ظلّ الغناء في اليمن، على مدى قرون، يعتمد على تناقل شفاهيّ للألحان، دون أن يتضمّن مفاهيم مقامية. أي إنّه لم يكن هناك أيّ بُعدٍ تنظيريّ حول الموسيقى بما في ذلك تحديد النغمات. وحتى القرن العشرين، ظلّ النسيج اللحنيّ والإيقاعيّ يُمارَس دون معرفة قواعده، وبعض خصائصه الفريدة.
ولا يزال هذا القصور سائدًا لدى محترفي الغناء اليمنيّين، برغم أنّ كثيرًا من المفاهيم أصبحت معروفة. وهذا على صلة بضعف التعليم الأكاديمي، بما في ذلك عدم وجود مدارس تقليدية كانت على وعي بتلك المفاهيم.
سنحاول تتبُّع ظهور ممارسات مدرسيّة موسيقيّة في اليمن، وَفقَ ما تُتيحه الوثائق الموجودة. وبطبيعة الحال تظلّ مصادر شحيحة، ولا تُثري الباحثين في هذا المجال.
على الأرجح، ظهرت أول ممارسات تعليمية موسيقية مُنظّمة في اليمن خلال الاحتلال التركي الثاني، عندما أسّسوا ولاية اليمن (1872-1918). لكنّها ظلّت ممارسات لا علاقة لها بالغناء اليمنيّ، تقتصر على الموسيقى العسكرية التركية، وما تؤدِّيه الفرق العسكرية من مارشات تركية.
أيضًا الممارسات الموسيقية الآلية، انحصرت في النحاسيات والطبول العسكرية، دون أن تشمل أيَّ آلة وترية. ولم يترتّب عن ذلك تعريف اليمنيين بآلة العود الشرقية الشائع استخدامها، واستمرّ مشايخ الغناء في اليمن يستخدمون العود الصغير ذا القطعة الواحدة والأوتار الأربعة "القنبوس" أو " الطُّربي"، والذي لم يسمح للغناء بالصعود طبقات مُرتفعة.
وانعكس الأمر على عادات الاستماع وطبيعة الغناء والذائقة السائدة، حدًّا لم يسمح -عدا استثناءات محدودة- بالتطور، وتوسيع المصاحبة الموسيقية الآلية في الغناء اليمنيّ.
ولعلّ ذلك، يعود إلى سياق تاريخيّ متجذّر، أعاق قيم التقدم، والناتج عن فترات عُزلة طويلة. وما زالت تلك المفاهيم، تسود تحت شعار الخصوصية. فيشيع الاعتقاد أنّ ما أبدعه الأولين لا صلة له بأيّ قواعد أو عِلم موسيقيّ، وبالتالي قيمة الفنّ تقوم على الممارسات الفطرية، وجوهرها الإحساس، دون النظر إلى أهمية التدريب والإجادة بمستويات عالية.
على صعيد التاريخ، توجد نقوش لآلات موسيقية، مثل العود والقيثارة، إضافة إلى نقشين لترنيمتين دينيّتين؛ ما يعني أنّ الغناء كما هو في العهود القديمة، ارتبط بشكلٍ واسع بطقوس العبادة. لكن لا وجود لما يدل على أنّ الحضارات اليمنية القديمة استخدمت، مثل نظيراتها في الشرق، رموزًا موسيقيّة.
ويسود هذا الطابع الشفاهيّ على معظم الموروث العالمي من الموسيقى. لكن اكتشافات أثرية، أكّدت ظهور أول مدونات موسيقية في أوغاريت بسوريا، تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وحيث اكتشف الإنسان أبجدية الألفباء، اكتشف أيضًا الصولفيج؛ أي الحروف الموسيقية. فالتعرّف إلى مبادئ الحروف الموسيقية والتدوين الموسيقيّ، التي بلغت أقصى تطورها في أوروبا، كان له نفس الأثر العظيم على الموسيقى، الذي تركته الكتابة واللغة بالنسبة للحضارة.
انتقلت تلك المفاهيم من أوغاريت، إلى الحضارات في بلاد الرافدين واليونان خلال العصر القديم. وتمّ اعتماد حروفٍ أبجديّة للدلالة على النغمة، نفس الأمر سادَ عند الموسيقيين العرب والمسلمين خلال فترة الازدهار الحضاري العربي-الإسلامي، في القرون الوسطى.
أما اليمن، فكما يبدو، لم تعرف خلال تلك الفترات، أيَّ شكلٍ من التنظير المدرسي حول الموسيقى. وليس هناك أيّ مخطوطات أو وثائق تاريخية تؤكِّد انتشار تلك المبادئ الموسيقية، وعانت البلاد من صراعات مستمرّة لم تسمح بفترات استقرار طويلة.
بينما توارثت مُدن حضرية في الشام والعراق ومصر، تقاليدَ لتعليم المقامات والأوزان والضروب، عبر مدارس تقليدية مثل الكتاتيب. وكان الغرض منها تدريس قرّاء القُرآن ومنشدو الابتهالات الدينية.
في نفس السياق، لم يعرف اليمن مفاهيم تنظيرية، سواء في الغناء الديني أو الدنيوي. وظلّ التعامل مع إيقاعات شعبية، مثل الدسعة والسارع وغيرها، على أنّها ضروب متوارثة.
وكان الموسيقيّون اليمنيّون لا يُفرِّقون بين مقامٍ وآخر، وتعاملوا مع الفوارق بأنّها ألحان. حتى بالنسبة لمن قادوا حقبة الازدهار الغنائيّ اليمنيّ في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت. عدا أنّ هناك استثناءات تتعلّق بمن أتيح لهم الحصول على تعليم أكاديمي. وبالتالي، بدأت تتشكّل مفاهيم حول النسيج الإيقاعيّ اليمنيّ، وأوزانه، وأيضًا النسيج المقامي وخصائصه في اليمن.
وشهدت مدينة عدن، خلال الاحتلال الإنجليزي، أول بعثات موسيقية يمنية إلى الخارج. وكان لهذا دورٌ في تأسيس أول معهد موسيقيّ في اليمن. ويعود الفضل في ذلك إلى الفنّان جميل غانم، الذي تحصّل على تعليمٍ موسيقيّ في بغداد، وتعلّمَ على يد عددٍ من أهمّ الموسيقيّين العراقيين على رأسهم عازف العود العراقيّ جميل بشير.
نشأ جميل غانم في أسرة فنية، وكان خاله عازف عود، وهو من بدأ في تعليمه. وفي نهاية الستينيات تأسّس المعهد الموسيقيّ في عدن، والذي يُعتبر أول نواة لتعليمٍ أكاديميٍّ موسيقيٍّ في اليمن، كانت بحاجة للتطوير المستمر.
ربما كانت أول دروس الصولفيج في اليمن، كانت على صلة بالموسيقى العسكرية التركية خلال فترة الاحتلال التركي. لكنها دروس لا رابط بينها وبين الغناء اليمنيّ. وما زالت هناك نوتات لمارشات وموسيقى تركية موجودة في دار المخطوطات بصنعاء.
خلافًا لذلك، أسهم معهد جميل غانم للفنون التشكيليّة، بعد أن شمل فنونًا أخرى غير الموسيقى، في تعزيز المفاهيم العلمية الموسيقية بالنسبة لليمنيين. واعتمد على مدرِّسين يمنيّين وروس وأجانب.
وكان للإشراف الحكومي في جنوب اليمن دورٌ في استمراره، وتزويده بمناهج نظامية، وكان لمخرجات المعهد دورٌ في تطور الأنشطة الموسيقية والفنية، وتأسيس بعض الفرق في عدن. بينما الدور الأبرز الذي كان يقوم به، هو تعزيز المفاهيم الموسيقية، وبشكلٍ أكاديميّ لدى الموسيقيّين اليمنيّين.
وبطبيعة الحال، تضاعفت المنح الدراسية في شمال اليمن وجنوبه، وكان من بينها منح في دراسة الموسيقى. وحاول بعض الفنّانين المعروفين في اليمن خلال السبعينيات، مثل أيوب طارش، دراسة الموسيقى، لكن سرعان ما انسحبوا. فكثيرٌ ممّا يتم تحصيله في دروس الموسيقى، يتخذ في مرحلة، طابعًا نظريًّا ورياضيًّا، قد يثير الملل لدى البعض.
وكان معهد جميل غانم للموسيقى، انعكاسًا لوضع اليمن بشكل عام. فبدأ ضمن سياق متحفز ومأخوذ بالتغيير والتحديث، ثم سرعان ما أصابته عدوى الواقع. بَدءًا من الجمود البيروقراطيّ، وأصبح جهازًا إداريًّا ضمن مسؤولية الحكومة المُثقلة بأعباء اقتصاديّة. دون أن يترتّب على ذلك تطويرٌ نوعيٌّ وتحديث للمناهج وتوسّع في الأقسام الموسيقية، وتعزيز الدورات الموسيقية النوعية، عبر الاستعانة بخبرات دولية وعربية.
ثم انتقل إلى مرحلة الإهمال، وفي فتراته المتأخرة، خصوصًا بعد أحداث 86، تراجعت مخرجاته وضعف الأداء التعليميّ بشكلٍ عام. وبعد حرب 94، انتقل إلى مرحلة من الإهمال، حتى الإغلاق. بينما لم تهتم الحكومات المتعاقبة في اليمن قبل الوحدة أو بعدها، اهتمامًا نوعيًّا بالفنّ الموسيقيّ والأنشطة الفنية الأخرى.
ومثل كثيرٍ من المجالات، يتراجع سقف الطموح ليحتضر في مرحلته الطفولية. فوجود معهدٍ موسيقيّ وتعليمٍ أكاديميّ، يتطلّب متابعة الصقل، وإعطاء أولويات للاحتياجات، والخبرات العربية والأجنبية التي لديها تراكم أطول وخبرة إدارية وعلمية في هذا المجال. لكن منذ البداية، يتم التسليم في اليمن إلى ضعف الإمكانيات، أو لمقولات متداولة. لدينا خبرات محلية أفضل من الأجنبية، وللأسف، دائمًا ما يتم الاستعانة بخبرات أجنبية ضعيفة، أو لا يُسمح لمن نستعين به للعمل، وبالتالي نجد أنفسنا نعمل في نسقٍ رتيبٍ تغيب عنه المُخطّطات والرؤى.
وكل ما هنالك أنّه في اليمن، يستمرّ الغناء مع كثيرٍ من الجهل في الموسيقى.