هنالك في تاريخ معرفتنا بالأشخاص لحظاتأو أحداث فارقة، تظل راسخة في الذاكرة، فكيف الحال إذا كان شخصاً بحجم الدكتور عبدالعزيز المقالح؟! عرفت الدكتور عبد العزيز وأنا لا أزال طفلا ألعب مع أولاد عمومتيفي فناء منزل عمي الروائي والقاص زيد مطيع دماج في حي السنباني، حينما كان يأتي أحياناًللمقيل. وأهم ما لفت انتباهي إليه آنذاك هو تعامله البسيط معنا، وكأننا كبار. فيتحدثإلينا باحترام وكأنما نحن أنداد له لا مجموعة أطفال نساهم بإزعاج مقيلهم. لقد جعلهتواضعه قريباً إلى قلوبنا نحن الأطفال.
بمرور السنوات وحين اتضحت اهتماماتي الإبداعية،صرت واحداً من أولئك الكثيرين الذين احتضنهم، حتى أنه نشر لي في الصفحة الأدبية لصحيفة"26 سبتمبر" التي كان يشرف عليها أول قصة لي بعنوان "انتظار".
ترعرعنا على شعره وتشجيعه، ليس أنا فحسببل أغلب المبدعين اليمنيين في مختلف المجالات الأدبية والفنية والبحثية، وكان ولا يزاليقتطع الكثير من وقته لقراءة أعمال المبدعين والتقديم لهم خصوصاً المبتدئين، وهو عملعظيم رغم ما يتعرض له من انتقادات بسبب كتابته عن الكثير من الأعمال التي يعتبرها المنتقدوندون المستوى، ما دفعني إلى سؤاله ذات مقيل عن سبب ذلك، فقال إن من حق أي شخص أن يقتحممجال الأدب وأن ينال فرصته، وإن في كل عمل أدبي -مهما كان مستواه- أفكارًا تستحق أنيقرأها الآخرون.
أتذكر حين كتبت عملي الروائي الأول وقدمتله مسودته، أنه تقبلها مني على استحياء، وطلب مهلة أسبوع ليعطيني رأيه. وضع المسودةفوق بعض المسودات الأخرى، فقلت في نفسي ربما ستجعله كثرة مشاغله ينساها هناك، ولكنه-وكأنما قرأ أفكاري- طلب من أحد الموظفين أخذ تلك الكتب والمسودات إلى السيارة.
ذهبت في الموعد إلى مكتبه في مركز الدراساتوالبحوث الذي يقابل فيه كل من يود رؤيته. استقبلني بود وترحاب كبيرين، وكأنما أنا منأعز أصدقائه، لا شاباً يريد رأيه في عمله الأول، ثم طلب مني أن أمهله أسبوعاً آخر لأنالرواية حسب رأيه تتطلب قراءة أخرى. أخبرني أنه مندهش من العمل وكانت كل ملامحه تنضحبالفرح لأنه قرأ عملاً متميزاً حسب رأيه. حين أتيت إليه في الموعد، استقبلني إلى بابالمكتب، وأخذني من يدي واتجه بي نحو قاعة الاجتماعات وطلب من مدير مكتبه ألا يُدخلعلينا أحداً، وظل لأكثر من ساعتين يناقشني في الرواية، ويبدي بعض الملاحظات ومكامنالقوة، حتى أنني وأنا أخرج من لديه أحسست بأنني أمشي على الهواء من كثر الفرح والزهو.
لم يكتفِ بذلك، بل بدأ يشيد بها في كافةالمقايل. وهكذا هو مع كل عمل يعجبه، فهو قد يكتب للجميع لكنه لا يشيد إلا بما يعجبهفعلاً من أعمال.الدكتور عبد العزيز مثال ناصع للمبدع الكبير الذي سخركل حياته للأدب إبداعاً ونقداً، وكان له الفضل في بروز الكثير من المبدعين والأعمالالإبداعية اليمنية والعربية، وساهم في ذيوع الإبداع اليمني على المستوى العربي، فهومن وجهة نظري الأب الروحي للثقافة اليمنية.