حين انتهيتُ من فيلم "200 متر" للمخرج الفلسطيني أمين نايفة، وهو الذي يتناول معاناة الفلسطينيين للعبور إلى ما وراء الجدار، إذ المسافة لا تتجاوز الـ200 متر نتيجة لجدار العزل العنصري الإسرائيلي، فالطريق البديلة صعبة ومحفوفة إلى حد كبير بالمخاطر- تذكّرتُ حصار تعز، حيث المسافة التي تفصل تعز عن المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون لا تتجاوز الأمتار، لكن بفعل الحصار يضطر المواطنون إلى أن يسلكوا طرقًا صعبة وخطيرة.
سافرت من ذلك الطريق قبل أشهر. مشينا من طرق فرعية كثيرة، حيث كان معنا بنفس السيارة كبار في السن وأطفال. ونتيجة لوعورة الطريق توقفت السيارة أكثر من مرة، ما يجعل الأطفال والكبار يفزعون ويصرخون من الخوف.
قيل لنا إنّ منظمة تبنّت مشروعًا لرصف بعض الطريق من الجبل، أما بقية الطريق فلا يمكن إلا لسيارات معينة المرور من هناك، وهي السيارات ذات الدفع الرباعي فقط. حيث لاحظنا بعض السيارات التي توقفت لأنّها لم تستطع المواصلة. سألتُ بعض الركاب جواري عن السبب الذي يجعلهم يقطعون كل هذه الطريق، قال لي أحدهم بأنه يعمل في منطقة "الحوبان"، ونتيجة لذلك يضطر كل خميس إلى أن يسافر للعودة إلى بيته في مدينة تعز. أما الآخر فقال إنه مرافق لأمه وأبيه العائدين من الحج.
بدا لي الفيلم الفلسطيني الذي مُنِعَ فيه المواطنون الفلسطينيون من الذهاب إلى ما بعد الجدار، إلا عن طريق التهريب، موضوعًا فنيًّا لا يقترب فقط من معاناة الفلسطينيين بل مع معاناة المواطنين في تعز. فالجدار الذي وضع كعازل عنصري تحت أسباب سياسية وعسكرية في فلسطين، يشبه كذلك الحاجز العسكري الذي وضع ليمنع المواطنين من الوصول السهل إلى مدينة تعز وأريافها الغربية والجنوبية.
تدور أحداث الفيلم حول عائلة فلسطينية، يضطر الأب للسفر عبر طريق تتجاوز المئتَي كيلو متر، حيث أراد الفيلم أن يشير إلى معاناة العائلات المختلفة هناك، لتتشارك أيضًا مع معاناة العائلات في تعز، فالسفر إلى هناك يقارب زمن الست ساعات.
يُحرَم بطل فيلم 200 متر من رؤية أطفاله، وهناك الآلاف في تعز يجبرهم الحصار على الغربة عن أسرهم وعن الحصول على أبسط حقوقهم. وما استمرار هذه المعاناة من 2015 إلا تأكيدٌ واضحٌ على قسوة المحَاصِرين، وإدانة لتجاهل الإقليم والعالم لهذه الكارثة، والامتناع عن تقديم حلول لها.
قد تبدو الأعمال الفنية خاصة بمكان ما أو أفراد، لكنها كما هو تأثير أي فن يشمل ويتقاطع مع كل المعاناة المشابهة في بقية أمكنة هذا العالم وسكّانه. كما أنّ إفرازات الحرب والخلافات السياسية لها عواقب وخيمة يتحملها المواطنون ويدفعون ثمنها من دمائهم. والإنسان في فلسطين هو نفسه الإنسان في مدينة تعز. وهكذا رأيت في الفيلم تعبيرًا عن أولئك الذين وجدوا أنفسهم ضحايا قِمار سياسي يعدّ تعصبًا، ويعادي أي قيم إنسانية خلاقة كالرحمة والمسؤولية.
قال لي الراكب الذي جواري إن هناك بعض الأهالي لا يستطيعون زيارة أهلهم خارج المدينة حتى في حالات المرض والزيارات المهمة، وذلك كله بسبب تحول الطريق إلى شبح معيق يمنع الناس من التواصل مع أهلهم وأصدقائهم. وأخبرني أنه هو نفسه لا يستطيع تدبّر تكاليف السفر إلى هناك، فضلًا عن مشقة الطريق.
مررنا من طريق تسمى "طريق الأقروض"، وهي طريق غير صالحة لمرور المركبات التي تنقل البضائع والاحتياجات الرئيسية، وقد رأيناها تمشي مهدَّدة بكل الأخطار.
عند الوصول إلى مدينة تعز، لم يكن مفاجئًا أن تمتد آثار الحصار إلى المدينة نفسها، فالناس هناك يشتكون من غلاء الأسعار، وعدم وصول بعض المنتجات الرئيسية وأساسيات العيش. حيث على العكس من جدار العزل الإسرائيلي، تبدو تعز من الداخل مدينة تختص بمعاناة مختلفة وحصار خانق في داخلها وخارجها، ليصبح التفكير في السفر من وإلى تعز شيئًا ضمن المستحيلات، حيث يجد المواطنون أنفسهم بين مطرقة الحرب وسندان الطريق.
أكّدت لي هذه التجربة أحقية المطالبة برفع الحصار، التي تمثلت في مبادرات شبابية بغرض إيصال صوت تعز إلى المجتمع الدولي، إذ لم يعد من المستور آثار الحصار التي يتجرعها الناس هناك في كل رحلة لهم. فالمعاناة لم تعد على مستوى القصص التي تحصل بين الحين والآخر، بل صارت عذابًا يوميًّا لكل من يفكر بالسفر إلى تعز.
أما العودة من المدينة فقد كانت أصعب رحلة خضتها في حياتي، حيث تعرضت لتهديد الموت مرتين. فعندما صادف أن كان هناك أمطار، وجدنا أنفسنا فجأة وسط السيل، لتبدأ السيارة بالتمايل، ويصرخ الركاب جميعهم، نساء ورجالًا، ولم ننجو حينها إلا بمعجزة وبمهارة السائق. أما الخطر الثاني فقد كان حين صعدت السيارة طريقًا وعرًا، وبدأت تهرول إلى الأسفل، ولم أصل من هناك إلا بتجارب مريرة، أعطتني انطباعًا عن عذابات السفر التي يتجرعها المواطنون هناك.
يُحرَم بطل فيلم (200 متر) من رؤية أطفاله، وهناك الآلاف في تعز يجبرهم الحصار على الغربة عن أسرهم وعن الحصول على أبسط حقوقهم. وما استمرار هذه المعاناة من 2015 حتى اليوم إلا تأكيدٌ واضحٌ على قسوة المحَاصِرين، وإدانة لتجاهل الإقليم والعالم لهذه الكارثة، والامتناع عن تقديم حلول لها.