يعدّ الأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني من أبرز الباحثين والأكاديميين والنقّاد والكُتّاب، فهو شاعر ومؤلّف ومترجم، وقد أنجز عددًا كبيرًا من الكتب والبحوث في مجالات متنوعة، إنّه باحث موسوعيّ ألّف في عددٍ من حقول المعرفة. ومن المجالات التي ألّف فيها:
1. الدراسات النقدية.
2. الترجمة.
3. جمع وإعداد نتاج عدد من الأدباء.
4. الأدب الشعبي.
5. الإبداع الشعري.
هنا نركّز على مؤلفاته في الأدب الشعبي، فلقد ألّف عددًا من المؤلفات في التراث الشعبي اليمني، وهي:
1. الفلكلور اليمنيّ؛ بعض الحقائق والملاحظات، وزارة الثقافة، 2004.
2. قاموس الأمثال اليمانية، دار جامعة عدن، 2007.
3. قاموس الأمثال العدنية، تأليف: عبدالله يعقوب خان، جمع وإعداد ودراسة: د. أحمد الهمداني، دار جامعة عدن، 2008.
4. الأدب الشعبي وعلاقته بالأدب، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، 2012.
5. معجم الأمثال اليمانية الشائعة، دار جامعة عدن، 2013، والطبعة الثانية عن دار عناوين بوكس، 2022.
6. الأدب الشعبي اليمني؛ بعض الحقائق والملاحظات، دار أمجد، عمان، 2019.
7. الألغاز والأحاجي والأغاني الشعبية في اليمن، دار عناوين، 2022.
7. حكايات شعبية من اليمن، دار عناوين، 2022.
إنّ هذه المؤلفات تنم عن وعي الدكتور أحمد الهمداني، بأهمية حفظ التراث وتوثيقه ونشره ودراسته؛ لأنّ هذا التراث يمثّل ذاكرة الشعب وتاريخه وأصالته وهُويته.
وقد بدأ اهتمام الدكتور الهمداني بالأدب الشعبي مبكرًا، فقد كان لمحيطه الأسري والاجتماعي أثرٌ كبير في ذلك، فهو يكشف عن ذلك في حواره مع محمود قنديل في مجلة (أدب ونقد) المصرية، إذ يقول الدكتور الهمداني: "ولعي بالأدب الشعبي اليمني بدأ منذ الصغر، حين كانت جدتي لأبي تروي روائع الحكايات والأمثال والألغاز والأغاني الشعبية اليمنية حين كنّا نجتمع أنا وإخوتي كل مساء، أضف إلى ذلك، فقد ولدت في حي شعبي في مدينة الشيخ عثمان بعدن واندمجت في حاراتها وأزقتها واختلطت بالناس البسطاء، فعرفوني وعرفتهم، فاستوعبت ثقافتهم وحياتهم".
لقد شكّل هذا الولع أحدَ دوافع الكتابة والتأليف لديه، إذ نما هذا الشغف إلى وعيٍ بحثيّ، يقول: "لقد وجدت أنّ أصالة الإنسان اليمنيّ تكمن في ثقافته الشعبية. في الحكايات والأمثال والأغاني والأحاجي وفي الأشكال الشعبية الأخرى. الأدب الشعبي اليمني مهمّ في حياة الناس وفي كشف أفعالهم وأقوالهم ورؤاهم وتصوراتهم، فكان من الضروري جمع التراث الشعبي أولًا ودراسته ثانيًا".
ويمكن أن نأخذ كتاب (معجم الأمثال اليمانية) نموذجًا لمعرفة جهوده في جمع الأمثال وتوثيقها ودراستها، فالكاتب صاحب مشروع ثقافي، إذ لم يكن هذا العمل وليد لحظة آنية، بل كان شاغلًا للباحث منذ عقود، يخبرنا في المقدمة التي وضعها لكتابه عن عمله بقوله:
"جمعتها في ثلاثة عقود من حياتي العملية والإبداعية. وربما كان من المفيد الإشارة إلى أنّ بعض هذه الأمثال كانت مدونة في بعض دفاتري منذ نهاية النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين". ويوضح أنّ بعض هذه الأمثال دونّها من أفراد أسرته، ثم عاقته الدراسة في الاتحاد السوفيتي وعاد إلى العمل بعد استكمال الدكتوراة عندما كان يحاضر في كلية التربية عدن، فقد طلب من طلابه أن يقدّموا أمثالًا من مناطقهم، وقد رتب هذه الأمثال على الحروف الهجائية وتركها من دون شرح وتفسير مفرداتها ومعانيها، وقد نشرت جامعة عدن هذا الجزء في كتاب عام 2007، تحت عنوان "قاموس الأمثال اليمانية".
وفي حواره مع محمود قنديل، يخبرنا الدكتور الهمداني بمشروع كبير يعمل عليه، يقول: "في الحقيقة مشروعي الكبير هو الانتهاء تمامًا ووضع اللمسات الأخيرة لعملي، الموسوعة الجنوبية اليمنية، تحتوي على عشرة آلاف مَثَل. لقد كلفتني ربع قرن من حياتي العملية الإبداعية وأرهقتني تمامًا". إنّ هذا يؤكّد إدراك الدكتور الهمداني قيمةَ الأمثال وأهمية توثيقها ودراستها.
تبويب المعجم
احتوى الكتاب على مدخل وجزئين. المدخل بعنوان: الأمثال اليمانية في النظرية والتطبيق. الجزء الأول: تكوّن من مقدمة، ثم الأمثال اليمانية. وهو الكتاب الذي سبق أن نشرته جامعة عدن، وقد رتّبها بحسب الحروف الهجائية، كما أسلفنا.
أمّا الجزء الثاني من المعجم، فقد تكوّن من مقدمة ثم الأمثال. وقد رتّبها بحسب مناطق انتشارها (تعز، حالمين، ردفان، الضالع، عدن، لودر، يافع)، ويوضح المؤلف أنّ هذا الجزء ساعده على القيام به وإعداده بعضٌ من طلبة الدراسات العليا بحسب المناطق المختلفة، وفيه شرح مفردات الأمثال وتفسير كل مَثَل وإيضاح مواضع استخدامه، ويحتوي هذا الجزء على ألفٍ وثلاثِ مئةٍ واثنين وثمانين مثَلًا.
يتناول الدكتور الهمداني في المدخل قضايا مهمة تخص الأمثال، فهو يذهب إلى أنّ "دراسة الأمثال اليمانية تفتح أمامنا كثيرًا من مجاهل الحياة الشعبية وأسرارها، وتكشف كثيرًا من مغاليق الحياة اليومية الاعتيادية... إذ هي تروي صورًا ناطقة لخبرات المجتمع وتجاربه، وتعكس مختلف علاقاته الإنسانية، فهي صورة تفكيره، منها نعرف كيف يفكّر هذا الإنسان، وكيف يعيش وبماذا يحلم... وهي نتاج العلاقات الاجتماعية في صورتها الواسعة، وهي تمثّل صراع الإنسان اليمني مع الحياة والطبيعة وظواهرها المختلفة من أجل البقاء ومن أجل الحفاظ على النوع. وتشكّل بعضُ هذه الأمثال والحِكَم تجربة الإنسان اليمني في صراعه الأوضاع الاجتماعية والسياسية الشاذة أو السوية. إذ يبدو المثل هنا أرقى وسيلة فنية من أجل احتواء هذه التجربة، كونه يعتمد التعبير الخاطف والإيجاز العميق...".
والأمثال اليمنية كغيرها من أمثال الشعوب تعبّر عن البيئة الجغرافية التي يولد المثل فيها وينتشر، وقد أشار المؤلف إلى هذه النقطة، فقد ذكر أنّ مناطق اليمن مختلفة في طبيعتها الجغرافية وأنماط العيش فيها، منها ما هو قائم على الزراعة ومنها ما هو قائم على البحر وصيد الأسماك، ومنها ما هو قائم على التجارة. فكل منطقة يكثر فيها نوعٌ معين من الأمثال، ويرى المؤلف أنّ على الباحث في الأمثال أن يشير إلى مناطق انتشارها؛ لأنّها تعطي خصائص البيئة التي أنتجت هذه الأمثال وأوضاعها وجوانبها الخفية.
ويتناول المؤلف قضيةً مهمة تتصل بالمعاني والقيم والمغزى الذي ترمي إليه الأمثال، فهناك أمثال ذات مغزى إيجابي، و"هي ذلك النوع من الأمثال التي تخلق في الإنسان الفكرة الصائبة والهدف الإنساني النبيل،... و"تبعث في الإنسان جوانب الحياة الكريمة"، ومن أمثلتها: "من وكن على خسار جاره يبس"، و"من شقى لقى، ومن رقد تمنى"، وهي تحفز الإنسان إلى العمل، وتحذر من الاعتماد على الآخرين، وتحذر من الكسل والخمول.
أمّا الأمثال ذات المغزى السلبي، فـ"هي ذلك النوع من الأمثال التي تخلق في الإنسان التردّد والحيرة والاستسلام"، ومن هذه الأمثال: "من تزوّج أمّنا هو عمّنا".
وبنظرته الثاقبة، يرى الدكتور أحمد الهمداني أنّ "تقسيم الأمثال من حيث المغزى إلى سلبي وإيجابي ضرورة لا مهرب منها، فهي تلقي الأضواء على كثير من القضايا المهمة في الأدب الشعبي اليمني، وتبصرنا بالطريق الصحيح إلى فهمه واستيعاب نظرته إلى الحياة والناس وموقف المؤلف الجماعي من مختلف جوانب الحياة وتقويمه لها". وأرى أنّ معظم الأمثال تعبر عن خلاصة تجارب الإنسان، وهي بمثابة قانون يحكم الناس وتصرفاتهم، ولها أهداف وأغراض عدة، فهي غالبًا تحثّ على التمسك بقيم الرجولة والشرف والعزة والأمانة والوفاء وعمل الخير أو النقد والسخرية من عمل شاذ غير صحيح، ويبدو لي أنّ الأمثال ذات الأغراض السلبية قليلة وبعضها وافدة حديثًا من تأثير التلفاز ووسائل التواصل، ومع هذا فإنّ تفكيك الأمثال وتحليلها مهم لكشف بعض المواقف السلبية في المجتمع، وبيان بطلانها؛ للحدّ من انتشارها في المجتمع.
لقد غدا الاهتمام بالأمثال ودراستها واضحًا وجليًّا في العقود الأخيرة، إذ تنوعت التخصصات التي توليها عناية كبيرة، كالأدب وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وبحسب تعبير الأستاذ صالح بن رمضان في كتابه (التفكير البيني...) فإنّه: "يمكن لعالِم الاجتماع أن يدرس الواقع الاجتماعي وسلّم القيم والصراعات الأيديولوجية بين المجموعات من خلال القطاع المثلي. ويمكن لعالم الأنثروبولوجيا أن يجد فيها مصدرًا خصبًا لأنماط العيش والأعراف والمعتقدات والعلاقة بين الإنسان والمكان والزمان والموت، وهي عند علماء تاريخ اللغات مصدرٌ من مصادر الحفريات التي تساعد على إعادة بناء الذاكرة الثقافية للشعوب"، وإذا كان حديث الدكتور صالح بن رمضان عن الأمثال الفصيحة، فإنّ هذا ينطبق على الأمثال الشعبية أيضًا.
إنّ الجهود التي بذلها الأستاذ الدكتور أحمد علي الهمداني كبيرة وجبّارة، فهي مساهمة كبيرة في جمع وحفظ وتوثيق تراثنا الشعبي، ستُكتب له بأحرف من نور، وتراثنا الشعبي بمختلف أصنافه يستحق التوثيق والدراسة؛ لكونه يمثّل ذاكرة الشعب وعاداته وتقاليده وقيمه وأعرافه وأنماط عيشه وطرائق تفكيره، وقد أدركَت الدول أهمية حفظ تراثها، فأنشأت مراكزَ لإحياء التراث وللأدب الشعبي، في حين ظلّ تراثنا عرضةً للضياع، لولا وجود جهودٍ شخصية شعرت بالمسؤولية وأخذت على عاتقها جمع التراث وتوثيقه، وما زال تراثنا بحاجة إلى المزيد من الجهود، في ظلّ غياب المؤسسات الرسمية.