ظهرت ملامح تجديد الأغنية اليمنية بصورة واضحة في عدن، وتحديدًا منذ أواخر النصف الأول للقرن العشرين. إذ كانت المدينة الأكثر اتصالًا بالخارج في بلد معزول عن العالم. وكان لظهور السينما وشركات تسجيل الأسطوانات تأثيرًا مباشرًا، في التعرف على عناصر لحنية أجنبية بشكل أوسع. كانت عدن نقطة التقاء لألوان عديدة من الغناء اليمني وألحان مصرية وهندية، والأخيرة حققت رواجًا من دور السينما بدرجة أساسية.
ظلت الأغنية اليمنية على ما هي عليه، غير معروفة قواعدها إلا في أنساق تطبيقية يعرفها المغني وضارب الإيقاع، دون أن يكون مُدركًا لتفاصيل نسيجها. ويختلف النسيج اللحني والإيقاعي اليمني بصورة كبيرة عن الشائع في الموسيقى العربية.
عندما دُعي الفنان محمد عبده إلى اليمن عام 1976، وبينما كانت الفرقة المُصاحبة له تؤدي البروفات على ألحان يمنية، اعترض العازفون واعتبروا الإيقاعات غير صحيحة. حتى إن ضاربي إيقاع وعازف كمان انسحبوا من الفرقة، معلنين رفضهم بأداء إيقاعات بدت لهم خاطئة. لكن محمد عبده قال بصورة حاسمة، إن تلك هي الإيقاعات العربية الأصيلة، وإنه لن يصطحب معه إلى اليمن أي عازف يرفض أداءه.
وكما يبدو لم يكن أيٌّ من الفنانين اليمنيين يعرف ميزان تلك الإيقاعات، وهو ما يذكره المرشدي؛ ففي لقاء له مع الفنان والملحن اليمني عبدالرب إدريس، أخبره الأخير بأنه عرف إيقاع "الدسعة الأولى" وهو (8/11). بمعنى أنه لم يكن معروفًا ميزانه عند الفنانين وضاربي الإيقاع اليمنيين. والاعتماد على السليقة لا يؤسس لتطور الموسيقى؛ فبدون تأسيس قواعد ومعارف علمية حول الموسيقى في اليمن، سيحد من تطورها. غير أن كثيرًا من تلك القواعد لم تعد مجهولة كما في السابق، مع أنها ظلت كذلك حتى ستينيات القرن العشرين.
أي إنه تم إزاحة الغموض حول بعض القواعد الموسيقية اليمنية في فترة متأخرة، إذ ظلت حتى وقت قريب غير معروفة للعاملين فيها. مع هذا بدأت ملامح التجديد في وقت مبكر، نتيجة التعرف على نماذج لحنية أكثر تطورًا في عدن.
أصبحت عدن مركز الغناء اليمني، بدءًا باحتضان الألوان الغنائية اليمنية أو إنتاجها وتسجيلها في أسطوانات، ثم محاولات التجديد عليها. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، نتيجة ما تعرض له الغناء من تحريم في صنعاء، أصبحت عدن مركز الغناء الصنعاني، واحتضنت أهم مشائخ غنائه لفترة طويلة.
حافظت عدن على الألوان التقليدية، كما ظهرت محاولات لتقديمها بثوب جديد، مع أن بعض مشائخ الغناء الصنعاني الكبار في عدن، تعرفوا على الغناء العربي وقاموا بتأديته، وإن بحدود ضيقة. وهناك أكثر من تسجيل؛ إذ سجل إبراهيم الماس أغنية "متع حياتك"، وهي أغنية للمصري سلامة حجازي. وهناك تسجيل مُتاح للشيخ أحمد عوض الجراش يؤدي فيه "مالك يا حلوة ومالي"، وغناها بأداء جيد وكان مُتمكنًا في الدرجات العالية إلى حد كبير.
وإضافة إلى ما قدمه الجراش من الألحان التقليدية، كان له دور في محاولة التجديد ترك أثرًا على مسيرة الفنان محمد سعد عبدالله. وهناك أيضًا تسجيلات لألحان هندية على قصائد عربية قدمها الجراش وأيضًا أحمد عبيد قعطبي، والأخير كان يؤدي بعضها في "مخادر" الأعراس [جمع مخدرة وهي عبارة عن خيمة واسعة أشبه بصالة اعتاد أهالي عدن إقامة الأعراس فيها]. بمعنى أن مشائخ الغناء التقليديين حاولوا إرضاء أكثر من ذائقة.
وفي تسجيل بصوت علي عوض الجراش لأغنية "أثارت شجا قلبي المُستهام"، هو لحن صنعاني معروف هو "زمان الصبا". غير أن الجراش حاول تجديد اللحن، باستخدام المادة اللحنية الخام منزوعة من الحُليات التقليدية. صوت التخت المتأثر بجرسية هندية، أداؤه في تصعيد خطابي غير مألوف في الغناء الصنعاني، وإن لم يكن منضبطًا. هذا الأسلوب تطور لاحقًا في تيار ظهر في الغناء العدني، وبدا واضحًا على بعض ألحان محمد سعد عبدالله، وإن اتكأ على ألوان مختلفة من الألحان اليمنية.
تدين الأغنية العدنية إلى تلك الفترة، وقبل ذلك كانت هناك بعض الأهازيج، وبصورة ما كانت محطة لالتقاء ألوان عديدة من التراث اليمني، الصنعاني واللحجي واليافعي، وكذلك البدوي، وأيضًا الحضرمي. وشقت الأغنية العدنية طريقها في التجديد ضمن تصورين رئيسيين؛ أحدهما مُستلهم من الأغنية المصرية، بينما اتخذ التيار الآخر في تجديده نزوعًا محافظًا على اللحن اليمني.
وكانت "الندوة الموسيقية العدنية" تجسيدًا للتيار الأول، واتبع أبرز فنانيه الأشكال والمضامين اللحنية المصرية. وأبرزهم أحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، وسالم بامدهف، وخليل محمد خليل، ويحيى مكي.
ما ميز عدن، هو حضورها العام في الوجدان اليمني، وظلت تحتضن الغناء اليمني خلال فترة الاستعمار وفي عهد الاستقلال كعاصمة للجنوب اليمني، وظلت حاضنة لكل أشكال الغناء اليمني
ساهم هذا الاتجاه في إثراء الغناء العدني بمضامين جديدة، حتى وإن بدت شديدة التأثر باللحن المصري، ظلت ترسم لنفسها شخصية عدنية خالصة عبرت عن روح تجلت في المدنية بطموح لمواكبة العصر. فأغنية "على ايش" لسالم بامدهف ومقامها "الراست"، يمكن ملاحظة تأثرها بنمط مُعين من الألحان المصرية، واتخذت شكلًا من التطريب المرح والخفيف. هذا ينطبق على لحن خليل محمد خليل "حرام عليك"، والأغنيتان جسدتا روح الغناء في عدن.
ولعل هذا المسار الذي تبنته الندوة الموسيقية العدنية، ظل حاملًا له الفنان وليد خليل سيف، لكنه ذهب بعيدًا في أدائه أغانيَ باللهجة المصرية. وحاول أن يفرض حضوره في مصر عبر إنتاج ألبوم "طار طور" في 1988، لكنه لم يُحقق النجاح المرجو. وأغنية "طار طور" من كلمات الشاعر المصري المعروف فؤاد حداد وألحان وليد نفسه. وفي لحن الأغنية مواكبة للحن البوب المصري، بتوظيفها الكيبورد وإيقاع "المقسوم" مع التصفيقة التي اشتقها حميد الشاعري، وهيمنت على ألحان تلك المرحلة، وراجت تحت مصطلح الأغاني الشبابية. وهي محاولة أخرى لفنان يمني لإثبات نفسه في مركز الغناء العربي بالقاهرة، سبق للفنان أحمد قاسم خوضها، ومع اختلاف التجربتين من حيث إنتاجهما اللحني والغنائي، كل منهما جاورت عصرها؛ فبين الستينيات والثمانينيات تغير حال الغناء في مصر.
ويبدو أن هذا التيار أصبح من الماضي، وفقدت عدن حضورها المركزي في الغناء اليمني منذ أكثر من عقدين، وسبقها في سنوات فترات انحسار، فبدلًا من الإبقاء على حضور الفرقة الموسيقية، عاد العود من جديد كآلة منفردة في مصاحبة الغناء في كثير من الحالات.
وما ميز عدن، هو حضورها العام في الوجدان اليمني، وظلت تحتضن الغناء اليمني خلال فترة الاستعمار وفي عهد الاستقلال كعاصمة للجنوب اليمني. وظلت حاضنة لكل أشكال الغناء اليمني، ففرقة الإنشاد اليمنية في عدن، قدمت العديد من ألحانٍ يمنية تقليدية ومُعاصرة في ذلك الوقت، لكن بتوزيع موسيقي وأداء جديد، وربما كانت مصدر الإلهام لمن أراد خوض التجديد على الأغنية اليمنية. وبتوزيع موسيقي للفنان أحمد بن عوذل، أعيد تقديم الكثير من الألحان بما فيها أغنية السنيدار "حبّوب لا تغضب"، وألحان صنعانية تقليدية ويافعية، ظهرت بأسلوب جديد. وعلى سبيل المثل قدمت الفرقة أغنية "الهاشمي قال"، ولاحقًا أعاد الفنان أحمد فتحي تقديمها برؤيته، حيث استهلها بتقاسيم جميلة على العود ليؤكد حضوره كأحد العازفين البارعين على هذه الآلة.
كان مسار التجديد في الأغنية اليمنية، لا يزال بحاجة لمزيد من النضج، حتى تتبلور الرؤية العامة له بدلًا من الانكفاء. فتيار "الندوة الموسيقية العدنية" ظل محل نقد من التقليديين باعتباره خروجًا عن الصورة الأصلية للغناء اليمني. وفي الحقيقة غالى البعض في نقد تيار أثرى اليمن بألحان جميلة.
فبعض التجديد كان بحاجة لدمج وصقل وتبلور مفاهيمه، ومن المهم الالتفات لجوانب في الأغنية اليمنية تمتاز على ما هي في مصر، مثل القفزات في الدرجات النغمية، خصوصًا الرابعات، التي تعتمد على القفز أربع درجات. ومثلًا، تبنى الغناء المصري تجديد مضامينه اللحنية بالقفزات النغمية على نموذج أرقى وجده في الموسيقى الغربية. أما بالنسبة للتيار التجديدي في عدن، فقد وجد غايته في نموذج الغناء المصري، فتعامل مع مضامينه بحثًا عن غنائية تولد لحنيتها من التدرج النغمي، بينما تعطي القفزات كسرًا للغرض اللحني، وتمنحه توسعًا في التعبير.
كُل تجديد مشروع وأي تراث موسيقي يصبح إنسانيًّا، بصرف النظر عن انتسابه لثقافة بعينها. ربما يحتاج التجديد لرؤى مُتسعة، لكنه قبل ذلك بحاجة إلى خوضه، يتبعه مع الوقت مراجعات، وتواكب ذلك حركة نقدية مُتقدمة وواعية. ولا يمكن حدوث ذلك دون الاتكاء على نماذج موسيقية أرقى، ودون أن يتهيأ له نشاط موسيقي يتسع على مفاهيم موسيقية رفيعة المستوى؛ إنه مشروع طموح وعمل دؤوب.