تنعزل عن محيطها لساعاتٍ في هوايةٍ يوميةٍ تغرق فيها، وهي تُشكل بيدها العقيقَ اليمنيَّ، في جوٍّ من الهدوء التامّ، بعيداً عن ضوضاء الحرب وضجيجها .هكذا اقتحمت الشابة صفاء عبده الفقيه مهنة كانت ولا تزال حكراً على الرجال.
بداية الحكاية
في مملكتها بـ"سمسرة النحاس" في صنعاء القديمة، شاهدناها وهي مُنهمكةٌ بشغفٍ كبيرٍ تنحتُ جواهرها الثمينة، لا صوتَ يعلو فوق صوت آلاتها .
في هذا المكان، بدأت حكاية صفاء، كأول فتاةٍ يمنيةٍ تقتحم مهنة صناعة العقيق؛ حيث فرضتْ طالبةُ قسم الآثار بجامعة صنعاء حضورها في هذا العالم، من خلال معركةٍ خاضتْها بكل قوّةٍ ضد العديد من الأصوات التي حاولتْ منْعَها من دخول السمسرة لتطوير مهارتها في المركز الوطني للمشغولات والحرف، كونها فتاة .
هناك من ينظر إلى العقيق كأحجارٍ صمّاء، لكن نظرةَ صفاءَ إليها تختلف كثيراً؛ فهي تراها مجوهراتٍ ساحرة
مهنة تشكيل العقيق وصناعته لا تخلو من المخاطر. مع ذلك، تُجيد صفاء التعامل مع أحجارها باحترافيةٍ عالية. وجدناها تُدخل أحجارَ العقيق في نارٍ متوهجةٍ، لتحركها بعد ذلك بحذرٍ شديدٍ داخل القالب المخصّص له، ثم تتحول للجلوس خلف عجلةٍ شديدة الدوران لتمرر بيدها حجر العقيق، رغم حرارته المرتفعة، على حافة العجلة؛ في محاولة لإكساب فص العقيق قدراً من الملمس الناعم. وفي غضون دقائقَ معدودةٍ، نرى الحجر يتحول إلى فصٍّ مقطّعٍ ذي تناسقٍ تامٍّ شديد اللمعان، في منتهى السحر والجمال .
تفاصيل المواجهة الأولى
على الرغم من المحاولات المتكررة لمنعها من دخول سمسرة النحاس، من قبل البعض الذين يعملون في المكان، إلا أن صفاء رفضتْ رفْع الراية البيضاء؛ قبلت التحدي لتعيش تفاصيل أول مواجهةٍ لها، فانتصرت أميرة العقيق اليماني في معركتها، من خلال ثقتها بنفسها وفرض شخصيتها، بسبب عشقها للمهنة وبفضل دعم أسرتها وعددٍ كبيرٍ من المناصرين لها، كما قالت.
تُرجع صفاء سِرَّ التحاقها بهذه المهنة إلى أسرتها التي شجعتها على ذلك، رغم العادات والتقاليد التي تفرض على المرأة في هذا المجتمع المحافظ الابتعاد عن مهنٍ تُعدُّ حِكْراً على الرجال .
هناك من ينظر إلى العقيق كأحجار صمّاء؛ لكن نظرةَ صفاءَ إليها تختلف كثيراً؛ فهي تراها مجوهراتٍ ساحرةً: "كل يوم لي حكاية معها، كل يوم أتعلّم شيئاً وأكتشف حجراً جديداً. حُبي وعشقي للأحجار الكريمة، جعلني أنجح في تحويلها إلى مُجوهرات تنطق بالسحر والجمال".
للعقيق اليماني العديد من المميزات والخصائص التي ينفرد بها عن غيره؛ فهو-بحسب صفاء- يُعدّ من أهم أنواع الأحجار الكريمة ومن المنتجات الرائجة على المستوى العالمي، له خصائص فنيةٌ وجماليةٌ عالية، من حيث رسوماتُه وصورُه وألوانُه وأحجامه.
مخاطر الاندثار
أكثر شيءٍ يقلق صفاء، خوفُها من مخاطر اندثار الحرفة، وعدم الاهتمام بها وقلة الإمكانيات التي تجعل الحرَفيين عاجزين عن منافسة السوق الخارجي. كما أن غزو المنتجات الصينية المُقلّدة يُشكل هو الآخر تهديداً لهذه الحرفة، والكلام لا يزال لصفاء .
والعقيق هو نوعٌ من أهم الأحجار الكريمة التي اشتهر بها اليمن وارتبط اسمه بها منذ قرون، وهي تسميةٌ تُطلق على مجموعة من الأحجار الكريمة مكونةٍ من مادة السيليكا، ولها أشكالٌ وأحجامٌ مختلفة. وفي هذه الأحجار مركّباتٌ وعناصرُ كيميائيةٌ تبرز جمالياتها وتعطيها ألواناً مختلفة .
وتوجد هذه الأحجار في العديد من جبال اليمن، كجبال منطقتيْ آنِس وعَنْس بمحافظة ذمار، جنوبي العاصمة اليمنية صنعاء، وعقيقها هو الأشهر، وفي جبال خولان في محافظة صنعاء، وجبال المحويت، وجبال محافظة إب وسط اليمن .
شهرةٌ تجاوزتْ حدودَ جماليته
يحظى العقيق اليماني بشهرةٍ عالميةٍ واسعةٍ تجاوزت حدود جماليته وبريقه. وهو، بالنسبة لليمنيين، ثروةٌ وتراثٌ؛ حيث قد تصل قيمة الفص الواحد منه، في بعض الأحيان، إلى أكثر من 500 دولار. للعقيق اليماني مزايا كثيرةٌ واستخداماتٌ مختلفةٌ. ومن الخصائص الفنية التي يتمتع بها، ألوانه الأخّاذة وأحجامه النادرة، إلى جانب الزخارف التي يحتوي عليها، من صورٍ وأشكالٍ ورسوماتٍ متعددةٍ، فضلاً عن الرونق الجمالي الذي يضفيه على المصنوعات الذهبية والفضية، عندما تُطعّم به.
كما يحتل العقيقُ اليماني، منذ القدم، قائمةَ أشهر منتجات اليمن وصادراته الوطنية، مثلما هو حال البن والعسل وغيرهما من المنتجات. أما عملية إنتاج العقيق فهي محصورةٌ في صنعاء القديمة وحدها، دون غيرها من المدن اليمنية الأخرى. وفي "باب اليمن" وحده، يكثر وجود حرفيي العقيق وتُجّاره.