مايقارب الشهرين والشاب محمد علي (25 سنة) يتردد بشكل شبه يومي برفقة والدته علىمبنى مصلحة الهجرة والجوازات في مدينة تعز. يأمل محمد في الحصول على جوازَي سفر؛له ولوالدته، التي تعاني من التهاب في الكبد، وتستدعي حالتها السفر إلى الخارج ــ كماتفيد التقارير الطبية التي تحملها جيئة وذهابًا. ومع حلول كل صباح، يقطع محمدووالدته قرابة 14 كم للوصول إلى مبنى الجوازات، لكنهما في كل مرة يعودان خائبين.
يقولمحمد لـ"خيوط"، وهو من سكان محافظة صنعاء: بعد قرار إلغاء القبولبالجوازات الصادرة من صنعاء، وضرورة استخراج وثيقة بديلة من إحدى المناطق التيتسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًا، تكبدنا مشقة الطريق ومخاطرها وعناء السفرإلى تعز. كنا نقطع هذه المسافة في خمس ساعات، لكن الآن يستغرق الوصول إلى المدينة قرابة12 ساعة.
ليسلدى محمد أقارب في مدينة تعز، لذلك أقام، في البداية، في منزل أحد أصدقائه في حيّالجحملية شرق المدينة، وبعد أن طالت مدة استخراج الجوازين، اضطر للانتقال معوالدته إلى فندق، وحين قابلناه في مصلحة جوازات تعز، كان قد مضى على إقامته فيالفندق 3 أسابيع. كانت تلك تكاليف إضافية لم ترد في حسبان محمد، لكنه اضطر للقبول بذلكأملًا في العودة بجوزَاي سفرٍ تقبلهما سلطات الدول الأخرى.
ويلفتمحمد إلى أن المبلغ الذي أنفقه منذ وصوله إلى تعز تجاوز الثلاثمائة ألف ريال؛ أيما يعادل 500 دولار. يضيف بعد تنهيدة طويلة: "منذ شهرين في تعز، وكل يوم ونحنفي مصلحة الجوازات؛ أحيانًا ننتظر يومًا كاملًا، وبعدها يتم إبلاغنا من قبلالموظفين بنفاد الدفاتر المخصصة أو الاستمارات. أنا الآن عاجز عن فعل شيء سوىالانتظار حتى يفرجها الله ... تعبنا".
فيحين اضطر الكثير من المواطنين إلى تكبد معاناة التنقل والسفر والانتظار أيامًاطويلة ومضنية (كما هو وضع محمد ووالدته)، هناك من لم تسمح لهم ظروفهم المادية بالوصولإلى هذه المناطق، كحال الطالبة الجامعية أميرة (25 سنة). تسكن أميرة في محافظة إب،وتخرجت بتفوق في جامعتها العام الماضي (2019م) في قسم طب الأسنان. ولتفوقهاالدراسي، حصلت على منحة دراسية غير حكومية إلى مصر لدراسة الماجستير، وكان منالمقرر أن موعد سفرها في أكتوبر 2019م، لكنها لم تتمكن من ذلك لعدم قدرتها علىتحمل تكاليف السفر إلى مأرب أو تعز للحصول على جواز سفر مقبول دوليًا، فاضطرت أميرةإلى إلغاء فكرة السفر والاستسلام بحسرة للأمر الواقع.
استياءشعبي
يبديالكثير من المواطنين استياءهم من عجز السلطات الحكومية المعترف بها دوليًا عنتوفير دفاتر جوازات السفر، خصوصًا بعد إصدارها قرارًا، في مطلع ديسمبر/ كانونالأول من العام 2018م، نُشِرَ في موقع وكالة سبأ الرسمية التابعة لها. يقضي القراربعدم اعتماد الجوازات الصادرة من صنعاء وبقية المناطق التي يسيطر عليها جماعةأنصار الله (الحوثيين)، كما أصدرت الحكومة نفسها تعميمًا، للسفارات والمطاراتالخارجية، بعدم التعامل مع تلك الجوازات، وبأن على المسافرين إلى خارج اليمناستخراج جوازات من المحافظات الواقعة تحت سيطرتها، ومنها: عدن، وتعز، ومأرب. إلاأن هذا الأمر شكّل عبئًا ثقيلًا ومخاطر مرتفعة على المواطنين في المناطق التي لاتسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًا.
ازدحامغير مسبوق
يعجمبنى مصلحة الجوازات والهجرة بتعز يوميًا بالمئات من المواطنين من مختلف الأعماروالأجناس، من أجل الحصول على جواز سفر مقبول دوليًا. بينهم مرضى وجرحى يقفون فيطوابير طويلة، يفترشون الأرض تحت أشعة الشمس التي يأتي بعضهم قبل شروقها، ويستمرانتظارهم حتى إعلان انتهاء الدوام في الثالثة عصرًا. مشهد غير مسبوق خصوصًا بالنسبةللحصول على جواز سفر، وفي ظل استمرار تدفق طالبي هذه الوثيقة الثبوتية من المناطقالخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين)، تصل دفاتر الجوازات إلى مصلحة محافظة تعز علىشكل دفعات وفي فترات متباعدة، كان آخرها عشرين ألف دفتر جواز، لم تغطِّ الاحتياج الكبيروالطلب المتزايد للمواطنين.
يقولالمواطن صالح عوض (30 سنة)، وهو من ضمن الراغبين في الحصول على وثيقة جواز السفر: "أصبحالحصول على الجواز بالنسبة للمواطن حلمًا، وفيه الكثير من المعاناة والمشقة وهو فيالأصل حق من حقوقه، ويفترض أن يحصل عليه بسهولة".
ويتساءلعوض في حديثه لـ"خيوط": إذا ما كانت الحكومة المعترف بها دوليًا في عدنعاجزة عن تلبية احتياجات المواطن وتوفير أدنى حق له، وهو الحصول على ما يثبت هويته؛فلماذا أوقفت اعتماد الجوازات الصادرة من صنعاء؟
صفقةمربحة
مواطنون: موظفون في مصلحة الجوازات يتعاملون مع السماسرة ويتاجرون بجوازات السفر بأسعار متفاوتة.
فيظل هذه المشقة في الحصول على جواز السفر، برز من يتاجر بحاجة الناس لهذه الوثيقةبطريقة السوق السوداء؛ فعمليات السمسرة، في استخراج جوازات السفر، حولت حق المواطن،في الحصول على وثيقته الثبوتية بقيمة رمزية، إلى صفقات مربحة تخضع لمزايدات البيعوالشراء. محمد السعيد (35 سنة) يؤكد ذلك لـ"خيوط" من واقع تجربتهالمريرة؛ هو من أهالي مدينة تعز، لكنه عجز عن استخراج جواز سفر، فاضطر إلى اللجوءإلى أحد السماسرة الذين لديهم علاقات مع موظفين في فروع مصلحة الهجرة والجوازات.
عليالحميدي مواطن آخر قال لـ"خيوط" إنه اضطر إلى استخراج جواز سفره باللجوءإلى أحد السماسرة مقابل مبلغ 200 ألف ريال؛ أي ما يعادل 330 دولار، في حين أنالرسوم القانونية المفترضة لوثيقة السفر لا تتجاوز 20 دولارًا.
لكنالأمر يبدو مختلفًا بالنسبة لأكرم الذبحاني، الذي قال إنه تعرض لعملية نصب من قبل "سمسارلديه علاقة بأحد الموظفين في المصلحة". وأكد أنه دفع للسمسار ما يعادل 140دولارًا قبل أن يدرك أنه تعرض لعملية احتيال، ويضيف أكرم لـ"خيوط": "تقدمتبشكوى بهذا الموظف إلى إدارة فرع المصلحة، وتمت إدانته، ويجري حاليًا التحقيق معه"،كما طالب "السلطات المعنية" بمحاسبة من وصفهم "بالفاسدين" فيمصلحة الجوازات، "الذين يستغلون معاناة الناس؛ ليقوموا ببيع الجوازات فيالسوق السوداء بمبالغ هائلة."
ضغوطاتووعود حكومية
نائب مدير فرع مصلحة الهجرة والجوازات بتعز لـ"خيوط": يتحمل المواطن جزءًا من المسؤولية في اتساع ظاهرة السمسرة من خلال التعامل مع السماسرة والاعتماد عليهم في إجراء معاملاتهم.
رسميًا،يحمّل نائب مدير فرع مصلحة الهجرة والجوازات بتعز صادق المخلافي، المواطن جزءًا منالمسؤولية في اتساع ظاهرة السمسرة من خلال التعامل مع السماسرة والاعتماد عليهم فيإجراء معاملاتهم.
وقال المخلافي لـ"خيوط": "إنإدارة المصلحة اتخذت إجراءات صارمة تصل إلى الفصل، تجاه بعض الموظفين ممّن ثبتإدانتهم بالتعامل مع سماسرة أو أخذ مبالغ مالية تتجاوز السعر الرسمي المتعارف عليهلقيمة الجواز".
وأضاف:"هناك الكثير من الصعوبات والضغوطات التي تواجهنا، من أمور فنية ومالية وقلةفي كمية الدفاتر المخصصة للمصلحة لمحافظة تعز مقارنة مع مئات الطلبات التينستقبلها يوميًا ونحاول تلبيتها". كما أشار إلى أن مصلحة تعز تحاول حل مشكلاتاستخراج جوازات السفر "بالتعاون والتنسيق مع الحكومة في عدن، وننتظر دفعاتأكبر في الفترة القادمة بحسب الوعود التي تلقيناها".
وبحسبالمخلافي، أصدرت مصلحة الهجرة والجوازات في تعز "أكثر من 140 ألف جواز سفرخلال العام الماضي (2019م)"، وأنها أعطت الأولوية "للحالات الطارئة التيتستدعي السفر بشكل عاجل".
معذلك، لم يحصل محمد علي ووالدته على جوازيهما رغم التقارير الطبية التي توصي بسرعةسفرها للعلاج في الخارج.
وفيحين نجح بعض المواطنين في استخراج جواز سفر، ولو بمبالغ مضاعفة عن طريق السماسرة، هناكمن اضطرته ظروفه المادية الصعبة إلى الوقوف في طابور طويل، ولأيام متواصلة ــ إنلم تكن أشهر، أملًا في إتمام معاملاتهم والحصول على الجواز بالطريقة الرسمية.
وفيظل هذا الوضع الذي فرضته الحرب وانقسام سلطات الدولة، يظل وحده المواطن من يدفعالثمن، لتضاف معاناة أخرى إلى القائمة الطويلة من المآسي والكوارث التي أفرزتهاالحرب الدائرة منذ خمس سنوات.