسخير الغناء لتحقيق هذا الهدف.
لقد كان المرشدي يرى نفسه قيمة أكبر من الفنان المطرب المسلي، بل ذلك الفنان السياسي صاحب الرسالة والمكانة الاجتماعية التي تفوق هذا التوصيف المذل
وهو ما أسهم في خلق رابطة علاقة ثقافية قوية بين تلك النخب والأغنية، وجعل الأخيرة أداة ثقافية بالمعنى العام لتحقيق مثل هذه الأهداف السياسية والفنية والثقافية… إلخ. كما أن التلاقح بين الثقافة والفن الغنائي لم يكن عند مستوى جعل الأغنية وعاء التجاذب السياسي والثقافي، باعتبارها أسرع وسيلة وأكثر تأثيرًا على المجتمع، وإنـما في خلق أغنية متطورة وعالية المستوى ومتنوعة الإيقاعات والألحان والموضوعات، وكانت بصدق تعبيرًا عن اللحظة التاريخية التي مرت بها المنطقة، بل تجاوزتها في خلق تلاقح سياسي وثقافي وتراثي على كامل التراب الوطني؛ حيث نهل الفنانون من مختلف ألوان الغناء وتعددت إيقاعاته وتنوعت لهجاته وزادت من جودة قيمته التعبيرية والجمالية في آنٍ واحد.
كما كان تطور الأغنية يتم من خلال ثقافة موسيقية محترفة أو فطرية، ساعدت على تقديم أغنية مثالية في التجديد شكلًا ومضمونًا، وكانت عقول النخب من الشعراء والمثقفين ترعى الفن والفنانين؛ لذا كان تطور الغناء يتصاعد بشكل لا محدود، سواء على المستوى النغمي اللحني أو على المستوى اللغوي الشعري أو على مستوى المعنى المعرفي، الذي تقدمه أشكال النص الشعري الغنائي وبلهجات متعددة وإيقاعات أصيلة تم تطوير استخدامها إلى جانب الاستفادة من الإيقاعات والألحان العربية والغربية.
إذن فإن تطور الأغنية في الخمسينيات والستينيات في عدن لم يكن عفويًّا، ولم يتم بأيادٍ لا تعي ما تقدم، بل ساهم الفنانون مع النخب السياسية والثقافية في عدن الحافلة بزخم ثقافي وأدبي وصحفي وفكري وسياسي هائل آنذاك في مجالات التنوير والتطوير والحداثة، وكانت الأغنية أفضل تجليات هذا التحديث والتطوير، وخلقت ما يعرف بالأغنية التجديدية في عصرها الذهبي.
هذه أبرز الأسس والمفاهيم التي استقامت عليها رؤانا في تحليل واقع وآفاق حركة الغناء التجديدية التي شهدتها مدينة عدن في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وشهدت ميلاد أعظم فناني الغناء التجديدي، ومنهم فناننا الكبير محمد مرشد ناجي. أجزم أن زاوية النظر هذه في الثقافة العامة للحركة الفنية الغنائية التجديدية في عدن الخمسينيات والستينيات، ومحاولتنا تكريس هذا المفهوم في كل أحاديثنا وتحليلاتنا للأغنية والفنانين والحركة الفنية بالعموم –كان ذلك القاسم المشترك الذي جمعني في النظر لحركة الغناء التجديدي التي شهدتها عدن مع زميلي الفنان والمحلل الموسيقي والغنائي الفنان عصام خليدي، منذ أول حوار بيننا.
إن ذلك –كما أزعم– هو الهاتف الذي مس شغاف قلب الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، والرسالة التي وصلته بعد أكثر من ستة عقود كان يعمل فيه فنانون عظماء من أمثال المرشدي.
وهذه الحظوة التي يخصنا بها المرشدي تنبع من رؤية ثقافية للفن والغناء، تتجاوز الحدود النمطية التي عادة ما يرسمها العامة عن الفن والفنانين، لا سيما في مجال الغناء، ولذلك أظنني والفنان عصام محظوظين في تلقي هذه الحظوة التي تصلنا عبر أطر متعددة وحميمية في السؤال عنا وعن أحوالنا وطلب ملح في ضرورة التواصل معه وزيارته والعتب علينا في لحظة عدم التلبية.
أتمنى أن أكون قد صدقت الرؤيا ووقفت على الجانب الصحيح من التحليل على هذا اللقاء العامر بين فنان كبير أثرى الساحة الغنائية والعربية بباقات من أغانٍ لا تنسى وبيني أنا العبد الفقير إلى الله، الذي دائمًا ما يتطفل على عالم الغناء بمشاركات تحليلية وأحاديث وتجليات رؤيوية عن مكانة ودور الغناء والفنانين في إثراء الحركة الثقافية وتأكيد دورها التنويري في المجتمع، من خلال تجويد وتجديد الذائقة الفنية الغنائية بملامح إبداعية ذات أبعاد ثقافية بالمعنى العام للمجتمع، وهو دور لا يقل عن دور السياسي والمثقف والأديب والتربوي، إن لم نقل يتجاوزه بما لديه من إمكانات مذهلة في الوصول السريع والتأثير المباشر في خلق مواقف واتجاهات والتعبير عن لحظات تاريخية.
حركة غنائية بدالة ثقافية وسياسية
لقد كان الفن الغنائي يقوم بذلك الدور بلا شك وأكثر من ذلك؛ لأنـه لم يأتِ من فراغ فطري بحت ولم يخلُ من القيمة التعبيرية ولم يقف عند التأثير السلبي في اللهو والتسلية، وإنـما في تشكيل صورة مرحلة تاريخية نستعيدها اليوم من حناجر فنانين عظماء وريشة ملحنين وشعراء كبار أعلوا من شأن ودور الأغنية ومكانتها في المسار التاريخي للمجتمع.
وهذا شأن لم يكن ليخفى على الفنان المرشدي، ولكنه يحتاج إلى من يقود الناس إلى معرفته ومعاينة قيمته ومكانته الثقافية والتاريخية. وهذا هو خط لقائنا المستمر معه الذي كان يبتهج بوجوده ويعبر عنه في كل مرة بلطف غامر وحظوة تسعدنا أن تأتي من فنان كبير هو محمد مرشد ناجي.
لقد لمست هذا التقاطع المهم والمتمثل في كون حركة التجديد الغنائي في عدن في الخمسينيات والستينيات هي دالة ثقافية من دوال العمل السياسي والاجتماعي والثقافي في عدن، وهو أمر عرفته من الفنان الكبير في ثاني لقاء به، حين روى عن امتعاضه وعدم مشاركته في إحدى الحفلات الحمراء في إحدى الدول الغنية ومواجهته الأمير المستهتر لإظهار كرامة الفنان العالي الكبرياء، مثل الفنان محمد مرشد ناجي.
لقد كان المرشدي يرى نفسه قيمة أكبر من الفنان المطرب المسلي، بل ذلك الفنان السياسي صاحب الرسالة والمكانة الاجتماعية التي تفوق هذا التوصيف المذل.
وقال لي بالفم الملآن: «أنا رجل سياسي ومثقف ولست فنانًا مطربًا، ودائمًا ما كنت أعبر في مناسبات كثيرة، بأنني لا أرغب في تصنيفي كفنان، وإنـما كرجل سياسي مثقف، وهذا أقرب تعريف يمكن التحدث به عني«.
ولعل المطرب (المغنواتي) الذي يدغدغ المشاعر ويسلي الخواطر ويشيع البهجة والفرحة هي اللعنة الأبدية التي كان يتفاداها هذا الفنان الكبير، منذ أن دخل الفن من باب السياسة وانخرط في دهاليزها آنذاك، ومكونه الثقافي والأدبي الذي تجلى في كتبه التي صدرت من بعد. فكان المرشدي لذلك يرفض هذه النظرة السطحية للفنان المطرب التي كانت رائجة في زمنه، وربما كانت إلى يومنا هذا، وهذا الرفض تجلى بشدة، وأحيانًا بحدة كبيرة، حينما كان يعلن عن اعتزاله الفن والغناء، وهو في عز شبابه وفي قمة عطائه؛ ما جعل عددًا من المثقفين القريبين لدائرة إبداعه، كالشاعرين محمد سعيد جرادة وعبدالله فاضل فارع، يسعون إلى استدراج استعادته إلى الفن بنصوص غنائية مخصوصة منهم، رغم عدم تخصصهما في عالم النص الغنائي، وإنـما لمحاولة استعادة عودته إلى ميكرفون ومسرح الغناء. وهو ما أفصح به لنا بأنه قد قرر أكثر من مرة اعتزاله الغناء، وطالما ما كان يصرح بأهمية قيمته السياسية والثقافية ويعليها على القيمة الغنائية التي شغلت الناس وجمهور محبي فنه عن تلك القيمتين اللتين كان يعتز بهما (السياسة والثقافة).
لعل ذلك –كما أزعم- هو الأرضية المشتركة بين جيل الآباء المبدعين وتلقاه جيلنا من الأبناء، الذي كنا نحاول أن نستجليه في أحاديثنا عند تحليل الشخصية الفنية والنص الغنائي واللحن الموسيقي، والذي يرى أن الأغنية التي خرجت من أفواه المرشدي وأحمد قاسم والبامدهف ومحمد سعد عبدالله ومحمد عبده زيدي ومحمد محسن عطروش وعبدالرحمن باجنيد وإسكندر ثابت وغيرهم، هي أكثر من أغنية طربية، وربط كل ذلك بالظروف التاريخية (سياسية – اجتماعية – ثقافية) والرؤية الإبداعية اللحنية أو الشعرية التي كانت تمثل رؤية ثقافية بالمعنى العام لهذه الكلمة، وكان التجديد ينحو من حيث كونه يقف على أرضية ثقافية معرفية تمتع بها هؤلاء الفنانون التجديديون بصور متعددة الأوجه.
إن النظرة المنقوصة للفنان الغنائي عن كونه مشتغلًا ثقافيًّا في مجال الفن والموسيقى كان سببه ما سبق عهد الخمسينيات من أغاني طقطقات عامية المبنى والمعنى، مثل: "يا بابور جباني،" ولم يكن هناك شكل ونمط محدد للأغنية، وذلك ناتج عن وجود فنانين مطربين لا دور لهم سوى تسلية الجمهور
لم يكن المرشدي أو أحمد قاسم أو محمد سعد وغيرهم، مطربين يحركهم الملحنون أو الشعراء بتبعيتهم، وإنـما كانت تجايلهم وترافقهم رفقة النديم نخبة ثقافية وأدبية وشعرية على أعلى طراز، أمثال الشعراء محمد عبده غانم، ولطفي أمان، ومحمد سعيد جرادة، ومحمد علي لقمان، وأحمد الجابري، وعبدالله هادي سبيت، وغيرهم.
إذن هذه هي القاعدة الذهبية الضائعة في متاهة التذوق الفني العامي والنظرة النمطية السائدة عن كون الفنان مجرد مطرب حباه الله حنجرة يشدو بها في حفلة موسيقية أو مخدرة عامة أو وصلة تلفزيونية وإذاعية.
وغاب عن الصورة تلك الشخصية المبدعة، المؤسسة على ثقافة أدبية وسياسية عامة، كما هو الحال عند المرشدي أو على ثقافة موسيقية مختزنة كأحمد قاسم، أو ثقافة فطرية كمحمد سعد عبدالله. وأن الفنان لم يكن أداء أو وسيلة جامدة تعطي للجمهور ما تتلقنه وتبصقه مع قليل من البهارات اللحنية المجانية والمتداولة.
لقد انتهى عصر الفنان المؤدي الذي كان يستخدم فطرته وموهبته فقط لأداء أغنية.
إن النظرة المنقوصة للفنان الغنائي عن كونه مشتغلًا ثقافيًّا في مجال الفن والموسيقى، كان سببه ما سبق عهد الخمسينيات من أغاني طقطقات عامية المبنى والمعنى، مثل: "يا بابور جباني"، ولم يكن هناك شكل ونمط محدد للأغنية، وذلك ناتج عن وجود فنانين مطربين لا دور لهم سوى تسلية الجمهور وتنقصهم الكثير من الموهبة الثقافية بقدر ما تسعفهم قدرتهم الغنائية التطريبية البحتة على أداء الأغاني الممزوجة بألوان الغناء الهندي، على سبيل المثال.
كما أن صراع الفنان على تأسيس مكانته الاجتماعية والثقافية لم يكتمل إلا بوجود وانخراط جيل من الفنانين الشباب، أمثال المرشدي وابن قاسم وابن سعد وغيرهم في تجمعات سياسية وثقافية؛ أي ظهورهم من صلب العملية السياسية والأدبية والثقافية إلى جانب ما تمتعوا به من ثقافة احترافية في الفن والموسيقى، تفاوتت بدرجات بين الفطرية الواعية إلى الثقافة الموسيقية الاحترافية التي جعلت منهم حاملًا ثقافيًّا لنص شعري وغنائي ولأكبر شعراء ذلك العصر، وشكلوا ثنائيات صداقة وعملًا فنيًّا وتكاملًا فعليًّا بين النخب الثقافية والسياسية التي كانت تمتلك رؤاها على مستوى الإبداع والمواقف، وبين الفنانين الشباب الذين كانوا أكثر من حنجرة ترديدية للكلمة واللحن، إلى اشتغال فني وموسيقي ولحني تعبيري ومتعدد الأشكال، ساهم في تطوير الأغنية وفي تطوير الذائقة الفنية والغنائية، بقدر ما ساعد على ترقية المكانة الاجتماعية للفنان وتتجاوز مفهوم الفنان المطرب إلى الفنان المثقف والمحترف.
لقد كانت المرحلة التي شهدتها عدن في الخمسينيات والستينيات هي مرحلة حراك سياسي وثقافي، كان الفنان فيها شريكًا. وكانت مليئة بالأحداث السياسية والآراء الفكرية (قومية – ليبرالية – اشتراكية) وهنالك التعددية الصحفية، وبالتالي كان دخول الفنان هذا المعترك مسلحًا بأغنية تعبر ولا تردد، تبحث عن موقف سياسي أو إنساني، دون أن تنزوي وراء الإطراب والأنس والتسلية.
كان الفنان الغنائي جزءًا من هذا المشهد المتواتر والغني، وأكبر نموذج لهذا الفنان المعاصر هو الفنان المرشدي.
قد يقول قائل: "المخادر كانت مزدهرة في تلك الأيام، وهي شكل من أشكال العلاقات الاجتماعية المتدنية المكانة والهدف: الأعراس والحفلات الاجتماعية وغيرها".
يصح هذا القول إذا لم تكن هذه المخادر وسيلة اجتماعية فرض فيها الفنان أغنيته الجديدة، ولم تفرض عليه أشكال الغناء الهابط، فكانت المخادر في ذلك الوقت واصلة اجتماعية، استطاع فيها الفنان أن يخدم قضيته التجديدية بتقديم أرقى وآخر أغنياته وألحانه، لا أن يستسلم لأذواق بعض العامة من ذوي الذوق الهابط.
لقد كانت المخدرة –يومذاك– ليس كما هي اليوم أداة تسلية وتقديم فن هابط وترديد أغاني الغير من السائد في الغناء العربي والأجنبي وغيره، بل كانت رديفًا حقيقيًّا للحفلات الموسيقية التي كان الفنانون يتنافسون فيها على تقديم آخر إبداعاتهم الغنائية.
إن المعاناة التي عاشها الفنان في تلك الحقبة تذكرنا بأحداث مرّ بها فنانون عرب كبار من قبل، جسدت عقدة النقص الدونية لذلك الذي كانوا يدعونه "مغنواتي"، ورأينا كيف أن العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ في بدايات حياته الفنية قد لحقه الأذى الشخصي والامتهان في كرامته الاجتماعية حين ذهب يخطب محبوبته بنت الذوات ليجد رفضًا قاطعًا من الأب الباشا الذي يعيره بعمله "مغنواتي"، ذلك الباشا أسير النظرة النمطية للفن والفنانين التي تجعل من الغناء مهنة دونية المستوى ترتقي إلى العار عند المجتمع المخملي.
وعبرت هذه الإشكالية التي عرضها مسلسل "عبدالحليم" عن إحدى لحظات حياته الحرجة، وعبرت عما كان سائدًا من نظرة في مصر والدول العربية للفنان المطرب، نتيجة انتشار الغناء في الكازينوهات والبلاطات ومجالس الوجهاء.
فن بصورة نموذجية فخمة
كما يمكن التذكير بمطالبة الفنانة المغدورة أسمهان، في إحدى السهرات الغنائية، أن تغني في مكان حفل لا طاولات عشاء؛ إذ كيف يجتمع الغناء والأكل -الذوق والبطن- في مكان واحد. وحالة أخرى يمكن الحديث عنها في حياة كوكب الشرق أم كلثوم، حينما تم منحها وسامًا من الملك فاروق، ورأت فيه نسوة المجتمع المخملي ونساء القصور والذوات إهانة لهن ولمن نال الوسام من قبل؛ لأن نائل الوسام فتاة قروية جاهلة، زد على ذلك مغنواتية مطربة تطرب السامعين، لا من نسوة المجتمع المخملي.
وحالات كثيرة هنا وهناك من قصور النظر للفن والغناء والعاملين فيه، كانت لا تزال مكرسة في الليالي الحمراء في دواوين القصور العصرية وأروقة المصطفين بقوة المال وموجودة حتى اليوم في الدول الغنية. ويمكن القول إن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب قد عمل حينذاك على ترميم هذه الفجوة الاجتماعية بإلصاق قيمته الفنية الغنائية بالقصر، فربط بين شخصيته الغنائية وبين فخامة القصر في مخيلة الجمهور، فأعطى لنفسه قيمة من روح المجتمع العالية المقام (القصر)، لا من روح الفن وحده، وإن كانت فخامة إبداعاته الغنائية والموسيقية قد ساعدت على تكوين صورة نمطية إيجابية بربط صورة تخيلية بين الفنان والأمير، وهي صورة دأب على تكريسها طوال حياته من خلال الانضباطية الجادة في السلوك والمعاملات ومثالية مفرطة في تكوين صورة نموذجية للرجل الأنيق المهووس بالنظافة وفوبيا عدوى المرض، والهالة الاجتماعية النخبوية التي تحيط بحياته وإبداعه.
ولعل ثورة يوليو 1952 في مصر، وما رافقها من قيم وطنية واجتماعية، أتاحت للفنان الغنائي أن يتبوأ مكانًا اجتماعيًّا عاليًّا ويمارس دورًا وطنيًّا فعالًا عرفته مصر الناصرية وألقى بظلاله على الدول العربية، ومنها بلادنا فكانت القابلية لاستيعاب النظرة المرموقة للغناء وللفنانين ممكنة، ولكنها كانت تنحت في الصخر حتى جاء هذا الزمن الذي نعيشه اليوم، حيث يتقاطر الجميع إلى نيل شهرة الفنان الذي أخذ دورًا اجتماعيًّا لا يضاهيه إلا لاعب كرة القدم.
ولعل الحركات السياسية والفكرية والتطلعات لتأسيس جغرافيا على الأرض في فترة الاستعمار البريطاني لقاعدته الذهبية (عدن)، وتلاقح الأفكار الليبرالية والقومية والإسلامية والاشتراكية في إطار هذه الجغرافيا المدنية التي شهدت نضالًا سياسيًّا وحراكًا ثقافيًّا وتقاطعات وتجاذبات جهوية، وآمالًا في بناء دولة أو دول في المكان والجغرافيا في الجنوب المحتل من الاستعمار البريطاني. كل هذه الملامح والآفاق والآمال كانت رافد الأغنية الحديثة التي شهدتها مدينة عدن في الخمسينيات والستينيات، وكان الفنان الغنائي شريكًا فاعلًا في صولاتها وجولاتها، سواء بأغنيته الجديدة المتجددة أو بانخراطه الشخصي في لب العمل السياسي والثقافي.
لقد كانت الرؤى والجمعيات والأحزاب والنشاط النقابي والحزبي والسياسي واحدة من مكونات وروافد شخصية الفنان الغنائي وشخصية أغنيته بكل ألوانها وأشكالها وتجلياتها.
بهذه الصورة يمكن وضع الفنان محمد مرشد ناجي وإبداعه الغنائي، وكل من جايله في تلك الفترة، في إنتاج الأغنية التي بدأت حصرًا بمفهوم (الأغنية العدنية)، وتطورت إلى أغنية تجديدية تتجاوز هذه الجغرافيا. وفي هذا المسار كان المرشدي ينحت فنه وغناءه ومواقفه الوطنية والشخصية والثقافية في تكوين ثقافي عام، لا يفصل بين الرجل الفنان والرجل السياسي والمثقف، بل يجمعهم في كلية متناغمة وهو ما لا يمكن أن نلحظه إلا في شخصية فنان كبير، مثل محمد مرشد ناجي (المرشدي).