تأخر العرب بحوالي خمسة قرون، في استخدام الآلات الموسيقية الحديثة، عن أوروبا؛ وهي ربما المدة التي تأخر فيها اليمنيون عن بقية العرب في استخدام العود. استخدم اليمنيون آلةً صغيرةً شبيهةً بالعود، عُرفت بالقنبوس، مكونةً من أربعة أوتار. بينما جاء العودُ إلى اليمن عبر مصر، وبدأ استخدامُه في عدن منذ الثلاثينيات. ونتيجة العُزلة، ظل هذا العود غيرَ معروفٍ في صنعاء، والشمال الواقع تحت حكم أسرة حميد الدين، وجاء إليها من عدن عبر المهاجرين.
ظل القنبوس الآلةَ الرئيسيةَ في الغناء اليمني حتى القرن العشرين؛ فمن ناحية لم يعرف اليمنيون تقنيةَ صناعة العود، إما بسبب الانغلاق أو انعدام المواد الأولية ومعرفة لَيِّ الخشب، التي تُعد أساسية في صناعة آلة عود. إذإن صناعة القنبوس بسيطة، ويتم نحته من شجرة البرقوق أو "الطنب". أما مقتنيو هذه الآلة من الطبقة العليا فكانوا يفضلون نحته من شجر الجوز، إضافة إلى أن صناعة القنبوس تقتصر على نجارين عاديين. ولم يكن الخطأ مُتاحاً في نحت الجذع، سواء بتجويف البطن الذي يُغطى بالجلد، والرقبة النحيلة؛ وفي حال وقوع خطأ، يتم رميُ الجذع والبدءُ بنحت جذعٍ آخر.
يعود استخدامُ العود إلى العهد الآشوري، بحسب ما تُدلّل النقوش؛ وهو ليس بالضرورة نفسَ آلة العود المُستخدمة حالياً في الوطن العربي. هناك آثارٌ يمنيةٌ تؤكد أن اليمنيين استخدموا آلتين موسيقيتين، إحداهما شبيهة بالعود، لكنها ذات رقبة قصيرة، وتظهر في نقش يعود للفترة السبئية، إضافة إلى آلة صغيرة أشبه بالقيثارة.
ربما عرفت اليمن العودَ خلال الفترة الرسولية. ونقل المستشرق الفرنسي جان لامبير في كتابه "طب النفوس"، عن مخطوطةٍ قديمةٍ لم تُنشرْ حدَّ قوله، بأن تعز، عاصمة الرسوليين، عرفتْ صناعة أربعة أنواع من العود "الرباب" وآلات إيقاعية. ولا نعرف أي نوع من العود تحديداً؛ لكنها إشارة إلى وجود أربع آلات وترية شبيهة بالعود، وربما الرباب. وهذا يعطينا انطباعاً أن تلك الصناعة راجت أثناء الدولة الرسولية، نتيجة للبذخِ الذي شهدته قصورُها والتساهلِ مع انتشار الغناء والمعازف؛ بينما اختلف الأمرُ عند بروز الأئمة كلاعبين سياسيين محليين أكثر أهميةً، منذ العصر الحديث، وتحديداً منذ بداية الغزو العثماني لليمن.
المزمار، له حضورٌ واسعٌ في الثقافة الموسيقية اليمنية، لكن استخدامَه أقلُّ أهمية، مقارنةً بالقنبوس؛ إذ ارتبط بالأشكال الغنائية الشعبية والرقصات المصاحبة
فمن ناحيةٍ، كان صغرُ حجم القنبوس يجعل من السهل إخفاءهعن الرقابة؛ إذ إن الإمام المهدي، في القرن الخامس عشر، حرّم الغناء وأفتى بتحطيم كلالآلات الموسيقية، ومعاقبة محترفي الغناء. مثلُ هذا الأمر شهدته اليمن في عهدالإمام يحيى، والذي يُشاع بأن عساكره حطّموا عشرات الأعواد اليمنية في المحويت.لكنْ إضافةً إلى قمع السلطة الدينية، التي مثّلَها الأئمة، للغناء وآلات العزف، لمتكن تقنيةُ صناعة العود متاحة، على بساطتها.
ظل جنوبُ الجزيرة العربية متخلفاً في صناعة الآلات الموسيقية عن شماله، لكنه أيضاً احتفظ بنسيجٍ موسيقيٍّ خاصٍّ شديدِ الاختلاف. وكانالقنبوس لفترةٍ طويلةٍ يؤدي وظيفةَ العود، دون بلوغِ الصوت الذروة؛ لأن القنبوس فيمساحته الصوتية أقلُّ بنصف أوكتاف عن العود الذي يصل إلى أوكتافين أو خمس عشرةنغمة.
اعتمدت اليمنفي صناعة الموسيقى على تقنيةٍ بدائيةٍ. وكان القنبوس الآلةَ الرئيسيةَ في كلِّ اليمن؛ لكن صنعاء لم تعرفْ سوى أشكالٍ إيقاعيةٍ محدودة. وبمصاحبة الغناء، تم استخدامُ الصحن المعدني، وربما "التَّنَكْ"؛ بمعنى أن صناعة الآلةالموسيقية والإيقاع ظلت في مناطقَ يمنيةٍ محدودةٍ. مع أن "المَرْفَع"كان دائماً مصاحباً للحياة العامة، باعتبارِهِ محفلاً، فيه تستعرض القبيلة رقصاتِهاوالمزارعون احتفالاتِهم.
على خلافِ ذلك،عرفت المناطقُ الساحليةُ تنوعاً في استخدام الآلات الإيقاعية، مثل "المرواس"،التي ربما انتقلت إلى حضرموت من الهند، ومنها إلى الخليج العربي. لكن الواضح أن كثيراًمن الآلات الإيقاعية عرفتْها حضرموت عبر ساحلها، مثل "الدربوكة" وبعض الأشكال القادمة من الهند. لم يقتصر الأمر على ذلك؛ حيث اصطحب البحارة الحضارمة عبر البحر، وتحديداً من السويس، آلة "السمسمية" المصرية. وبحسب بعض الآراء، فإنها تعود إلى القرن الثالث الهجري.
لكن لماذا لم ينقل البحارة الحضارم أو المهاجرون آلاتٍ أخرى إلى اليمن؟
والسمسمية هي نوعٌ من القيثارة المصرية، تعتمد على تقنيةٍ بسيطةٍ، خصوصاً في تركيب الخشب بشكل معين، ربما كحذوةِ فَرَس، ومدّه بالأوتار. بينما العائقُ لنقْلِ العود إلى تلك المناطق الساحلية يتعلق بعدم إمكانية نقل تقنيته، وانعدام المواد الأولية الخاصة به.
لم يتطور المشهدُ الموسيقيُّ في اليمن، وعندما أراد بعض الفنانين تسجيل أغانٍ بمصاحبة الموسيقى، كانت بيروت أو القاهرة هي الملجأ. واقتصر عملُ الفرقة الموسيقية ضمن بيروقراطية الحكومة، تحت إشراف وزارة الثقافة
أما المزمار، فله حضورٌ واسعٌ في الثقافة الموسيقية اليمنية. لكن استخدامَه أقلُّ أهمية، مقارنةً بالقنبوس؛ إذ ارتبط بالأشكال الغنائية الشعبية والرقصات المصاحبة. ورغم شُيُوع ازدراء الغناء والموسيقى في اليمن؛ إلا أنه لم يكن في نفس الدرجة. إذ إن هناك تراتبيةً في النظر إلى الآلةالموسيقية. وعلى سبيل المثل، هناك استهجانٌ للعود من حيث أنه مُحرمٌ دينياًبالنسبة للبعض، لكن النظرة نحو المزمار تتسم بالاحتقار والانتقاص. و"مُزَمِّرْ"،صفةُ عازفي المزمار، لها دلالةٍ احتقاريةٍ في اليمن.
وفي حديثٍ، أخبرني صديقي وزميلي أحمد عبدالرحمن بأنه في لقاءٍ حول الفنان علي الآنسي، سأل ضيفه ماإذا كان الآنسي تعلَّم عزفَ آلاتٍ عدةٍ، بما فيها المزمار، ولم يقتصر تعلُّمُه على العود. رد الرجل بحدّيّة بأن الآنسي لم يعزف على المزمار أبداً؛ وكأنه يدفع وصمةَ عارٍ طالت فناناً يبجّله.
بالنسبة لليمنيين كما العرب، تولي النظرة نحو الغناء أهمية للصوت تفوق الآلة الموسيقية؛لهذا لم يكن تطويرُ المصاحبة الموسيقية بتلك الأهمية. وحين تم استخدامُ العود،ظهرت فرقٌ موسيقيةٌ، أشرفت عليها الدولة، كانت تجاري روحَ الحداثة التي ظهرت في المحيط؛ بينما طغى على الغناء استخدامُ العود. ولم يشهد الغناءُ اليمني تطوراً في استخدام الموسيقى؛ لأنه ظل في أغلبه غناءً تقليدياً، أو لأنه كان غناءً لم يعثر على طريقِ تَحَضُّره. وإذا عدنا إلى المواد الموسيقية التي ظهرت مجاورةً لأغاني يمنيين مثل أبو بكر سالم، قدموا أعمالهم في المهجر، سنلاحظ في فترة تسجيلاته في بيروت أثرَ الألحان الشامية في بعض اللوازم الموسيقية. وعندما بدأ تسجيلاته في مصر، ظهر الأثرُ المصري؛ هذا ما يمكن ملاحظته في أغانٍ، مثل "ما علينا يا حبيبي"من مقام الكرد، وكذلك في إحدى أغانيه يتم استعارة صوت الساكسفون الشرقي على مقام البيات، من مقدمة "حاول تفتكرني" لعبد الحليم حافظ، بشكله المرسل.
لم يتطور المشهدُالموسيقيُّ في اليمن. وعندما أراد بعض الفنانين تسجيل أغانٍ بمصاحبة الموسيقى،كانت بيروت أو القاهرة هي الملجأ. واقتصر عملُ الفرقة الموسيقية ضمن بيروقراطية الحكومة، تحت إشراف وزارة الثقافة، دون أن تشهد تطوراً. فالغناء اليمني لم تتشكل حوله مفاهيمُ نظريةٌ، إنما قواعدُ عُرفية تم تناقلها. واستمر الشكلُ الموسيقيُّ في الغناء اليمني مجردَ حالةِ ترفيه. فالتأخرُ الموسيقيُّ في اليمن على صلةٍ بانحسار توظيف الآلات الموسيقية وتطويرها في سياقٍ يمنيٍّ خاصٍّ يحملها إلى مضامينَ أوسعَ،لابتكار شكلٍ يستوعب الغناء التقليدي وينطلق منه إلى المستقبل. إنها آمالٌ يترتب عليها أن تستوعب ملامحَ إنتاجيةً جديدةً وقيماً اجتماعيةً عصريةً، تقوم على ثقافةٍيمنيةٍ واعدةٍ، وتؤسس ليمنٍ مختلف.