لويس عوض مفكر عربي، وعالم من علماء الأمة العربية، وأستاذ أكاديمي، ومناضل ماركسي عميق التفكير، واسع الاطّلاع. في العام 1978، فجر في صحيفة «الأهرام» المصرية قضية “معنى القومية”. هذا الموضوع العلمي والمهم أثار ضجةً وردودَ أفعال متباينة، وقد شارك في الحوار أساتذة، وأكاديميون، وأدباء كبار كيوسف إدريس، ووحيد رأفت، والدكتور محمد إسماعيل علي، ورجاء النقاش، والدكتور عبدالعظيم رمضان، وأحمد بهاء الدين، وقبلهم جميعاً، توفيق الحكيم، وحسين فوزي، وميلاد حنا، وآخرون كثيرون، وامتد النقاش من «الأهرام» إلى صحف مصرية أخرى.
قضية القومية -منذ القرن العشرين الفائت- كانت مصدر خلاف فكري بين مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية العربية، سواء بين القوميين، والماركسيين، والإسلاميين، أو القوميين أنفسهم: البعث، وحركة القوميين العرب.
يتناول المفكر لويس عوض فكرة القومية، والأساطير السياسية في الحياة العربية، حيث انتقد دعوة توفيق الحكيم، وحسين فوزي إلى حياد مصر، مندداً بالدعوة لحيادها، لأن ذلك يعني تخليها عن أمنها القومي، وانسحابها من المجموعة العربية.
يفصل الدكتور عوض بين عروبة مصر، وقضية الكفاح المشترك الضارب في أعماق التاريخ، ويرى -ومعه كل الحق- قائلاً: “ليس يفيد أن نقول أن كل بلائنا جاء من العرب، ومن الاستعمار الغربي، أو من التوسع الروسي، أو حتى من إسرائيل، وليس من الرشد السياسي أن نبحث دائماً عن كبش فداء نعلق عليه أخطاءنا ونقائصنا كلما أردنا تشخيص ما بنا من علل”.
يوجه المفكر نقداً مريراً للأساطير السائدة في تسمية البيروقراطية “اشتراكية”، وحكم الأقوى “ديمقراطية”، كما ينتقد الإيغال بالفخر بالماضي في زمن تبدّل الحضارات؛ كالحديث عن معارك “حطّين”، و”مرج دابق”، و”عين جالوت”، في حين أن العدو غير العدو، والقضايا غير القضايا. كما يعيب الاحتفاء بتاريخ طارق بن زياد، وصقر قريش، وصلاح الدين، على حساب تاريخ الرموز المصرية كعلي بك الكبير، ومحمد علي، والخديوي إسماعيل، وأحمد عرابي، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس. وانتقد عوض، تغليب الماضي على الحاضر، وتجاهل تاريخ القوى الحديثة والحية في الواقع المصري، وأسلمة الماضي والحاضر والمستقبل.
يشدد الدكتور على الواقعية السياسية القائلة بأن الأمن المصري العربي كلٌّ لا يتجزأ؛ فأمن مصر جزء من أمن العالم العربي، ولكنه يرى أنه ثبت لمصر أن الطريق الذي كانت تسير فيه دائماً مع الدول العربية، كان يمضي إلى منتصفه، وليس إلى نهاية الشوط، ولم يزد مصر أو جاراتها أمناً عبر ثلاثين سنة، بل زادها تعرضاً للعدوان، وأضعف مناعتها لصد العدوان، رغم ما تبذل مصر من دماء، وما تنفق من أموال، وما تقدم من تضحيات.
ويتساءل: أليس من حق مصر أن تعيد النظر في استراتيجيتها، باحثة عن طريق آخر غير هذا الطريق الدائري الذي ينتهي بنا حيث بدأنا، ولا يحلّ لمصر أو لجاراتها مشكلات؟ ويرى أن كل الحروب ناقصة؛ لأنها تقف في منتصف الطريق، ويعيب التذبذب بين القديم والجديد، بين التخلف والتقدم، مشبهاً الحالة بمأساة سيزيف، ويقرأ تاريخ ارتباط مصر العميق بتاريخ المنطقة كلها عبر الأزمنة المتعاقبة، وكفاحها للمواجهة ضد الحملات الغازية، كالحيثيين في بلاد الشام، والإسكندر الأكبر، والبيزنطيين، وصولاً إلى العثمانيين، والمغول، والتتار.
ينتقد عوض أسطورة القومية الواحدة، أو الأمة الواحدة، بالقدر الذي ينتقد أسطورة اعتزال كل دولة عربية داخل قوميتها، والانصراف إلى مصالحها المباشرة
وينتقد أيضاً اختلاط الثقافة بفكرة سيادة الدم العربي، والإسلام بالعروبة؛ فهو يرى أن العروبة قومية محددة قوماً أو جنساً أو أعراقاً في زمان معين، ومكان معين، على إمبراطورية مهما اتسعت، فلها تخوم معينة، بينما الإسلام رسالة سماوية أُرسلت لكافة بني الإنسان في كل زمان ومكان؛ فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
يرى المفكر أن الجمود الذي وقعت فيه كل إمبراطوريات التاريخ، قد أدى إلى تشقق القوميات المقهورة داخلها، وهذا هو عين الخطأ الذي يكرره البعثيون أو القوميون العرب في دعوتهم الحديثة، وهو فرض مفهومهم للقومية في مركزية الدولة العربية. مبدأ الوحدة الاندماجية التي تقصي القوميات الأخرى، وتلغي كل القضايا والمصالح؛ غدت دعوة شقاق أكثر منها دعوة وفاق، وفجرت ردود أفعال عنيفة في كل مكان، بدلاً من تنمية التآلف، وجمع الكلمة بين القوميات في المنطقة العربية، ويشير عوض أن المفكرين: الحكيم، وفوزي ذهبا من النقيض إلى النقيض.
ويخلص إلى أن العرب ليسوا أمة واحدة، وليسوا قومية واحدة فيها مجرد أقاليم وأقطار كما يذهب البعث. فبالرغم من تعدد قضاياهم، ومصالحهم، وفلسفاتهم، ومكوناتهم الوجودية، إلا أن هناك قضية واحدة تجمعهم عادة ما تكون غاية في الخطورة، ألا وهي قضية أمنهم القومي فرادى ومجتمعين. وينتقد أسطورة القومية الواحدة، أو الأمة الواحدة، بالقدر الذي ينتقد أسطورة اعتزال كل دولة عربية داخل قوميتها، والانصراف إلى مصالحها المباشرة، ويخلص إلى أن المشكلة ليست مشكلة حياد كما عند توفيق الحكيم ومن معه، وإنما الخلاص من أساطير الوحدة والاندماج، ومن أساطير العزلة والاعتكاف، وحلها في بناء التضامن العربي من أجل الأمن العربي، والبناء العربي على الواقعية السياسية، بدلاً من رومانسية “الكل في أحد”.
في مقالته هذه، ينتقد المفكر أسطورتين: أسطورة القومية والأمة، وأسطورة حياد مصر، وعزلها عن عمقها العربي كدعوة توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي.
الدعوة لحياد مصر ثمرة مرة المذاق لعودة الوعي عند الأديب الكبير الحكيم، كأثر سالب لهزيمة 67، وهو ما انتقده مفكرون قوميون أمثال محمد عودة في “الوعي المفقود”، أما ما يسميه بأسطورة الأمة والقومية، فحقيقتان كبيرتان تتجسدان في المقومات الأساسية للأمة، أي أمة؛ فالثقافة واللغة وهما ركيزتان أساسيتان، يقرأهما الباحث والأكاديمي المفكر لويس عوض في المقالة إياها، وهو أيضاً فقيه لغوي مهم، وكتابه “فقه اللغة” من أهم الدراسات، وسوف أؤجل مناقشة قضية الأمة والقومية إلى ما بعد قراءة مقالتيه عن القومية.