لطالما كنتُ أتردد -وما أزال- في الكتابةعن الدكتور عبد العزيز المقالح. لسنوات طويلة كنتُ أمتنع أحياناً، وأتملّص أحياناًأخرى، كلما طُلب مني أن أكتب عنه، خاصة من أولئك الذين يعرفون قربي من الدكتور إنساناً،وأكاديمياً، وشاعراً، وصديقاً، وأستاذاً خاصاً ورئيساً في العمل.
لسنوات وأنا أتهيب أن أكتب أقل مما كتب-ويكتب- الآخرون عنه، وما أكثرهم، وما أجمل ما كتبوا! وهكذا عشتُ في وهْم أن ما سأكتبهلا بد أن يكون على قدر علاقتنا الخاصة والكبيرة الممتدة منذ أن كنتُ طفلاً إلى اليوم.كان عليَّ أن أنتظر لسنوات طويلة، وحروب كثيرة، لكي أدرك أنه لا يمكن لي أن أكتب عنالدكتور عبد العزيز كما أريد، وأن القرب الكبير من أي شخصية كبيرة هو أكثر الموانعصعوبة ودهاء للكتابة عنها. كان عليَّ أن أنتظر كثيراً لأدرك أن الكتابة العفوية غيرالمنظمة عن الدكتور المقالح (كهذه التي بين أيديكم) هي المتاح المنطقي والوحيد لشخصمثلي شكّلَ المقالح جزءًا مهماً من حياته الشخصية والأدبية والوطنية، ورأى فيها امتداداًغزيراً لمدرسة فكرية عريقة شاءت الأقدار أن يكون أحد أبنائها.
لا تبدأ أول ذكرياتي عن المقالح في الكتبأو القصائد، بل في بيتنا، في مقيل أبي الذي كان يأتيه المقالح (مع بقية رواد المقيل)كل يوم أربعاء (منذ بداية ثمانينات القرن المنصرم). كان والدي حريصاً أن يوكل إليّمهمة لم تكن تشكّل لطفل في ذلك العمر سوى عبء لا داعي له: استقبال ضيوفه في المقيلوعلى رأسهم صديقه الكبير "الدكتور عبد العزيز". من المعروف أن المقيل فياليمن لا يحتاج إلى بروتوكولات، ولا يعتبر مناسبة خاصة تستوجب استقبال الضيوف. لذلكلم أكن مقتنعاً بهذه المهمة "العِبء" التي كان يقحمني فيها والدي، وكنتُدائمَ التبرم، حتى وإن كنتُ أتحصل مقابلها على بعض الحلوى والشكولاتة التي كان يخصصهالي الدكتور عبد العزيز، وهي العادة التي يعرفها رواد المقيل، إذ دائماً ما يُحضر الدكتورعبد العزيز معه كيساً بلاستيكياً به بعض الحلويات و"الجعالة" المختلفة يوزعهاعلى أبناء صاحب المنزل الذي ينعقد فيه المقيل، "مقيل المقالح"؛ الظاهرة التيأدهشت كبار الأدباء والمفكرين العرب عبر سنوات زياراتهم المتعاقبة إلى اليمن السعيد.
في المقيل أيضاً تطورت علاقتي بالدكتورعبد العزيز حين كبرت وبدأت أرافق والدي إليه. كان والدي يحرص على عرض بداياتي الكتابيةالأولى على الدكتور (من الآن وصاعداً سأستخدم هذه المفردة التي يستخدمها الجميع حينينادونه أو يتحدثون عنه). كنتُ أنكمشُ خجلاً داخل نفسي وأنا أستمع إلى قصيدة كتبتهاأو مقال نشرته بصوت أحد قُرّاء المقيل والجميع يستمع إليه، متخيلاً مجاملاتهم اللطيفةالتي ستنهمر عليّ وتجعلني أكثر خجلاً.
كان لمقيل الدكتور طقوسٌ ومواقيت لا تتغيربتغير الظروف ولا حتى الضيوف، ومن هذه الطقوس كانت القراءة الجماعية. يحدد الدكتورما سيتم قراءته ويدفعه لأحد القُرّاء المعتادين الذين تعاقبوا عبر السنوات والعقود،وكان من أبرزهم الأستاذ خالد الرويشان، والأستاذ محمد عبد السلام منصور، والدكتور حاتمالصكر، وآخرون. عند الانتهاء من القراءة يُفتح باب النقاش والتعليق، ويدارُ الحديثبترتيب أنيق لا يعكر صفوه سوى بعض المقاطعين الذين لا يلتزمون عادة بالقوانين، والذينيضفون على المقيل بهجة إضافية. في أحيان كثيرة يتاحُ للشعراء من مختلف الأعمار أن يلقواقصائدهم الجديدة، أو حتى لكتاب السرد أو المسرح أن يقرؤوا بعضاً من نصوصهم، ثم يبدأالتعليق والنقاش.
خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمن حضرمقيل الدكتور المئات من كبار المفكرين، والأدباء، والشعراء، والأكاديميين اليمنيينوالعرب والأجانب، حتى أصبح المقيل أحد معالم الحركة الثقافية اليمنية وواجهتها الأكثرحميمية عند الجميع.
أثناء سنوات دراستي الجامعية في بريطانياكنتُ حريصاً على حضور المقيل بشكل شبه يومي خلال أيام إجازاتي التي أسافر فيها إلىاليمن، لهذا لم ينقطع تواصلي مع المقيل إلا عندما كنت مسافراً خارج اليمن. وحين أكملتدراساتي العليا وعدت إلى اليمن أبحث عن عمل ومستقبل، في بلاد كانت الأمواج قد بدأتتتقاذفها بقسوة، كان المقيل هو ملاذي شبه اليومي، فيه ومنه كنت أنعم بيقين الصداقةالخالصة ومعين المعرفة الخلاقة. وهكذا أصبحت أحد رواده الدائمين، بل وأحد قُرّائه أيضاً،وكم سعدت من خلاله بمعرفة العشرات من المبدعين في مختلف الأجناس الأدبية والفكرية والفنية،حتى شاءت الأقدار أن أغادر اليمن قبل خمسة أعوام تقريباً، فكان مقيل الدكتور هو آخرمكان كنتُ فيه قبل أن تقلني طائرة متهالكة من مطار صنعاء في رحلة أخرى إلى ما لست أعرف(حسب قول درويش).
الحديث عن مقيل الدكتور عبد العزيز المقالح كظاهرة وواقع يطول، وتأثيره على الحياة الثقافية في اليمن وانعكاساتها في وعي المثقف اليمني والعربي يحتاج إلى دراسة متأنية وعميقة لا أشك أن أحدهم سيقوم بها يوماً ما.