تعاني اليمن من شحٍّ حقيقيٍّ في الدراسات التاريخية، ولا يوجد إلا كتبٌ تاريخيةٌ قليلةٌ مكتوبةٌ بالأسلوب الحديث للكتابة التاريخية، وليس كتابةِ القرون الوسطى غيرِ الجذابة، والتي لا يتمكن من قراءتها سوى المتخصصين أو المولعين بالتاريخ. لذا تظل السرديةُ التاريخية لما جرى باليمن مجالاً مفتوحاً للأوهام والصراعات السياسية؛ رغم أن وجود الحد الأدنى من توحّد السردية التاريخية تجاه بعض القضايا ضروريٌّ لبناء الهوية الوطنية. فعلى سبيل المثال، من المخزي التشكيكُ بعدالة وشرعية الثورة الفرنسية التي تُعدُّ محورَ الهوية الوطنية الفرنسية. مثال آخر مشابهٌ يتعلقٌ بقصة الصراع لتأسيس دولة الولايات المتحدة الأمريكية والحرب الأهلية، بكل ما يتعلق بها من مفاهيم، مثل مفهوم "الآباء المؤسسين" وقداسة هذه المفاهيم لدى الأمريكيين، وما تُشكل من أساسٍ قويٍّ للهوية الوطنية الأمريكية.
هناك أسسٌ تاريخيةٌ لهوية كل أمّة؛ فالسردية التاريخية للأحداث الكبرى التي شكلتْ هذه الأمة تحتاج لقدْرٍ من التوحيد والوضوح لدى الجميع، حتى تكون قاعدةً مشتركةً يُبنى عليها الشعورُ بالانتماء والولاء الوطني. هذا أمرٌ تفتقده اليمن بشدة في تاريخها، خصوصاً في كتب التاريخ المدرسي، التي تُقدم التاريخَ بشكلٍ غير متماسكٍ ولا مفهومٍ، فهو يقفز من حدثٍ لآخرَ، دون توضيحٍ للأسباب أو التدرج التاريخي.
من أبسط المعلومات المغلوطة المنتشرة –مثلاً- أن الإمامة حكمت اليمن ألف عام؛ وهي المقولة التي يرددها الحوثيون كثيراً، بمنطق أن الأمور عادت لطبيعتها، وأنه لا يمكن تغييرُ مسار ألف عام، مما يُعَدُّ فيها تشكُّلُ الجمهورية حالةً استثنائيةً وحدثاً عابراً. بالطبع، لا ينتقص أهميةَ الجمهورية وثورة سبتمبر أنها قوّضتْ حُكْمَ ألف عام؛ لكن المشكلة أن المعلومة مغلوطةٌ وتلغي جزءاً مهماً من التاريخ اليمني الوسيط.
نشأتْ دولةُ الإمام الهادي في القرن الثالث الهجري، أيْ قبل ألفٍ ومائة عام. لكنها سقطت في عهده، ولم تدُم طويلاً في حياة الرجل، الذي قضى قرابة أربعة عشر عاماً في حالة اقتتالٍ مستمرة. وبعد وفاته، لم يظهر أئمةٌ أقوياء. وبدأت الدولة الصليحية في النشوء، وهي التي حققت الوحدة اليمنية حتى عدن. بالتالي، لم تكن دولة الإمام الهادي ممتدةً، وظل الأئمةُ مقتصرين في ظهورهم، وربما سلطتهم، على صعدة. وعند ضعف الدولة، كانت سلطتهم تمتدّ لبعض المناطق الشمالية، وفيما ندر تصل إلى صنعاء.
سرديةُ الألف عام من حكم الأئمة تلغي مرحلةً هامةً من تاريخ اليمن امتدت قرابة خمسة قرون، شهدت فيها اليمن حكمَ دولٍ قويةٍ وحّدت اليمن حتى عدن؛ مثل الدولة الصليحية، والدولتين الرسولية والطاهرية، اللتان تُعدّان من التجارب المهمة، من حيث اهتمامهما بالبحر وأسطولهما البحري الضخم.
كما أن الدول سالفة الذكر كانت عواصمها (جبلة، تعز، رداع، عدن). ولم تكن صنعاء عاصمةَ أيٍّ منها؛ مما يتعارض أيضاً مع الإصرار على تقديم صنعاء عاصمة اليمن التاريخية دوماً. فاليمن تغيرت عواصمها بتغير دولها. وهذا ليس أمراً غريباً في تاريخ الدول، ولا يقلل من أهمية صنعاء كأحد أهم المراكز الحضرية في اليمن، بسبب موقعها ودورها التجاري.
من المهم معرفة أن الثروة في السابق كانت مرتبطةً بالزراعة أو التجارة. وكان البحر يلعب دوراً أساسياً في مهمة اليمنيين التجارية. لهذا كان صعود الدولة الزيدية، المحصورة بالمناطق الجبلية في اليمن، مرتبطاً –بقوةٍ- بانهيار أهمية دور البحر ودور اليمن التاريخي كوسيطٍ تجاريّ. وهذا مرتبطٌ بتراجع أهمية المنطقة العربية كوسيطٍ تجاريٍّ، بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، أواخر القرن الخامس عشر؛ بالتالي، تحول الملاحة العالمية نحو جنوب أفريقيا كممرٍّ بين آسيا وأوروبا.
كان صعود الدولة الزيدية يعد نقطةَ تحولٍ مهمةً لمركز القوة نحو مناطقَ تُعد فقيرةَ الموار نسبياً، لأنها أقلُّ خصوبةً من مناطق مثل إب وتعز وتهامة؛ فهو صعودٌ ارتبط تاريخياً بمعارك الأئمة الزيديين ضد العثمانيين في مرحلة سيطرتهم الأولى على اليمن (1539-1635)، ونجاحهم أخيراً في طرد العثمانيين.
كان صعودُ الإمامة متزامناً مع مرحلة انحطاطٍ دخلتْها المنطقة؛ لذا فإن اعتبارها امتداداً لمرحلةٍ ظلاميةٍ في العصر الوسيط يُعد استعارةً غربيةً لقراءة تاريخنا
من الصعب الجزم بأن القتال بين الأئمة والعثمانيين أخذ بُعداً وطنياً؛ فحينها لم تكن قد تشكلت مفاهيم الهوية الوطنية الحديثة. والبُعدُ الديني الأممي كان هو المكوِّنَ الأساسي للشعوب في تلك المرحلة. لكن، في تلك المرحلة، نجحت القوة الزيدية في حشد اليمنيين ضد العثمانيين، بسبب سوء إدارتهم ونزعة اليمن الدائمة نحو الاستقلال.
كانت اليمن ذاتَ أهميةٍ جغرافيةٍ للعثمانيين، بسبب حروبهم ضد البرتغاليين للسيطرة على البحار. كما كان احتكارها لزراعةِ وتجارةِ البن يُدرُّ أرباحاً هائلةً للإدارة العثمانية.
هذه الأرباح بالذات هي ما ساعدت الإمامةَ لقرابة قرنٍ في حكم اليمن موحداً؛ لتظهر هنا أسطورة الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم باعتباره أولَ موحدٍ لليمن منتصف القرن السابع عشر، حسب رواية المؤرخين المروجين للإمامة، رغم أن سيطرة الدولة الإمامية على حضرموت كانت حينها محدودة وغير مباشرة عن طريق قبائل يافع، وهي رواية تتجاهل الدولتين الصليحية والرسولية ونجاحاتهما في هذا الإطار.
كما منحتْ أرباحُ البن الإمامةَ أموالاً طائلة تساعدهم في كسب الولاءات وإجهاض التمردات التي ظلت ظاهرةً مصاحِبةً لدولة الإمامة طيلة عهدها. لذا، لم يكن من المستغرب أن بداية تفكُّك اليمن وخروج المناطق الجنوبية عن سيطرة الإمامة تزامَنا مع خسارة اليمن لاحتكار البن بداياتِ القرن الثامن عشر.
انشغالُ الإمامة الدائمُ بالمعارك الداخلية للطامعين في السلطة بين الإمام ومرشحين للإمامة، بسبب النظرية غير المنضبطة للحكم التي تبنّاها المذهب الزيدي، وكذلك التمردات في المناطق غير الزيدية التي كان يعاني سكانُها من ضرائبَ مضاعفةٍ واستبعادٍ كليٍّ من منظومة الحكم والقوة. هذا كلُّه كان سبباً في تواضُع أدائها الإداري وفشلها في تسيير معيشة الناس، حتى بالمقارنة بطبيعة دول العصر الوسيط التي نجد لها آثاراً مرتبطةً بمعاش الناس، مثل القنوات المائية والسدود، غير المدارس وليس فقط المساجد. هذا غيّر الإرثَ المعرفي المهم لتلك المرحلة.
بالطبع، كانت مرحلة حكم الأئمة الزيدية باليمن هي مرحلةَ انحطاطٍ عامةً تعيشها كل المنطقة؛ لكن حتى في هذا السياق، وبمقارنتها بالقدرات الإدارية للعثمانيين، تظل أكثر تواضعاً. فسياساتُ الأئمة عززت الانقسام المناطقي باليمن، ثم تحولت سريعاً إلى فوضى عارمة في القرن التاسع عشر؛ مما يفسر فشلَ الأئمة في الحشد خارج المناطق الزيدية، مثل المرة الماضية، ضد العثمانيين في المرحلة الثانية من سيطرتهم (1872-1914)، بل إن مدينةً مثل إب وقفت مع العثمانيين ضد قوات الإمام يحيى حميد الدين عام 1904.
إذنْ كان صعودُ الدولة الزيدية نتاجاً لعدة عواملَ إقليميةٍ، أبرزها عامل التدخل الخارجي وقدرة المناطق القبلية الشمالية -أكثر من غيرها- في القتال ضمن منظومةٍ متماسكةٍ، بسبب فكرة القيادة الدينية والسياسية لدى المذهب الزيدي. وعمر هذه الدولة أقل من ثلاثة قرون، لو استبعدْنا مرحلةَ الحكم العثماني الثانية.
عمليةُ بناءِ دولةٍ حديثةٍ تتطلب أسساً سياسيةً وتاريخيةً لهويتها، وهذا يعني سرديةً تاريخيةً موحدةً ومؤسسةً للدولة. وتعد ثورة سبتمبر 1962، لحظةَ انطلاقٍ مؤسِّسةً في اليمن لما بعدها، من ثورة أكتوبر بالجنوب ووحدة اليمن عام 1990
كان صعودُ الإمامة متزامناً مع مرحلة انحطاطٍ دخلتْها المنطقة؛ لذا فإن اعتبارها امتداداً لمرحلةٍ ظلاميةٍ في العصر الوسيط يُعد استعارةً غربيةً لقراءة تاريخنا. فالمرحلة الوسيطة من التاريخ اليمني مرتبطةٌ بإقليمها، وليس بأوروبا؛ سواء بخصائصها أو مراحل ازدهارها. فالإمامة كانت امتداداً لمفاهيم وطبيعة تلك المرحلة بعد انحطاطها؛ لذا كانت إمكانية إصلاح هذه المنظومة التي صارت متخلفة عن التطور الحضاري الذي شهدته أوروبا، أضف لهذا، انعدام إمكانية إصلاح نظام الإمامة بسبب امتلاكها إشكالياتٍ ذاتيةً خاصةً بنظرية الحكم المضطربة، والتي تُشرِّع التمرد والقتال، مع جمود الأسس الاجتماعية والاقتصادية التي كانت قائمةً عليها.
بالتأكيد، عمليةُ بناءِ دولةٍ حديثةٍ تتطلب أسساً سياسيةً وتاريخيةً لهويتها، وهذا يعني سرديةً تاريخيةً موحدةً ومؤسسةً للدولة. وتعد ثورة سبتمبر 1962، لحظةَ انطلاقٍ مؤسِّسةً في اليمن لما بعدها، من ثورة أكتوبر بالجنوب ووحدة اليمن عام 1990، وتقويضُها هو تقويضٌ أيضاً لإنجاز استقلال الجنوب ووحدته، ومن بعده الوحدة اليمنية.
من هنا، تنطلق خطورةُ الروايات المضادّة لهذه الثورة. وهذا لا يعني عدمَ قابليتها للنقد، مثل التجاوزات والاختلالات الكثيرة المصاحبة لها، وكذلك ضرورة التقييم المستمر لأحداثها وانفتاحها على رواياتٍ مختلفةٍ حول قضاياها الجدلية، مثل ضرورة التدخل المصري ومداه وصراع أغسطس 1968.
لهذا، لا تحاول حركاتٌ دون وطنيةٍ وذاتُ طابعٍ مذهبيٍّ ومناطقيٍّ، مثل الحركة الحوثية، فعلَ شيءٍ مثل تقويض ثورة 1962، والتي قدمت لليمن -لأول مرةٍ- مشروعاً سياسياً يغادر مرحلةً تجاوزها الزمن، وينقل صراعات اليمن من مستواها المناطقي- المذهبي لمستوىً سياسيٍّ مختلفٍ يحاول تجاوز تلك الانقسامات نحو أفق هويةٍ وطنيةٍ حديثة.
لذا، من سردية الألف عام، إلى الانقلاب العسكري والتأثير المصري، حتى روايات المظلومية بسبب حالات إعدامٍ عشوائيٍّ ومصادرة ممتلكات معظمها استعيد، قامت بها عناصرُ ثوريةٌ بهدف تضخيم هذه الإشكاليات المصاحبة لكلّ حدثٍ تاريخيٍّ فارقٍ، وتصويره كأنه جزءٌ من طبيعة الحدث، كل هذا أظهر الثورة كما لو أنها كانت مجرد عملٍ موتورٍ يتماهى مع جماعاتٍ ماضويةٍ لا تنسي ثاراتها التاريخية.
بل إن هناك من يحاول أن يحمِّل أخطاءَ مرحلة الرئيس السابق علي عبدالله صالح على ثورةَ سبتمبر؛ فهي ثورةٌ أسست للجمهورية القبلية العسكرية الفوضوية، بعكس مرحلة الإمامة المنضبطة، حسب الرواية المضادة؛ متجاهلةً حقيقةَ إن مرحلة حكم صالح ليست التطبيقَ الفعليَّ للمفاهيم والأطر السياسية لثورة سبتمبر التي خالف صالح أبسطَ قواعدها، مثل التوريث.
هذه المحاولاتُ الكيديةُ للطعن في ثورة سبتمبر، وتقديم قراءةٍ جدليةٍ لقيامها، هي بدايةُ عمليةِ تقويضٍ لأول أُسُس الهوية الوطنية؛ في محاولةٍ محكومٍ عليها بالفشل تسعى لتأسيس منطلقٍ جديدٍ؛ وهو ما يسمى "ثورة 21 سبتمبر". وفارقٌ كبيرٌ بين حدثٍ يؤسس لمستقبلٍ، وآخرَ يستدعي الماضي، وحدثٍ تقوم به عناصرُ تمثل جميعَ أنحاء اليمن، وآخرَ تقوم به جماعةٌ تعبّر عن عصبيةٍ مذهبيةٍ خاصة.