إذا كان من المعروف أن "اليمن"، في اللغة اليمنية القديمة، تعني الجنوب، فكيف نفسر هذا الاتفاق بين اللفظتين (اليمن = الجنوب)؟ كيف نفسر هذا الترادفً؟
ثمة من رأى أنه إنما سُمّي اليمنُ يَمَناً لأن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل–حسب الأسطورة–تَيامَن بعضُهم يمينَ الشمس وهو اليمن، وبعضهم تَشاءم، أي ذهب نحو الشام، أي الشمال.
هي أسطورة؛ ولكنّ بذرة الحقيقة فيها هي "الشمس"، باعتبارها مرجعيةً لتحديد الجهات الأربع. نحن بحاجةٍ، إذَنْ، إلى عقد الصلة الحقيقية بين الشمس، بصفتها النقطة المرجعية لتحديد الاتجاه، من جهةٍ، وبين السبب الحقيقي الذي وضع الشمس بالذات، وليس غيرها، في هذه المكانة لتلعبَ هذا الدورَ المحدد، من جهةٍ أخرى. أي: لماذا الشمسُ هي التي حددت اتجاه الجنوب والشمال، وبالطبع اتجاه الشرق والغرب؟
وأزعم أنه لأهمية مقدار مكانة الشمس في العبادة –والله أعلم– يدعو القرآن: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْد ِرَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا....)[سورة طه - الآية 130]. وعموماً، بالشمس جرى تحديد الجهتين المعروفتين بطريقةٍ مباشرةٍ من جهة طلوع الشمس وغروبها: الشرق والغرب. تبقى الجهتان: الجنوب والشمال. لم يذهب الإنسان بعيداً لتحديدهما؛ باستقباله طلوع الشمس تحددت الجهتان: على يمينه جهة اليمين، أي الجنوب، وعلى يساره جهة الشمال. والسؤال نفسه: لماذا وُصفتْ جهة الجنوب باليمين، ومنها اليمن، وجهة اليسار بالشام؟
الرياح، إذن، التي صبغت الجهات بصبغتها، فجاءت الرياح الجنوبية بتسمية "اليمن" والرياح الشمالية بتسمية "الشمال". ومن ثم –كتقديرٍ منطقيٍّ– جاءت تسمية اليدين: اليمنى التي على جهة الجنوب
للردّ على السؤال، ومن ثَمّ لتسليط الضوء أكثر بهدف تعزيز فرص تثبيت أركان هذه الفرضية، ما علينا إلا أن نسأل البيئة الطبيعية، التي تجيب بأنه من المعلوم، الذي لا يختلف عليه اثنان، أن البيئة الطبيعية لجنوب شبه الجزيرة العربية (اليمن) كانت تتمتع بثراءٍ طبيعيٍّ أكيدٍ، قياساً إلى شمالها. وفي اللغة العربية، نجد أناليُمْن (بضم الميم وفتحها) تعني البَرَكة. ويقال: "يامِن بأصحابك وشائِم"؛ أي: خُذْ بهم يميناً وشمالاً. وقد أطلق عليها الأقدمون من غير العرب "العربية السعيدة"؛ وهو ما يماثل مفهوم "البركة".
إذنْ، اليمينُ بَرَكةٌ والشمالُ نحسٌ. وبطبيعة الحال، لم يحدث هذا إلا بتأثير العوامل البيئية؛ من أهمها الرياح وما تحمله من خيرٍ أو شرٍّ، يؤثر، مع عوامل أخرى، على البيئة الطبيعية عموماً، وأهمها على البيئة الحيوية من نباتٍ وحيوان، ونتيجة ذلك، على الإنسان بالطبع. ولأهمية الرياح البالغة في التأثير على الحياة البيئية، حسب تقدير القدماء، فقد جعلوها هي المساهم الأهم في صياغة الاصطلاحين: "اليمن" و"الشمال".
هي الرياح، إذن، التي صبغت الجهات بصبغتها، فجاءت الرياح الجنوبية بتسمية "اليمن" والرياح الشمالية بتسمية "الشمال". ومن ثم –كتقديرٍ منطقيٍّ– جاءت تسمية اليدين: اليمنى التي على جهة الجنوب، والشمال التي على جهة الشمال.
لاستكمال الفائدة، من المفيد النظر في لفظتيْ "الجنوب" و"اليسار"؛ وذلك لأننا نطلق على اليد، المقابلة لليمنى، اليد اليسرى. وبالنظر في المادتين "جنب" و"يسر"، لم تساهم أيٌّ منهما في تسليط أي ضوءٍ على علاقة معنى كل منها بالجهتين: الجنوب والشمال. أما المعنى المعروف للفظة "يسار" فهو الثراء والنعمة؛ قال الله تعالى: (.... سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرَاً) [سورة الطلاق - الآية 7]، وهو عكس الشمال، أي الضيق والشدة. فكيف يكون هذا التناقض للفظتيْ "شمال" و"يسار" لمعنى نفس الجهة؟ وهو سؤالٌ وجيهٌ للغاية.
أظن –وعسى ألّا يكون من حساب "بعض الظن إثم"– أن تفسير هذا التناقض حاصلٌ من عادةٍ عربيةٍ متبَعةٍ أحياناً؛ وهو أن العرب كانت تطلق على بعض أصناف مظاهر التشاؤم ألفاظا تحمل معنى التفاؤل. من ذلك، أن بعض القبائل اليمنية كانت تتشاءم من يوم الأربعاء (الربوع)؛ ولكنها أطلقت عليه "المبروك"، اعتقاداً منها أن ذلك يخفف من وطأة شؤم ونحس هذا اليوم.