اليوم (3 مايو) هو يوم الصحافة العالمي. وفيه تقدم "خيوط" هذه الاحتفائية الصغيرة كتحية لواحد من رواد الصحافة اليمنية المخضرمين عبر نصف قرن. هل مضت خمسون سنة أم أكثر على حضوره عبر هذا الزمن المكتظ بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية؟
ما من شك في أن كثيرين باتوا يعرفون صوت عبدالباري طاهر، المدافع عن الحريات الصحفية والحقوق الإنسانية في اليمن عبر مسيرته المهنية؛ سيجد القراء الكرام بعضاً من ملامح هذا الصوت في مقالات الزملاء الأعزاء الذين كتبوا عن طاهر في هذه الاحتفائية، لكني أستميح العذر منكم للحديث عن صوت عبدالباري طاهر الذي أعرفه منذ ما يقارب 11 سنة.
أحاول تذكّر تاريخٍ أقدمَ من العام 2009، لمعرفتي بالأستاذ عبد الباري طاهر؛ فهو من الأشخاص القلائل الذين يبعثون في النفس الأمنيات بمجايلتهم، ضدّاً على رهاب التقدم في العمر.
هكذا كانت معرفتي بالمفكر الإنسان، متزامنةً مع بداية عملي في الصحافة محرراً ثقافياً، ثم مدير تحرير في صحيفة "حديث المدينة". ولم أكن حينها أعرف شيئاً عن موسوعيّته في الشعر والثقافة الشعبية، إلى أن أرسل عدداً من المقالات تعليقاً وإضافةً على كتاب الدكتور عباس السوسوة: "المُشَعْطَطات السبع".
كان تواصلي معه هاتفياً فقط، وعندما انتقلتُ للعمل في صحيفة "الأولى"، ظل الهاتف وسيلة التواصل الأكثر استخداماً بيننا. تشرّفتُ باستقبال مقالاته، وباتصالاته لكي يتأكد من وصول كلِّ مقال.لا أتذكّر عددَ مقالاته التي نُشرتْ في "الأولى" طيلة أربع سنوات ونصف السنة؛ إلا أني أتذكر ذلك الهمّ العام والإنساني الطافح منها، ومن قراءاته المعمقة في الراهن، وما يترتب عليه من ملامح المستقبل القريب والبعيد لليمن.
كنا نعيش المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة فبراير 2011، وكانت آمال المفكر والحكيم بدولةٍ مدنيةٍ ومستقبلٍ أفضل، تتشبّع بنسبةٍ متزايدةٍ من حذرِ وحيرة الحليم. ذلك الحذر من الإفراط في الحلم، في بلادٍ يتجه بها قادتُها وفرقاؤها، وكثيرٌ من نخبتها، نحو هاويةٍ لا يرون منها سوى الحافّة؛ بينما يرى، هو وقليلون جداً من أصحاب البصيرة، قتامةَ الهاويةٍ التي لا يعلم قرارها سوى الله وحده.
لم يستغرقْ عبدالباري طاهر وقتاً طويلاً، مثل جميع الصحفيين والكتاب، ليستوعب صدمة الحرب، وما لبث أن عاد لمقارعة اليأس وتفشي ثقافة الحرب، وها هو يكرِّس سنوات نضجه المعرفي والسياسي لمناهضتها وترويج "نداء السلام".
أحياناً، كان يأتي صوت الأستاذ عبدالباري على الهاتف منقبضاً؛ لكن حجم الإرادة التي تدفعه تبدِّد ذلك الانقباض بين كلمةٍ وأخرى. كانت كثافةُ العمل تجعل ذهني مشوشاً معظم الوقت، لكن ذلك لم يسلبْني قدرة الإحساس بالألم الذي يتسرّب من صوته في بداية الكلمة ويختفي في نهايتها أو العكس. حدث ذلك منذ تعرفتُ على نبرة الألم في صوته يوم التفجير الإرهابي الذي حصد أرواح أكثر من مائة جندي في ميدان السبعين، عام 2012. عندما شاهدتُ رقمه في شاشة الهاتف، توقعتُ أنه سيخبرني عن مقالٍ أرسله أو بصدد إرساله. وعلى غير عادته، لم يبدأ المكالمة بالسؤال عن "الحال والصحة والأولاد"؛ بل سأل مباشرة: "هل علمتَ بمجزرة اليوم؟". كان الحزن والألم يُثْقلان صوته، وهو يتأسّى على الجنود الذين تطايرت أشلاؤهم، وعلى ضياع هيبة الدولة، متسائلاً بقلقٍ عن ملامح مستقبلِ بلدٍ ينزلق نحو العنف بتلك الوتيرة.
عندما أصابت انعطافة الحرب، في مارس/آذار 2015، أصواتَ الكثيرين من الصحفيين والكتاب والمثقفين بالاحتباس، لم يتعالَ صوتُ عبدالباري على الحدث الصادم. لكنه لم يستغرقْ وقتاً طويلاً، مثلنا، ليستوعب الصدمة، وعاد لمقارعة اليأس وتفشي ثقافة الحرب. طالما ناهض العنف؛ وها هو يكرِّس سنوات نضجه المعرفي والسياسي لمناهضة الحرب وترويج "نداء السلام".
ليس لديّ الكثيرُ من المشاهد البصرية لأتذكرها مع العم عبدالباري، إن جاز لي مناداتُه هكذا؛ ذلك أن معرفتي به يكاد يغلب عليها الطابعُ السمعي. يعرف صوتي وأعرف صوته على الهاتف بدون عناءٍ؛ لكنْ عندما نتقابل، وقليلةٌ هي المرات التي تقابلنا فيها، يكون عليّ، في كل مرةٍ، التعريف بصاحب اليد الممدودة لمصافحته.
أتذكّر اتّصاله التحفيزي بعد أن قرأ، في العام 2013، فصلاً منشوراً من روايةٍ لم أُكملْها ولا يبدو أني سأكملها قريباً. ربما كان حتى ذلك الوقت يعرفني كصحفيّ، رغم أني دخلت إلى العمل الصحفي من بوابة الأدب. غير أنه أبدى استعداد الهيئة العامة للكتاب، التي كان يرأسها حينها، لطباعة الرواية فور اكتمالها. عندما أخبرتُه بأن إنجازها سيتأخر، طلب مني إحضار نسخٍ من مجموعتي القصصية الأولى إلى مكتبة الهيئة لشرائها بسعرٍ تشجيعيّ. ولأني لم أعتد البيع التشجيعي للمؤسسات، تأخرتُ في إحضار النسخ لما يقارب العام، رغم تذكيره المستمر لي بالأمر. كان عليّ أن أخجل من نفسي وأذهب بالنسخ. وعندما دخلتُ مكتبه، كان عليّ مجدداً التعريف بصاحب اليد التي تصافحه، قبل أن يسأل عمّا بداخل الكيس البلاستيكي المقوّى. خرج معي من مكتبه، ووجّه الموظفين المختصين باستلام النسخ، ثم أخذني في جولةٍ إلى مخازن الهيئة، ولم يغادر المخزن حتى تم تنفيذ توجيهه بأن تصرف لي مجموعةٌ من إصدارات هيئة الكتاب. كما لو أنه كان يتوقع بأن وزارة المالية سوف تُسقط الكثير من بنود ميزانية الهيئة، بعد سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على السلطة. أخبرني أحدُ موظفي الهيئة، بعد عدة أشهر، بشأن إسقاط البنود في وزارة المالية.
عندما بدأنا التحضير لإطلاق موقع "خيوط"، لم ينقطع الاتصال بيني وبين الأستاذ المفكر، الذي لا تزال تتملّكني الرهبة كلما سمعت صوته، من شدة تواضعه وبساطته في الحديث. غالباً ما أتلعثم أثناء حديثي معه، بسبب تلك البساطة والألفة والثقة، في صوته.
بقي مشهدٌ بصريٌّ واحدٌ في علاقتي بالأستاذ عبد الباري، وهو الأخير بالطبع؛ كان ذلك يوم توقيع كتاب القدير عبد الرحمن بجاش "حافة إسحاق"، في بيت الثقافة. رأيتُه مع محمد عبدالوهاب الشيباني وآخرين، وتقدمتُ لمصافحته. ومجدداً، رأيت خلف نظارتيه ذلك التساؤل الذي لا يخطئه الحدس: "من الأخ؟"؛ لكني اكتفيت بالسؤال المقتضب عن الحال، ولم أُعرّف بنفسي بصرياً. في نفس اليوم، تواصلنا هاتفياً عن آخر مستجدّات التحضير لإطلاق موقع "خيوط"، وكان صوته غامراً بالتحفيز والتشجيع والمساندة. لقد اعتدت الألفة السمعية معه لدرجة أن أولادي باتوا يشاركونني هذه الألفة ويفرحون بسؤاله عن أحوالهم.