عادت بي الذاكرة إلى الخامسة من عمري؛ كنت يومها في منزل الجيران أتأمل حائطهم النظيف واللامع وبجانبي أحمر شفاه. لا أدري ما الذي جعلني أمسك أحمر الشفاه على الفور وأشخبط على الحائط، رسمت على الجدار خطوطًا ورؤوسًا بداخلها عينان كبيرتان. لا أعرف لماذا قمت بذلك، وما الذي دفعني، لكنها على ما يبدو كانت هواية مغروسة في داخلي منذ الطفولة. ما زلت أتذكر توبيخ جارتنا ليمع قرار قاطع بطردي من منزلها.
كانت هذه بدايتي في الرسم، في تلك الفترة الأولى من هوايتي، كنت أسرق طباشير من حقيبة والدي وأرسم في حيطان المنزل، وأخطف أقلامه ودفاتر مذكراته وألونها. كانت تلك أول لغة أمارسها. في ذلك الحين لم تقبلني أي مدرسة للالتحاق بها؛ بسبب عدم قدرتي على النطق بعد، بقيت أتلعثم بالكلام إلى ما بعد السابعة، وفي الحقيقة كانت لدي لغة أخرى أمارسها وأتواصل بها.
الفن بدايةً سياسية
في 2011م، حركت اليمنَ موجةُ احتجاجات سلمية لتغيير النظام السياسي القائم؛ كانت شوارع المدن اليمنية تنتفض على سلطة رسمت حدودًا كبيرة وحواجز عالية بينها وبين المواطنين الذين يعيشون حياتهم اليومية بشكل محدود. لكن ومع "الربيع العربي" خرج الناس إلى الشارع وكسروا "التابو" المتعلق بمسيرات الشوارع. كانت موجة شعبية سلمية جعلت المجتمع يترك الأسلحة ويخرج للشارع معبرًا عن احتجاجه ومطالباته بطريقة سلمية وحضارية غير متوقعة، خصوصًا من مجتمع مكبوت داخل جغرافيا ضيقة جدًا.
في 5 مارس 2012م، دعا الفنان مراد سبيع الجميع إلى الخروج؛ ليشاركوه ألوانه والرسم معه على جدران المدينة، واختار جدارًا في جولة كنتاكي بصنعاء، وهي المنطقة التي كانت تفصل بين شارعين؛ أحدهما يدعو إلى إسقاط النظام، والآخر يؤيد بقاءه.
الجدار الأول
في الخامس من مارس 2012م، دعا الفنان مراد سبيع الجميع إلى الخروج؛ ليشاركوه ألوانه والرسم معه على جدران المدينة. اختار مراد جدارًا في جولة كنتاكي بصنعاء، وهي المنطقة الفاصلة بين شارعين؛ أحدهما يدعو إلى إسقاط النظام، والآخر يؤيد النظام. في تلك الأثناء وعند مروري في الشارع بالأسابيع الأولى للحملة، أدركت كيف منحت هذه الألوان الحرية والجمال للجدران والشوارع. على إثرها قررت المشاركة في الحملة، وعدت لمكتبة والدي وبدأت أتصفح المجلات والكتب الفنية، ولأول مرة في حياتي رسمت "سكتش" للوحات جمالية وتعبيرية، ثم خرجت لليوم الموعود بالرسم، ولأول مرة، للوقوف لمواجهة جدار مشوه وميت كجثة ممثل. كانت مهمتي هي بثّ الحياة في ذات الجدار وخلقه من جديد بشكل جمالي وفني.
أثناء وصولي للمكان تفاجأت بأني وصلت لكرنفال لوني كبير في الشارع، المارة يتلفتون باستغراب، ويأخذون الفُرَش والألوان بخجل ويلونون الجدران، شباب وشابات وأطفال وآخرون. بالمختصر كل فئات المجتمع كانت موجودة، وأنا واحد منهم؛ شاب خجول ومنطوٍ بعمر السادسة عشرة، شاب لميشارك في أي نشاط اجتماعي من قبل، ولم يشارك في أي حراك سياسي هنا أو هناك. سعدت يومها جدًا؛ لأنه لم تفُتني الفرصة. وفي الأثناء، بدأت مهمتي الحقيقية والمصيرية في الشارع، لقد بدأت ثورتي بالفعل.
استمرت حملات فن الشارع، وكانت مصاحبة للتحولات السياسية في اليمن. لم نكن جميعًا نعرف وقتها بأن هذه الحملات هي السمة التي اتخذتها ثورة الشباب في الاستمرار بالاحتجاج السلمي، في كل مرة للخروج بالرسم في الشارع، وبث الحياة في الجدران الميتة، لتنتعش هذه الأماكن، وتصبح أماكن للتدفق، ويستطيع الناس أن يمارسوا حياتهم اليومية بحرية أكبر، ومساحة للتعبير عن سياسة الشارع. فالباعة المتجولون والمارّة في الشارع والمتسولون من الطبقات المهمشة في المجتمع، والعمال بالأجر اليومي، كانوا يتدفقون ويشاركون معنا في الرسم، وبعضٌ منهم من لم يكونوا يمتلكون الوقت ليشاركونا، كانوا يعرضون علينا أن يساهموا بأشكال أخرى، فنتفاجأ بأحدهم وهو يجلب لنا براميل الطلاء، أو يدخل يده إلى جيبه؛ ليُسهِم بشكل مادي، وآخرين كانوا يهدوننا قناني الماء. هذه الحملات التي أكدت على غياب الفوارق بين الناس والفئات المتنوعة، وجعلت الجميع متماهي الصفات، ليعبروا عن آمالهم وإيمانهم بالتنوع والتعايش لخلق مجتمع مدني جديد. لم تجرؤ السلطة على إيقاف الحملات الفنية، أو طمس الجداريات، وهذه إحدى الأمور الملفتة حقًا.
جدران المخفيين قسريًا
في حملة "الجدران تتذكر وجوههم" التي تبَنّت قضية المخفيين قسريًا، كانت وجوه المخفيين قسريًا تُرسم في وضح النهار وتطمس في الليل، وفي أحد الجدران لم يُستطَع طمس الوجوه، فاكتفِيَ بطمس عيون المخفيين التي كانت تحدق بشكل قوي نحو المتهمين بجرائمهم. هذه الحملة التي شارك فيها أفراد كثر وأهالي الضحايا من المخفيين قسريًا، خرجوا للشارع ورفعوا صور أقاربهم الذين اختفوا خلال الأربعة العقود الماضية لأسباب سياسية، وظلت القضية طي الكتمان، ويقمع كل من يحاول الكتابة عنها، فما بالكم بمن يخرج للشارع لرسم وجوه102 مخفيٍّ قسريًا، وتوقفت إلى هذا الحد لأسباب قسرية أيضًا. هذه الحملة أثارت الشارع والصحف لمساندتها، وجعلت الحوار الوطني الشامل في 2013م يتبناها ويدرجها ضمن ملف العدالة الانتقالية.
المجتمع التواق
في البداية، لم نقم بتلك الحملات بطريقة سلسة على الإطلاق؛ فعندما كنا نخرج للرسم كان المجتمع يحاول أن يقف ضد الفن؛ فخلال عقود سياسية ماضية، ونتيجة تحالف سلطة السياسة والدين، أُبرزت تصورات تحريم الفن، ومُنعت كل مواده الدراسية وأقسامه في المدارس والجامعات؛ ذلك وجّه المجتمع نحو احتقار الفنان وتحريم الرسم. ولذلك لم تحافظ حملات فن الشارع على الاحتجاج السلمي عبر الرسم فقط، بل كسرت "التابو" تجاه الممارسات الفنيةفي الشارع، وكسرت "التابو" أيضًا نحو الفن، وعززت الثقة في المجتمع العام تجاه الفن؛ كونه فعل إنساني يمتلك ضميرًا حيًا تجاه مشاكلهم وحياتهم اليومية، ويناهض أي شيء يعترض أفقهم المدني.
كاريكاتير الشارع
في ديسمبر من العام 2012م، خرجت لإطلاق أول حملة فنية لي بعنوان "كاريكاتير الشارع" لإخراج الكاريكاتير من عمق الصحف والمجلات إلى جدران الشوارع التي يقرؤها الناس كل يوم. كانت متزامنة مع حملة الفنان مراد سبيع "الجدران تتذكر وجوههم"، ورسمت في الشارع برفقة فنانين عدة، معتمدين أسلوبًا كاريكاتوريًا لا يحتوي على حوار أو عبارات. هذه الرسومات كانت تستوقف المارة حتى الأميين منهم. ولأنها انطلقت بعد حملتين كبيرتين، جعلتني استوعب كمية الوعي التي اكتسبها الناس تجاه الفن، ليس هذا فقط، بل كان الناس يستوقفوننا ويشرحون لنا الأعمال ويعطوننا ملاحظاتهم الفنية القيمة تجاه أعمالنا. وهذا يكشف مدى وعي المجتمع تجاه الفن والسياسة أكثر من النخب.
تشارك الألوان
في العام 2012م، أطلق مراد أول حملة فنية في شوارع العاصمة صنعاء، وأطلق عليها اسم "لون جدار شارعك". هذه الحملة هدفت لإزالة شعارات الكراهية التي انتشرت في وقت سابق من "ثورة الربيع العربي" واستبدالها بلوحات فنية على الجدران. عززت الحملة لدى الناس وعيًا اجتماعيًا بأهمية الفن وثقافة السلام والتنوع، بحيث كان الفنانون والناشطون يخرجون للرسم في الشارع ويعطون للمارة والمتفرجين الألوان؛ لكي يشاركوهم في رسم السلام والثقافة والتنوع.
بعدها ظهرت حملات فنية عديدة أبرزها "الجدران تتذكر وجوههم" و"12ساعة"، وعقب المواجهات المسلحة في العاصمة صنعاء، استمرت حملات الجداريات، ونفذت حملات عدة، منها: حملة "كتاب مفتوح"، و"حطام"، و"ضحايا صامتون"، و"شظايا".
هذه الأعمال الفنية، وبشكل عام، عبرت عن معاناة الناس من الحرب، وأصوات الضحايا المغدورين في كل مكان، وهي أعمال فنية تنادي بالسلام وثقافة التنوع. أعمال فنية في أماكن عامة وصلت للناس جميعهم، وعززت وعيهم بضرورة فض النزاع وبناء السلام.
مما لا شك فيه أن اليمن أصبحت ساحة حرب وجوع ومرض وكراهية وعنف وموت، لكن فن الشارع يعكس صورة مضادة للحرب، يعكس أمل المجتمع اليمني المتطلع للسلام والأمان. فن الشارع يثبت أن كل ما يحدث مجرد متغيرات ليست ثابتة، فن الشارع في اليمن هو عمل مدني وممارسة اجتماعية تعكس مطالب ورؤى المجتمع الحقيقية. هذا الفن ليس منفصمًا أو بعيدًا عن مجتمعه، بل هو الصورة المدنية منه؛ فعندما يحدث قمع لهذا النشاط فذلك أشبه بقمع مظاهرة شعبية.
خاتمة
في اليمن تغيبت الصورة الحقيقية التي تعبر عن ذات المجتمع، الحرب ليست إلّا صورة وهمية جعلتنا نرى اليمن بلدًا غريبًا لا يرى بالفعل. فن الشارع قام بإبراز الصورة الحقيقية للمجتمع عن طريق إشراك المجتمع في الرسم، وإيقاف هذا الفن هو عمل من يد الحرب؛ لتسكِت بل لتغيب الرؤية الحقيقية.
وصدقوني سيأتي السلام يومًا ما، وسيعود اليمنيون لممارساتهم المدنية، وسيصبح الفن الجميل والرسم على الجدران هواية لكل الأجيال القادمة.