مر يوم الـ22 من مايو- الذكرى الثلاثين لإعلان الوحدة اليمنية، وكأنه مأتم بائس وحزين. الـ22 من مايو 1990، يوم من أيام اليمن المجيدة والعظيمة شأن الـ26 من سبتمبر 1962، والرابع عشر من أكتوبر 1963، والـ13 من يونيو 1974.
تجيء الذكرى الثلاثين، ونار الحرب مشتعلة في اليمن كلها، والبلاد في حالة تفكك، والنسيج الاجتماعي يتمزق؛ فهناك أكثر من مئتي ألف قتيل، وأكثر من أربعة مليون مشرد داخل بلادهم، والمجاعة تلف بجلبابها القاتم أكثر من 80% من السكان، والأوبئة الفتاكة تنتشر في طول اليمن وعرضها، كالملاريا، وحمى الضنك، والتيفود، والمكرفس، والطاعون الرئوي، وأخيراً الكورونا المعتّم عليه.
تعلن الأمم المتحدة انهيار النظام الصحي في اليمن، ويُتوقع موت ما يزيد عن 16 مليون شخص؛ أي أكثر من نصف السكان، ومعناه أن الأوبئة حرة طليقة في بيئة موبوءة تفتك بالملايين كما يتوقع المراقبون.
الذين اغتالوا الوحدة يبشروننا باستعادة "الشرعية"، وأن تقتيلنا هو الوسيلة الوحيدة لانتصارنا، أو ظفرنا بالحور العين.
لن نبكي على أطلال وحدتنا المغدورة، ولن نتساءل مع المتنبي: عيد بأية حال عدت؟ ولكننا سوف ننفض غبار الموت، ونتصدى له، ونردد مع عبد المعطي حجازي: "فاخرج له موتاً لموت، أي من الموتين يغلب من يذود عن الديار".
لمئات السنين كان اسمه اليمن، وسيبقى. آمن الزبيري به جثة هامدة:
وآمنتُ بالشعب حقاً وقد رآه الورى جثةً هامدة
أما البردوني فرأى ما وراء سكونه:
ولقد تراه في السكينة إنما خلفَ السكينة غضبةٌ وتمردُ
شيخ المؤرخين الخزرجي أدرك ورأى ما لا يبصره قادة أحزابنا اليوم: "إن لليمنيين وثبات كوثبات السباع".
الموت كبير، والكارثة كبيرة أيضاً، ولكن إرادة الحياة أقوى؛ فوحدة الـ22 من مايو بصيغتها الارتجالية، وبرموزها اللاديمقراطية، وبزمنها، مضت وانقضت؛ فاللحظة الاجتماعية لن تستعاد:
أمس الذي مر على قربهِ يعجز أهل الأرض عن ردّهِ
حكمة أدركها حكيم العرب أبو العلاء المعري قبل مئات السنين، وقبله هراقليطس: "إن النهر دائم الجريان والتجدد؛ بحيث يستحيل الاستحمام فيه مرتين".
الباكون على الماضي المائت- كالداعين إلى إنكاره وطمسه كأن لم يكن- واهمون؛ فالمعنى العظيم للوحدة لا يزال حياً وسيبقى، أما الصيغة ومفرداتها ففي ذمة التاريخ.
الطريقة السلمية التي تحققت بها الوحدة معنى من أهم المعاني العظيمة الخالدة، والانقضاض عليها بالحرب المستمرة حتى اليوم هو الزائل حتماً.
صراع الموت والحياة، والسلام والحرب هو، جوهرياً، ما نشهده ونعيشه اليوم؛ حيث اليمن مهدد بالفناء؛ الحرب، والمجاعة، والأوبئة الفتاكة كل واحد منها يعد بالإبادة والإهلاك، ويبقى الرهان على الإرادة الحياتية والخيّرة للخلاص.
مقاتلونا "الأشاوس" لا يهمهم أن تُباد اليمن، أو تختفي من الخارطة، أو أن نبقى في حكم الأموات الأحياء قدر ما يهمهم أرصدتهم، وما كدسوه من أموال.
المليشيات التي تتوزع البلاد، وتوغل في التقتيل، ونهب الموارد، والتسبب في مجاعة، ومساندة الأوبئة والانتصار بها ولها، وتوفير المناخ والبيئة القابلة- هم المسيطرون.
إعلان الحرب على الوحدة السلمية هي البداية للانهيار، وحروب صعدة الستة، وانقلاب 21 سبتمبر 2014، يأتي في سياق الانقلاب على الوحدة السلمية والديمقراطية لسلطتين وحزبين غير ديمقراطيين.
الحكم العربي كله يقبل بتسليم كل أوراقه للتدخل الأجنبي، وبصفقة القرن وبإسرائيل، ولكنه لا يقبل بثورة الربيع العربي؛ فهي العدو الحقيقي، والخطر الداهم.
وفاؤنا لليمن، ولكل أيامها المجيدة وتاريخها، لن يكون إلاّ بوقف الحرب، وليس بالمستطاع وقف الانهيار الشامل، والمجاعة المُهلكة، والأوبئة القاتلة، إلا بوقف نزيف الدم اليمني، وتحقيق مصالحة مجتمعية ووطنية.
المأساة أن قادة مليشيات الحرب، وزعماء الأحزاب، والدول الوارطة والداعمة، وتجار السلاح، مستفيدون من إطالة أمد الحرب، والتكسب منها. وهم مشغولون بتفكيك اليمن، واقتسام أجزائها قبل الانتصار في الحرب.
الحلفاء يسعرون الحرب بين أتباعهم؛ ليتمكنوا من فرض الاحتلال، واقتسام غنائم الحرب من الأرض، والجُزُر، والموانئ التي يدّعون تحريرها، ومن المعيب أن بعض الأحزاب لا يزال رهانها على هؤلاء المحررين قائماً.
الماضي البائس يتقاتل مع نفسه، وقد تحولت أدوات الحكم في الماضي، أداة طيعة للصراع الإقليمي المتحكم في الصراع على اليمن، والإرادة المحلية هشة.
يرى بعض السياسيين والمحليين: أن اليمن لن يعود كما كان، والرؤية صائبة في جوانب معينة، ولكن أيضاً لن تبقى الأمة كما هي؛ فالاستبداد المتقاتل مع نفسه وضد شعبه متحالفاً مع القوى الاستعمارية، مهدد بالاحتجاجات المدنية (ثورة الربيع العربي) الآتية من تونس، وميدان التحرير في مصر، والممتدة في غير منطقة عربية، ومنها اليمن.
سعير نار الحرب ودخانها يعتم أو يواري هذه الاحتجاجات المدنية، ويخفت صوتها؛ فالأزمة الشاملة للحكم العربي بمسمياته المختلفة هي ما دفع ويدفع للحرب، ولكن الحرب لن تكون الحل لأزمة هذه الأنظمة الفاسدة والمستبدة. وحقاً، فإن ما بعد الحرب وما بعد كورونا سيكون مختلفاً، ليس في اليمن وحدها، وإنما في المنطقة العربية كلها، بل والعالم. والحكم العربي كله يقبل بتسليم كل أوراقه للتدخل الأجنبي، وبصفقة القرن وبإسرائيل، ولكنه لا يقبل بثورة الربيع العربي؛ فهي العدو الحقيقي، والخطر الداهم.
لن يبقى العالم على حاله، ولن يعود العالم كما كان بعد الكورونا، والحروب في غير مكان. التغييرات المنتظرة كارثية بكل المعاني والدلالات، ولاشيء مستحيل في التاريخ؛ فالاحتمالات مفتوحة كأبواب الجحيم؛ فالحاضر خطر، والآتي شديد الخطورة.
"أرى دولاً توزع كالهدايا، وأرى السبايا فيك تفترس السبايا". كإبداع رؤية محمود درويش، ولكن لاشيء في التاريخ يموت؛ فالحياة أقوى من الموت، وإرادة الحياة والسلام تبقى، وسنردّد دوماً مع الفيلسوف الإيطالي غرامشي: "لا يهزم العقل إلا تفاؤل الإرادة".