فيالعام 2013 تقريباً، كانت بدايةُ معرفتي بعبد العزيز المقالح- الإنسان. وكان للصَّدِيقوالرّوائيِّ وليد دماج كلُّ الفضل بتعرفي عليه. مازلتُ أتذكر أولَ لقاءٍ ليبالدكتور عبد العزيز، في مكتبه بمركز الدراسات والبحوث اليمني. شعرتُ برهبةِالموقف وأنا أجلس بجانبه. وكنت أرتعش من القلق، لأنها كانت المرةَ الأولى التي أقفبها أمام أديب بهذا الحجم. فمن طبعي التهربُ من مقابلة الشخصيات الكبيرة، مهْماسنحت لي الظروف. كان خجلي –ومازال- هو ما يجعلني أتهرب من مقابلتهم. في ذلك اللقاء،الذي استمر ساعةً تقريباً، احتوى الدكتور خجلي وصمتي، وتَحَمَّلَ ترددي في النقاشكثيراً.
في مقيله، الذي يُقام يومين في الأسبوع، أحسست بالحميمية مع من يتواجد فيه. ورغم خجلي وصمتي الدائم هناك، ومحاولة الآخرين إحراجي في الحديث وإلقاء بعض النصوص؛ إلا أنه كان يُصرّ على تَرْكي، وألّا يُحرجوني. إحساسُه بالآخرين، وخجلُه كذلك في كثيرٍ من الأوقات من بعض مرتادي مقيله، وعدمُ جَرْحِهِ لأي شخصٍ يتواجد أو يحاول أن يكون له مكانه في المقيل، كل ذلك كان بمثابة سمةٍ تجذبني إلى مقيله. لم يكن يرُدُّ أيَّ شخصٍ يطرُقُ بابَه ويحْضُر مقيلَه. وكما أن مقيله مفتوحٌ للجميع، فمكتبه كذلك هو أيضاً. وأحسب أنه الوحيدُ الذي لا نجِدُ أيَّ حاجبٍ على بابه؛ من أراد مقابلتَه فبابُه مفتوحٌ، للصغير قبل الكبير، وقلبُه مفتوحٌ للجميع. لم أره في أيِّ يومٍ، طوالَ سبعِ سنواتٍ من معرفتي به، يتحدث بسوءٍ عن أيِّ شخصٍ، ولا يُحبِّذ الحديثَ إلا في الإطار العام وفي الشأن الثقافي. وفي كثيرٍ من الأحيان، عندما كانت تتغير دفةُ الحديث إلى الشأن السياسي، كان يُعيدها إلى المربع الأول: الثقافي.
سألْتُه ذاتَ يومٍ عمّا يأخذه عليه كثيرٌ من الأدباء حين يكتب مقدماتٍ لِمَا يَصْلُح وما لا يَصلح للنشر، فأجاب: "من يقرأ بعنايةٍ مقدماتي وقراءاتي للأعمال الأدبية والفكرية، سيجد أني أعطيهم حقَّهم سلباً وإيجاباً؛ وهناك من يلتقط هذه الإشارات ويعملُ بها، وهناك من يتجاهلها، وهناك من لا ينتبه لها أصلاً".
تحاورتُ معه في كثيرٍ من الأمور الثقافية، عندما كنتأزوره في مكتبه؛ وهو المكان الذي أستطيع أن آخُذَراحتي في الحديث معه. ففي بداية الحرب، كان قليلون هم مَنْ يزورونه في مكتبه، وكنتأستغل ذلك في زيارته كثيراً والنقاش معه حول الحرب ووضع البلاد، والانقسام الذي يتفاقم،وأثر الحرب على الوضع الاجتماعي لليمن. كانت رؤيتُه عميقةً في استنتاج أسباب الحربوآثارها ونتائجها المستقبلية، وكيف سيكون الوضعُ بعد سنواتٍ من الحرب، وكيف سينقسمالناسُ بين الأطراف، وأن الأطرافَ نفسَها ضيّعتْ على نفسها فرصةَ الحوار الوطنيوالتصالح، والانتقال من مرحلة الماضي إلى مرحلة المستقبل. إن جزءاً كبيراً منرؤيته يتحقّقُ على أرض الواقع، الآن، مِمّا أراه من نتائج الحرب وآثارها.
كثيرٌ منالأدباء يعيبون على الدكتور عبد العزيز إسهابَهُ في كتابة مقدمات الدواوينوالروايات والكتب الفكرية، وأنه يكتب مقدماتٍ لأعمالٍ لا تصلح أبداً للنشر. عن هذاالموضوع تحديداً تحاورتُ معه، وسألتُه بشكلٍ مباشرٍ في إحدى جلساتنا بمكتبه؛ فقاللي: "من يقرأ بعناية مقدماتي التي أكتبها للشعراء أو قراءاتي لأعمالهمالأدبية والفكرية، سيجد أني أعطيهم حقَّهم سَلْباً وإيجاباً. فأنا لا أملك إلااللغة، وهي وسيلتي في توصيل فكرتي ورأيي لمن يريد. وهناك من يلتقط هذه الإشارات ويَعْمَلُبها، وهناك من يتجاهلها، وهناك من لا ينتبهُ لها أصلاً. ومن خلالها أعطي لصاحبالكتاب جرعةً من الأمل، وفي نفس الوقت جرعةً من التوجيه". واستمربالقول: "من الأفضل لي أن أشجِّع الشابَّ أو الشابةّ على الإمساكبالقلم والاستمرار في الكتابة، بدلاً من حمل السلاح أو الانطواء على الذات. فمَنْكانت موهبتُه حقيقيةً فسوف يستمر في الكتابة والإبداع، ومن كان لا يملكها فسينسحبمن المشهد الأدبي".
في هذا الجانب، ومن وجهة نظري، هو محقّ. فكثيرٌمن الأشخاص الذين كَتَبَ لهم مقدماتٍ لأعمالهم أثبتوا وجودَهم رغم كل العراقيل،والبقيةُ توارَوْا خلف المشهد وأصابهم النسيان.
حتى جائزته،التي أُطلقتْ في العام 2010، خصَّصَها لأدبِ الشباب الذين لم يَجِدوا من يمسكبأيديهم. ولم ينسَ المرأة كذلك في أن تنال نصيبَها من الجائزة، ومن الحديث في ما كَتَبَه.
رغم انقطاعيعنه في الشهور الأخيرة، إلا أن مقيله مازال يُقام في موعده. ورغم انسحاب وغيابالكثيرين من مُحبِّيه وزائريه، إلا أنه مازال يُقدِّم الأمل لكلِّ شخصٍ يَحْضُرلزيارته. ومن يزُرْهُ يرَ إنسانيته في ذروة تَوَهُّجِها؛ الإنسانية التي تاهتْ وانْسَحَقَتْعند كثيرٍ من الأدباءِ ورجالِ السلطة، الذين أوغلوا في الدمِ اليمني. ورغم عمرِهِالذي يقارب التسعين عاماً، إلا أن روحَ الثورة مازالت تَسْكُنُه ويَسْكُنُها؛ وهوما نقرؤه في قصائده ونستشعره من مجالسته.
يُعوِّل الدكتور المقالح كثيراً على حكمةِ اليمنيِّالبسيط، في تجاوزِ الكثيرِ من الاختلافات والانقسامات، وإيمانُهُ كبيرٌ بأنالبسطاءَ هم من يقودون التغييرَ في البلد، وأن النخبةَ إذا ابتعدت عن الناس، ستسقطوسيَلْفِظُونها.
ومنذاندلاعِ الحرب في 2015، وحتى نهاية 2019، استمرّ الدكتور عبد العزيز في الذهابلمكتبه؛ كنوعٍ من رفض الحرب، واللقاء بالآخرين؛ وكذلك استمرارُ مقيله وحضور الأدباءإليه، والنقاش في المواضيع المتعلقة بالأدب، ودور الأديب في خلق وعي القراء، واستمرارهفي مقاومة كل هذا العبث. فتصل هذه النقاشات إلى خلاصةٍ لا يختلف عليها اثنان: أن الأديبَالحقيقيَّ هو من ينحاز للبسطاء.
كنا نحْضُرُالمقيلَ، والطائراتُ تقصف في كثيرٍ من الأحيان المناطق القريبة من منزله. كنا نقلق،وهو يجلس في زاويته هادئاً، ويستمرّ بالحديث حتى يشتتَ انتباهنا عن القصف.
ارتبط الدكتور عبد العزيز المقالح بصنعاء، وأصبحتقِبلتَه وقبيلتَه، ومنها جاء، وإليها سيعود. أيُّ عشقٍ هذا الذي سكنه! فصنعاء كَسَبَتْعاشقاً من الطراز الأول؛ فهل سيفهم هذا الجيلُ المعنى الحقيقيَّ لعشق المدن؟