أكبر ميزانيةٍ للإنتاج الدرامي في تاريخ الدراما اليمنية، كانت 3 ملايين دولار. أما المسلسل الذي فاز بهذه الميزانية الضخمة، فهو "سيف بن ذي يزن"، الذي أُنتج عام 2003، وانتهى بأكبر فضيحةٍ في تاريخ الإنتاج الدرامي اليمني (وربما العربي أيضاً).
أنتج المسلسل بتمويلٍ من المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون اليمنية، وتم إسناد الإنتاج إلى شركة إنتاج سورية. وتولى مسؤولية الإخراج المخرج السوري مأمون البني. ونتيجةً لخليطٍ من الفساد اليمني الممنهج و"المركزية الشامية"، تم تهميش الشريك اليمني، وتحويل العمل إلى عملٍ دراميٍّ سوريٍّ خُرافيٍّ، مليءٍ بمشاهد الجن والعفاريت والسِّحْر. كانت صدمة الجمهور اليمني كبيرةً، خاصةً أنه كان يتوقع مشاهدة دراما تاريخيةٍ مُحْكَمةٍ عن بطلٍ من أبطال تاريخه القديم.
لم تتوقف المركزية الشامية في تجاهل نجوم الدراما اليمنية وإسناد دور سيف بن ذي يزن لممثلٍ سوريٍّ مغمورٍ؛ بل إن مهمة كتابة السيناريو والقصة والحوار، كاملةً، تم احتكارها من جانب الشريك السوري. حتى إن الأستاذ مطهر الإرياني، الذي كُلّف بالمراجعة التاريخية للمسلسل، تم التعامل معه بشكلٍ مستهتِرٍ، ورُفضتْ كلُّ اعتراضاته وانتقاداته حول أحداث المسلسل الخرافية.
أتذكّر أني زرت الأستاذ مطهر الإرياني في منزله، قبل عرض المسلسل، وكان في قمة الغضب والاستياء من فساد المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون اليمنية، ومن غرور وتبجح الشركة السورية؛ لكنه رفض الحديث لوسائل الإعلام، ووعد بأن يكتب مقالاً مفصلاً حول معاناته واعتراضاته على المسلسل الفاشل. لكن، للأسف الشديد، لم يكتب الأستاذ الإرياني ما وعد به، وفضّل الصمت والابتعاد.
كانت الثلاثة ملايين دولار (500 مليون ريال بسعر الصرف آنذاك) كفيلةً بإحداث نهضةٍ في الدراما اليمنية، وكنا نستطيع إنتاج عشرة مسلسلاتٍ راقيةٍ وعاليةِ الإنتاج بالمبلغ المهدور.
هذه الفضيحة، ذاتُ العيار الثقيل، قد تلقي الضوء على التقلبات والصعوبات التي واجهت الدراما اليمينة، وساهمت في تدنّي مستواها، حتى عن المستوى الذي عرفناه في الماضي.
يتذكر اليمنيون مسلسل "الفجر"، عن أوضاع اليمن في عصر الإمامين يحيى وأحمد حميد الدين، باعتباره أفضل ما أُنتج من دراما يمنيةٍ متكاملة الأركان، نصاً وتمثيلاً وإخراجاً. بُث المسلسل لأول مرة عام 1983، ثم أعيد بثه في منتصف التسعينيات، ليثير اهتمام الجيل الشاب، بمضمونه وشكله.
نجح المسلسل في صياغة شخصياتٍ دراميةٍ خُلدت في ذهن المُشاهد اليمني، مثل "قاسم أبو الليل" و"بركتنا" و"سعيد ماضي" و"الشاوش" و"عسكري الإمام". وبرع في نقل معاناة اليمنيين في ظل حكم العنصرية والتخلف الإمامي، ونجح في إيقاظ وعي الجيل الشاب بالماضي البائد وأهمية الجمهورية. ونتيجة النجاح الساحق للمسلسل في عرضه الثاني، قرر المؤلف، الدكتور أحمد الحملي، كتابة الجزأيْن الثاني والثالث. وفعلاً، أنجز كتابة السيناريو؛ لكن الجزأين لم يُنتجا، نتيجة استهتار وفساد جهة الإنتاج الدرامي الوحيدة في ذلك الحين.
كان الدكتور أحمد الحملي معتزاً بقدراته ومهاراته في الكتابة التلفزيونية، وكان يرى أنه يستحق أن يستلم نفس المبلغ المالي الذي يستلمه أي كاتب سيناريو عربي. ولم يكن المبلغ الذي طلبه ضخماً. وإن لم تخني الذاكرة، فقد طلب مبلغ 2000 دولار، مقابل كل حلقة؛ لكن الحكومة رفضتْ ذلك، واعتبر الدكتور الحملي ذلك إهانةً له، ورفض إنتاج المسلسل.
لكن الحكومة، التي رفضت دفع مبلغٍ بسيطٍ كهذا لأمهر "سيناريست" يمنيٍّ في الثمانينيات والتسعينيات، قذفتْ بثلاثة ملايين دولار في مسلسلٍ عبثيٍّ، وفسادٍ فاضح.
قد يكون للسياسة دورٌ في رفض إنتاج الجزأين المتبقيين من المسلسل الشهير، خاصةً وأنهما يتناولان أوضاع المجتمع اليمني بعد ثورة سبتمبر، وصراعات الثوار الداخلية. ولم تكن السياسة والصراعات وتقلباتُها بعيدةً عن تدمير أي إمكانيات لنهضةٍ درامية.
كانت السياسة خلف اختفاء "دِحْباش"، والكوميديا الشعبية التي جذبت الجماهير، بعد أن تحوّل مصطلح "الدَّحْبَشة" إلى نوع من الانتقام السياسي والتهييج المناطقي نتيجة اجتياح الجنوب، بعد حرب 1994. وكانت السياسة والصراع الدامي خلف الانفصال بين أجيال الدراما اليمنية؛ بحيث إن الجيل الشاب، الذي ينتج الدراما الرمضانية الحالية (خاصة بعد 2015)، لم يبْنِ تجاربَه على خبرات الجيل الماضي، ولا استفاد من أخطائه.
علاقة المشاهد اليمني بالدراما اليمنية مثل علاقته بمنتخبه الوطني لكرة القدم، ولا شيءَ يُعبّر عنها بصدقٍ أكثر من أغنية فريد "الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام"!
يعطي المُشاهد اليمني كلَّ حبه ودعمه للدراما اليمنية، ويدعمها بلا حدودٍ؛ مع إنه لا يتلقى منها بالمقابل إلا أقل القليل. ويتجدد الجدل السنوي حول تواضع مستوى الدراما اليمنية؛ رغم أننا ننتج أعمالاً دراميةً منذ أكثر من 50 عاماً. ويزداد إيماني، كل مرة، أن السبب الرئيسي هو النص/ السيناريو/ الكاتب.
مشكلة السيناريو الدرامي في اليمن أنه عمَلُ من لا عملَ له؛ أو هو العمل الذي يقوم به الممثل أو المخرج أو المنتج في أوقات الفراغ.
مشكلة السيناريو الدرامي في اليمن أنه عمَلُ من لا عملَ له؛ أو هو العمل الذي يقوم به الممثل أو المخرج أو المنتج في أوقات الفراغ
لهذا، نجد عندنا المُخرج-الكاتب، والممثل-الكاتب، والمنتج-الكاتب؛ لكن لا نجد كاتب السيناريو المحترف، الذي يتم الاعتداء المستمر على حقه في الوجود.
حاز مسلسل "سدّ الغريب" على دعم المشاهد اليمني، بصفته أفضل ما في السوق اليمنية في رمضان 2020، واستفاد، بشكلٍ غيرِ مباشرٍ، من تراجع مسلسليْ "غربة البن" و"جمهورية كورونا"، شكلاً ومضموناً.
لكن العيوبَ الكبيرة في السيناريو، وتشعُّبَ القصة في مساراتٍ بلا رابطٍ، والانفصالَ بين السيناريو والإخراج، والتعثرَ الفني في تقديم مشاهد الـ"فلاش باك"، تعيدنا إلى نقطة البداية: السيناريو الناجح، والقصة المرسومة بذكاءٍ، والحوار الدرامي.. وكل هذه العوامل لا تزال غائبةً عن الدراما اليمنية.
ولكي لا أكون متشائماً، يُحسب للعمل (سدّ الغريب) الجديةُ والابتكار، وتقديم مجموعةٍ موهوبةٍ من الممثلين الشباب سيكون لهم مستقبلٌ كبيرٌ لو رسموا خطواتهم القادمة بذكاء. كما أنه أعاد نبيل حزام في دورٍ جميلٍ يليق بتاريخه.
يهمني في النهاية أن أطرح مقترحاتٍ للنهوض بالدراما اليمنية. المقترح الأول، هو العناية بالسيناريو كمفتاحٍ أول لتطوير الدراما اليمنية. النهوض بالنص الدرامي التلفزيوني اليمني قد يكون عبر استكتاب الروائيين والقُصّاص ذوي الخبرة. ولدينا روائيون كبارٌ يمكن أن يقوموا بعملية كتابة القصة، والمساهمة في كتابة السيناريو. ولو راجعنا التجارب الدرامية العربية، لوجدنا أن الروائيين الكبار، مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وممدوح عدوان، كان لهم دورٌ كبيرٌ في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات، حتى ظهور كُتّاب السيناريو المحترفين لاحقاً.
كما أن لدينا تراثاً روائياً مهماً، يمكن الاستفادة منه وتحويله إلى دراما تلفزيونية راقية. وللأسف، فشلتْ كل المحاولات التلفزيونية لتحويل روايات وقصص محمد عبدالولي إلى مسلسلاتٍ ناتجةٍ؛ لأن من تولى كتابتها لم يكن لديهم الثقافة أو المهارة اللازمة لذلك.
وقد يكون النهوض بالسيناريو الدرامي اليمني، عبر استخدام أسلوب "الورشة"؛ وهو أحد أسباب نهوض الدراما السورية، حيث تصبح كتابة النص مسؤوليةً جماعيةً لعددٍ من الكتاب، يجتمعون في ورشةٍ مشتركةٍ لصياغة الفكرة والقصة والشخصيات والأحداث. كان أسامة أنور عكاشة قد بدأ أسلوب الورشة قبل وفاته، مع السيناريست الشباب ، وكان الروائي العالمي ماركيز قد وثق أسلوب الورشة في كتاب "نزوة القص المباركة" بترجمة صالح علماني، ودرّب عدداً كبيراً من كُتاب السيناريو على الكتابة الجماعية للنص الدرامي.
ولو قرر منتِجٌ مثقفٌ استخدام أسلوب الورشة، فيمكن جمعُ الروائيين وكتاب القصة المحترفين (وجدي الأهدل، حبيب سروري، علي المقري، سمير عبد الفتاح.. وغيرهم) مع كُتاب السيناريو الشباب، من أجل صناعة جيلٍ مستقبليٍّ من كُتاب السيناريو المحترفين.
كما يمكن استخدام أسلوب الإعلان العام، بحيث تتم إتاحة الفرصة لأكبر عددٍ من الكتاب الشباب، وحتى المواطنين العاديين: أفكار حلقاتٍ بسيطةٍ، إلى عنوانٍ معينٍ للمنتَج، ثم بعد ذلك يتم اختيار أفضل الأفكار وصياغتها درامياً، مع الاحتفاظ بالحق الفكري لصاحبها. وقد نجحت هذه الفكرة في مسلسليْ "طاش ما طاش" و"بقعة ضوء" .
إن الشخصيات التاريخية اليمنية والأساطير اليمنية تُعَدُّ منْجَماً ضخماً للدراما، وقد سبق للدراما اليمنية أن قدمت في ثمانينيات القرن الماضي مسلسل "وريقة الحناء"، عن أسطورةٍ يمنيةٍ قديمةٍ أشبه بحكاية "سندريلا" المعروفة. وقدمنا أيضا مسلسل "وضاح اليمن"، عن الشاعر المعروف وصراعه مع الحب والسياسة في البلاط الأموي.
أما المقترح الثاني، فهو الإنتاج المشترك. للدراما اليمنية تاريخٌ ناجحٌ من الإنتاج المشترك اليمني-المصري، في مسلسل "وريقة الحنا" الذي شاركتْ فيه الفنانتان الكبيرتان أمينة رزق وكريمة مختار، وقام بالتصوير والإخراج فريقٌ فنيٌّ مصريٌّ، بغرض نقل الخبرة للطاقم اليمني. وكذلك، كان هناك إنتاجٌ يمني-سوري ناجحٌ في مسلسل "وضاح اليمن"، الذي قام ببطولته النجم السوري طلحت حمدي، وأخرجه علاء الدين كوكش. وكان الإنتاج المشترك فرصةً ذهبيةً لنقل الخبرة للفريق اليمني، ثم انتهت تجارب الإنتاج المشترك نهايةً مأساويةً في فضيحة مسلسل "سيف بن ذي يزن".
لا نريد للدراما اليمنية أن تضارع الدراما السورية والمصرية، فهذه لها تاريخها وتراكماتها التي لا يمكن اللحاق بها بسهولة؛ لكن على الأقل نتمنى لها أن تصل إلى مستوى الدراما السعودية الجديدة، التي نجحت في مناقشة أكثر قضايا المجتمع السعودي حساسيةً، وفي شكلٍ دراميٍّ مقتصدٍ وبسيط.