يعكس ديوان "بالقرب من حدائق طاغور"، الصادر عام 2018، للشاعر عبدالعزيز المقالح ما وصلتْ إليه قصيدتُه في علاقتِها بالحياة بمسمياتها المختلفة: المدينة، القرية، الأصدقاء، الحرب والسلام، والشعر والشعراء، وغيرها من العناوين التي تتجدد في أفيائها قصيدة الشاعر؛ وهو يمضي في دروبها لاكتشاف الذات ومحاورة عوالمها بصوفية عالية، وعلى ما فيها من حزنٍ، تبقى قصائدُه أشجارًا سامقة تؤكد لنا أن الشاعر لا يشيخ، وأن اعتناءه بقصيدته يُبقيها غضة تتجدد.
يقول المقالح في هذا الديوان عن تجربته مع القصيدة:
ستون ربيعًا
وأنا أبحثُ في دنيا الشعر
عن الشعر
وعن نصٍّ يشبهني
نص مثلي
يضحكُ، يبكي
يخرجُ من ماءِ سليقتهِ
مختلفًا
لا يُشبه حين يرن المعنى
نصًّا آخر!
صدر الديوان عن النادي الأدبي في منطقة "الباحة" بالمملكة العربية السعودية ودار "الانتشار" في بيروت.
تضمن الديوان (38) قصيدة جاءت في (293) صفحة من القطع المتوسط تعكس استمرار تطور القصيدة بين يدي هذا الشاعر، الذي يُعدُّ من أبرز شعراء قصيدة التفعيلة العرب، وممن أجادوا استثمار منجزاتها وتقنياتها وتوظيف الرموز بمستوى فريد، وامتلاك صوت خاص ونسيج مختلف في بنيته الجمالية وأسلوبه الفني.
تُقدّم قصائد هذا الديوان ما وصلت إليه تجربته في كتابة القصيدة، مستفيدًا من موروث عربي زاخر في صوغ الصورة وإنتاج الدلالة تعبيرًا عن حالته وموقفه من الحياة وما يمور فيها، بدءًا من وطنه وانتهاء بإنسانيته.
استهل الشاعر هذا الديوان بقصيدة "أن تكتب شعرًا" تناول فيها بعضًا من علاقته بكتابة الشعر؛ وهي علاقة كتبَ عنها أكثر من قصيدة وفي أكثر من ديوان، لكنه تناول في هذه القصيدة علاقة الشعر بمن حول الشاعر، بما فيها بلاده:
أن تكتبَ وطنًا
تأكله الحرب
وتعوي ريحُ الأحقاد
حواليه
وتمضغه أسنانُ الخوف
وأنيابُ الفاقةِ:
فاكتبهُ بلا شعبٍ
وبلا ماضٍ، وبلا اسمٍ...
ذلك أدنى
للنص المعقول!
ولا تلبث ذات الشاعر المتصوفة أن تحضر بين قصيدة وأخرى، وتعكس مدى تماهي الشاعر بالمعاني والقيم الصوفية، مؤكدًا من خلالها ما يمكن للقصيدة أن تقوله تعبيرًا عن ذات مثقلة بالجمال والتعب والحزن... كما في قصيدة "من آخر الدهشة إلى أول الذكرى":
سبحان الله!
لقد أعطاني الشعرَ
على طبقٍ مكتظٍ
بحليب الساعاتِ الأولى
من عمرِ الجسدِ الهش
وبصّرني كيف أرى في وجهِ
سماءِ الدنيا
لغةً وقصائدَ،
علّمني أن لا أقرأَ بالعين
ولكن بالقلب،
وأن أتحسَّس آلامَ الأرض
وأحزانَ البحر
بوجدانٍ صافٍ
خالٍ من إغواءِ الجسد
الفتان.
وعلى الرغم من الحضور الطاغي للحزن في قصائد الشاعر، بما فيها قصائد هذا الديوان، إلا أن الرومانسية لم تغب؛ فالمقالح شاعر مختلف كليًّا في علاقته ببنية القصيدة جماليًّا وقوامها موضوعيًّا، وبالتالي فاشتغاله موضوعيًّا على الرومانسية مفعم بالرمزية العالية، والتي تنبئ بعلاقة واعية بالإنسان، كما جاء في قصيدة "عينان"، والتي تتدفق عذوبة في وصف العينين:
عينان أم صُبحان
من خلف الرموش
بعد نومٍ هادئ
أطلّتا
فارتعشَ الوجود
واكتوى بماء الحُبِّ
قلبُ الأرض
وارتوت عصافيرُ الصباح
ضوءًا عاشقًا
يفيضُ من موسيقى بهيّة مرهفةَ
الألوان.
ويتواصل حوار الشاعر مع ذاته الحزينة؛ وهذا ليس بغريبٍ على شاعر مهموم بمعاناة من حوله من أصدقاء ومجتمع وبلد وعالم واسع بمفهومه الإنساني... ويتحدث في قصيدة "حواريّة" إلى أصدقائه الشعراء، مفضيًا إليهم بما صارت عليه الحال من حوله:
أصدقائي مِن الشّعراء،
ويا مَن تُحبّون ليلَ الكلام
المضيء؛
اعذروني
إذا جئتكم بفمٍ صامتٍ
ويَدينِ من الشعر خاليتين،
المدينةُ موبوءةٌ
والهواءُ مريضٌ
وما عادتِ الأرض
تنبت وردًا
ولا ياسمينًا
ولا الشعر يكتب
ماء القصيدة.
لكن الحزن لا يلبث أن يعود معبّرًا عن الشاعر؛ وهو حزن يأتي، غالبًا، متدثرًا بالتصوف كثيمة ملازمة لقصيدة الشاعر في علاقته بالمعنى المتوهج، في سياق مبنى مفعم بالرمزية التي تقول وتخفي، كما نقرؤه في قصيدة بعنوان "في المرايا":
لا أُحِبُّ المرايا
المرايا تُذكّرني كل يومٍ
بأن الزمانَ يطاردني
ويداهُ المخضّبتان بدمع أبي
ترسمان التجاعيدَ حول جفوني
وفوق جبيني..
تهمسان لقلبي
بأن الشباب انتهى
والكهولة تزحف مسرعة
نحو شيخوخة باردة.
لا أُحِبُّ المرايا التي
لا تحبُّ النساء
ولا تتنفّس ريحةَ أجسادهنّ.
المرايا التي افتقدت لذّة
الاندهاش تجاه الجمال
ولا قلبَ في صدرها
يشتكي خَدَر الأعين الساحرات
ولا ثغرَ تملكه
يحتسي من رحيق
الشفاه.
ويعود الشاعر إلى خلوته وتصوفه الروحي، ويناجي ربه، كحالة شعرية ارتبطت بالشاعر المقالح منذ قصائده الأولى، كتصوف لازمه وعبّر من خلاله عن كثير من المواقف والرؤى التي يحلّق من خلالها في سماوات القيم السامية... وهنا يكتب عن "جلال الدين الرومي ومكابداته الروحية" قائلًا:
كنت أدري بأنّ الطريق إلى الله
أقرب مني إليّ
وأبوابهُ لم تكن قطّ موصدةً
أو محوّطةً بالمتاريس
أن السماء الرؤومة
مفتوحةٌ للمنيبين والشاردين،
ولكنه جسدي المتمردُ
هذا الحصان الجموح
الذي حال بيني وبين الطريق
وحمّلني وزر أهوائهِ
وخطيئاتِهِ
ولا ينفك الشاعر عن الدفاع عن حزنه، كحالة تعبيرية تتجلى معنى ومبنى شعريًّا، ينطلق منه لقول المزيد عن حزنه؛ حزن يتجاوز ذاته إلى بلده. ولهذا نجده هنا يدعو رفاقه أن يرفقوا بحزنه؛ لأن حزنه ليس على منصبٍ أو نقود، ولكنه حزن قلبٍ على بلد يتهاوى ويذوي:
أصدقائي اللدودين
رفقًا بحزني
لا تخذلوه
دعوهُ يسيرُ الهُوَينا
ويقرعُ أبواب أفئدةٍ وقلوبٍ
تحجّر إنسانُها
وتَصخّر إيمانُهُ
لم يعد يتذكّر
من أين جاء؟
أكثر من قصيدة تضمنها الديوان تناولت الشعر وزمنه الراهن، ونعى الشاعر فيها هذا الزمن، وتحدث في قصيدة بعنوان "أبعدوا الشعر عني"، متذكرًا ما تعرّض له في بداية تجربته الشعرية من تكفير كاد يودي بحياته، نتيجة ما قاله في إحدى قصائده حينها:
أَبعدوا الشعرَ
هذا الذي كاد يُسلِمُني للهلاك.
حين خانتنيَ الشطحات
وألقت ظلالَ كلامي
إلى حيث ما كنتُ أدري
ولا أَشتهي.
ويواصل الشاعر سكب حزنه وتساؤلاته وأحلامه ويومياته وتأملاته، بحثًا عن زمن آخر، كأنه يصل هنا إلى الحافة، لكنه لا ينكسر؛ إذ يبقي الأمل مترعًا في روحه، حتى وإن كان الأمل في زمن لا يشبه أحلام الناس... كما قال في قصيدة بعنوان "شتائية":
هذا زمنٌ لا يتقدّم،
رجعيّ السحنة كعجوزٍ يتوكّأ خَيبتَهُ
زمن لا يشبه أحلامَ الناس
ويبقى الحزن يتدفق جداولَ وينابيع في وديان هذا الديوان، في دلالة على ما عاشه ويعيشه الشاعر من حزن إزاء ما آل إليه وضع البلاد في السنوات الأخيرة، لدرجة يبدو فيها مثقلًا بحمولة حزن تنكسر لها العافية، وهو وضع طبيعي أن يلجأ شاعر ومناضل بحجم المقالح إلى مكابدة حزنه شعرًا، وهو من جيل مختلف عاشر مرارات التحول والتغيير الذي قطعه البلد منذ ستينيات القرن العشرين الماضي، وما قدمه البلد من تضحيات في سبيل تكريس التحول والتقدم، بينما جاءت النتائج مخيبة للآمال... ولهذا نلحظ مشاعر حزنه ثقيلة، وهو يتعرض لما عاشه ضمن يوميات ما تعرضت له صنعاء خلال الحرب الراهنة:
خائفٌ ذاهلٌ
وجهُ صنعاء
مرتعشٌ صدرُها، نافرٌ شعرُها
سورُها لا ينام
حجارُتها لا تنامْ.
ليس تدري متى يصل الغرباءُ
-على بعد ميلين- قيل لها
إنهم يطعمون الخيولَ هناك
وهم يصقلون السيوف!
لم يغب الوطن من كل دواوين المقالح؛ فهو مهموم ببلده وخائف عليه، وأحيانًا يصل هذا الخوف حد النعي؛ ولهذا نجده ينعى وطنه في أكثر من قصيدة، لكنه ليس نعي المنكسر، بل نعي من يريد أن يبعث حياة جديدة في الروح... وهنا تبدو الحرب الأخيرة وكأنها قد كسرت بهجته بهذا الوطن (الحُلم)، وكم كان الشاعر حزينًا في قصيدة "كان يُعجبني"، لكنه لا يلبث أن يعود مؤكدًا بقاءه محبًّا لهذا الوطن، ولو كان نجمًا على ذروةٍ من سماء السماء:
كان يُعجِبُني
قبل أن تتصدّع جُدرانُهُ
قبل أن يتَشظَّى
ويكتب لعنتهُ
بيديهِ
وأصبح "لا وطنًا"
تتنازعه الانتماءات..
والانكسارات،
أبناؤه لم يعودوا -كما ظَنَّ-
أبناءَه،
ولكني لن أحِبَّ سواهُ
ولن تقبل الروحُ عنه بديلًا
ولو كان نجمًا
على ذروةٍ من سماء
السماء.
حزن المقالح يتمدد ليشمل كل شيء حتى أصدقاءه الراحلين، وهنا نجده لا ينساهم؛ فيكتب عنهم حزينًا لفراقهم، وما تركوه وراءهم من فراغ يشعر به الشاعر، فينعاهم بحزنٍ شديد ينسكب شعرًا ينشج.
ولا ينفك الشاعر عن ذكرياته وقراءته الشعرية، وها هو يتوقف في إحدى قصائد هذا الديوان عند الشاعر الهندي طاغور، ويقول في قصيدة بعنوان "بالقرب من حدائق طاغور"؛ وهو العنوان الذي حمله الديوان:
مُذ صِباي
تعلّق روحي
بشيءٍ من الكلمات التي
كتبتها يداكَ
على حائطِ الكون
ظلّت ترافقني
وتقودُ خطاي إلى الشعر
هذا الذي كنت أجهله
وأهابُ الدخول إلى أرضهِ
الفاتنة.
سلامٌ عليك
سلامٌ على وطنٍ
كنت عنوانهُ
صوتهُ
وإليك تحدق أشجارُه
وتمد يديها إليك عصافيرُه.
وهي تنطق بِاسمِك،
"طاغور"
-----------------------------
عبدالعزيز المقالح شاعر وناقد يمني وُلد عام 1937، في محافظة إب باليمن، وهو رئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء. حصل على الشهادة الجامعية عام 1970، ونال الماجستير في اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس بمصر عام 1973، ونال الدكتوراه في الجامعة ذاتها عام 1977، وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة صنعاء.