ما زالت علاقة الرواية بالتاريخ غير منضبطة بقواعد دقيقة، بل إن وضع تلك القواعد أمرٌ بالغ الصعوبة، لكنّ ثمة سردين روائيين مختلفين في علاقتهما بالتاريخ؛ الأول: سرد يوظف التاريخ ويتمثله خياليًّا في سياق بناء وخطاب روائي يعالج قضايا واقعية، والثاني سرد يشتغل على التاريخ ويُعيد قراءة حقائقه في سياق معالجة لقضية أو شخصية تاريخية ضمن بناء وخطاب يستدعي التاريخ ويستعين بالخيال في سرد حقائق ذلك التاريخ. وتبقى الحقائق، هنا، موضع احترام السارد بلا شك، لكن الخيال يبقى ضروريًّا ووسيطًا؛ فوظيفة السارد تختلف عن المؤرخ.
تُقدِّم رواية "رحلة الأسرار المدفونة" للكاتب اليمنيّ مجدي صالح، تجربة متميزة في مدى احترام الرواية التاريخية للتاريخ ليس على صعيد الالتزام؛ فالرواية التاريخية ليست معنية بالالتزام الحرفي بمسارات الأحداث كما يشتغل على ذلك المؤرخ، وإنما على صعيد عدم تجاوز الحقائق التاريخية، والانطلاق منها في التعامل المدروس مع الخيال الروائي.
في هذه الرواية يشعرُ القارئ أن ثمة خيطًا رفيعًا حافظ عليه الروائي (الذي بقي خارج لعبة الأحداث) بين التاريخ والخيال السردي. وقد استطاعت هذه الرواية المحافظة، بجدارة، على ذلك الخيط الذي يدركه القارئ؛ وهو يتنقل مع السارد في تتبع أحداث رحلة المستشرق الفرنسي اليهودي جوزيف هاليفي مع الحاخام اليهودي اليمنيّ حاييم حبشوش في اليمن خلال القرن التاسع عشر الميلادي، بهدف التعرف إلى البلد من خلال حرصه على نقل ما يستطيع نقله من نقوش ومخطوطات حضارته القديمة وثقافته، ضمن رحلة كان هدفها الظاهر هو اكتشاف فرنسي لهذا البلد (في سياق تنافس فرنسي بريطاني على اليمن حينها)، فيما يرى آخرون أن هدف تلك الرحلة "كان مرتبطًا بالتحضيرات اليهودية للمؤتمر الصهيوني العالمي، في بازل عام 1897".
تميّزت الرواية بالبناء المحكم الذي أضاء كثيرًا من ملامح ثقافة المجتمع اليمني في تلك المرحلة التاريخية المهمة. واستطاع الكاتب من خلال إمساكه بخيوط السرد أن يقدّم صورة كاملة عما كان عليه اليمن في تلك المرحلة بما فيها الطرقات وتعاملات قوافل السفر بين المناطق، وما كانت عليه المدن والمناطق التي شملتها أحداث الرواية
تنطلق أهمية هذه الرواية (295 صفحة، المركز الديمقراطي العربي، برلين، 2019)، من كونها تتناول مسار رحلة تاريخية لأحد المستشرقين الأوروبيين لليمن، وتكشف عما شهدته تلك الرحلة منذ خروج هاليفي من باريس عام 1869، وحتى عودته إليها مرورًا بالحبشة ووصولًا لعدن؟ ومنها كانت محاولة انتقاله برًّا إلى صنعاء، لكن تلك الرحلة تعثرت؛ فتحوّل إلى السفر بحرًا إلى مدينة الحديدة (غرب البلاد)، ومنها إلى تعز (جنوب غرب) وصولًا إلى صنعاء (شمال)، ومنها انطلقت رحلته إلى عددٍ من مناطق الحضارة اليمنيّة القديمة في الجوف ومأرب وغيرها من المناطق التي صحبه إليها حبشوش.
استطاعت الرواية التعبير عن رؤية الكاتب لمرحلة تاريخية مهمة من تاريخ اليمن واستكشاف ما كانت عليه البلاد حينها، من خلال وصف سردي كان متميزًا، وتجلى فيه حرص الكاتب على أن يكون الوصف قريبًا من الواقع حينها؛ وقد استطاع، بلا شك، أن يوظف تلك الرؤية في التعامل مع الحقيقة التاريخية وتطويعها في سياق الحكي بأسلوب تخييلي مثير، لا سيما في اشتغاله على الأحداث بفنية لافتة وأسلوب جزل.
على مدى الرحلة بين عددٍ من المناطق اليمنية حاول السارد إبراز خصوصية الهُوية الثقافية اليمنية، والاقتراب من الناس والمجتمع، لدرجة تشعر فيها بتاريخ المرحلة التي استطاع الكاتب أن يتماهى معها في اشتغاله على الوصف المكاني والشخوصي والثقافي للبيئة؛ وهي بيئة تقليدية قد يتفاجأ بها القارئ وهو يكتشف طبيعتها الجافة والفقيرة من خلال هذه الرواية، التي تستعيد مرحلة تاريخية من تاريخ اليمن وتحديدًا تاريخ يهود اليمن، وتسلط عليها الضوء، وتبث فيها الروح من جديد.
بمعنى آخر؛ لقد تميّز الكاتب في الاشتغال على أدوات المسار التاريخي التخيلية، فصوّرت الرواية أحداثًا تاريخية واقعية مرتبطة بالمجتمع اليمني، كما لم تغفل عما كان يتميز به اليمن من معمار وآثار ومخطوطات وعادات وتقاليد وغيرها؛ من خلال اهتمام السارد بالوصف، بل يشعر القارئ اليمني تحديدًا أنه يكتشف بلده في مرحلة تاريخية مختلفة متمثلة في القرن التاسع عشر. وقد تجلى الكاتب، في ذلك، مُلمًّا بثقافة وتاريخ اليمن ومناطقه وتقاليده القبلية وتركيبته الاجتماعية، وتحت كلمتي تركيبته القبلية نضع أكثر من خط، إذ كان الكاتب منصفًا للقبيلة وتقاليدها، التي كانت تضبط إيقاع حياة الناس بشكل مختلف عما هي عليه اليوم، إذ كانت تقاليد تعكس رقيًّا إنسانيًّا حينها؛ وبخاصة في علاقة المسلمين باليهود اليمنيين، لدرجة أن المجتمع اليمني حدد، حينها، دية اليهودي بأربعة أضعاف دية المسلم، في تأكيد على مدى حرص المجتمع اليمني (المسلم) على ضمان سلامة أبنائه من اليهود؛ ولهذا كان اليهود اليمنيون يتنشرون في كل مناطق اليمن باعتبارهم جزءًا من نسيجه الاجتماعي؛ وهي نقطة توقف أمامها مليًّا الحوار الفكري بين اليهودي الفرنسي جوزيف هاليفي واليهودي اليمني حاييم حبشوش، ضمن حوار طويل امتد بامتداد الرواية، ليتجلى الحوار عنصرًا جيدًا في سياق معمار الرواية؛ وهو الحوار الذي أنصف الوعي الذي كان يتمثله يهود اليمن ممثلًا في حاييم حبشوش.
بقدر ما عكست الرواية ما شهدته رحلة هاليفي وحبشوش من صعوبات خلال تنقلهما بين مناطق اليمن، إلا أنها عكست، أيضًا، طبيعة الخلاف الفكري بين يهود الغرب ويهود اليمن، وذلك من خلال الحوار الفكري الذي كان لا ينطفئ حتى يشتعل بين هاليفي (الغرب) وحبشوش (الشرق)، وبخاصة على صعيد مفهوم ووعي اليهود اليمنيين بأرض الميعاد من جهة ووطنهم اليمن من جهة ثانية، حيث كان حبشوش (اليهودي المتدين) يدافع عن هُويتهم كيهود يمنيين مرتبطين بالثقافة اليمنيّة، وهنا يستعرض السارد كثيرًا من عادات وتقاليد ونواميس الحياة الاجتماعية لليمن في القرن التاسع عشر، وموقع اليهود منها، وكيف كانت علاقة اليمنيين مسلمين ويهود ببعضهم، وما كان يسود المجتمع من تسامح ديني لافت، يتجلى في تلك العادات والتقاليد التي كانت سائدة وتعزز من علاقات المجتمع ببعضه بعضًا مسلمين ويهود. ويمكن أن يتوقف القارئ قليلًا أمام ما أوردته الرواية عن مكانة قبر الشاعر والحبر اليهودي اليمني (الشبزي) في تعز لدى اليهود والمسلمين في اليمن للتعرف إلى حقيقة ما كان عليه اليمن من تسامح ديني.
تميّزت الرواية عن غيرها من الروايات التي تناولت يهود اليمن بحرصها على إثبات مدى الانسجام بين اليمنيين كيمنيين بصرف النظر عن معتقدهم الديني، وكيف كانوا يعيشون ويتعايشون مع الأحداث والقضايا. وصولًا إلى الغوص في تفاصيل الحياة الاجتماعية داخل مجتمع اليهود اليمنيين ومدى تشدد الطائفة اليهودية اليمنية في قيمها الاجتماعية، كانعكاس لتشدد البيئة الثقافية اليمنية ككل، وهو ما تم معالجته من خلال قصة "سعيدة" الفتاة اليهودية التي كان تسكن مع عائلتها نجران، والتي انتهت بها الرواية إلى ذبحها ضمن طقوس يهودية كعقاب لمن تفقد عذريتها خارج بيت الزواج. كل ذلك في سياق حرص السارد على كشف حقيقة رحلة جوزيف هاليفي لليمن ودور اليهودي اليمني حبشوش فيها.
البناء
على صعيد بناء الرواية فقد التزم الراوي، مسارًا تصاعديًّا منذ بدء الرواية التي انطلقت من الموافقة على تكليف هاليفي برحلة إلى اليمن من قبل الإمبراطور الفرنسي تشارل لويس نابليون بتاريخ 6 أيلول/ سبتمبر عام1869. وتوديعه حتى السفر بحرًا إلى الحبشة، ومنها إلى عدن وصولًا إلى الحديدة، وهناك ينتقل بك الراوي للتعرف إلى ما كانت عليه رحلة جوزيف هاليفي الذي تغير اسمه في اليمن إلى (يزيد لبيب عاطف) باعتباره يهوديًّا مقدسيًّا وصل لليمن للتسول؛ وهي الشخصية التي تماهى معها هاليفي حتى مغادرته اليمن.
كان السرد سهلًا وسلسًا خاليًا من التعقيدات، مع المحافظة على صوتي هاليفي وحبشوش كصوتين رئيسيين في السرد مع وجود أصوات أخرى، لكنها ظلت محدودة الدور على أهميتها في خريطة السرد.
تميّزت الرواية بالبناء المحكم الذي أضاء كثيرًا من ملامح ثقافة المجتمع اليمني في تلك المرحلة التاريخية المهمة. واستطاع الكاتب من خلال إمساكه بخيوط السرد أن يقدّم صورة كاملة عما كان عليه اليمن في تلك المرحلة، بما فيها الطرقات وتعاملات قوافل السفر بين المناطق، وما كانت عليه المدن والمناطق التي شملتها أحداث الرواية. كل ذلك من خلال بناء سردي محكم أجاد فيه السارد الاشتغال على أدواته في معمارية واضحة وإيقاعية سردية ظلت على مدى الرواية بمستوى واحد تستمر معه القراءة.
انطلق بموازاة رحلة هاليفي وحبشوش كصوتيين رئيسيين، خط سرد ثانوي تمثل في قصة عائلة يهودية يمنيّة في منطقة نجران من خلال صوت سعيدة كصوت ثانوي مع عائلتها اليهودية، والتي حرص، من خلالها، السارد على تسليط الضوء على بيئة يهود اليمن من الداخل في تلك الفترة، وتحديدًا من خلال حكاية سعيدة بنت مري معيض، وما تعرضت له في علاقتها مع شاب يهودي استغل سذاجتها وطيبتها وسلبها عذريتها؛ وهو ما تسبب بذبحها من قبل عائلتها، وتحديدًا أخوالها من يهود صعدة، كطقس اجتماعي، تم تنفيذه في مشهد مؤلم، برع السارد في تصويره والتعبير من خلاله على مدى تشدد الطائفة اليهودية في عاداتها وتقاليدها الاجتماعية في تلك المرحلة ككل اليمنيين.
يقول السارد بلسان يزيد (هاليفي): «رغم الشرائع السماوية التي يلتزم بها كافة أبناء اليمن، إلا أن تجاوز الأحكام المدونة أمر لا غرابة فيه. فاليمني -أكان مسلمًا أو يهوديًّا- يبقى يمنيًّا بجينات التراب والصخور الجبلية متشابهين بالتصرفات والأعراف الاجتماعية أكانت سلبية أو إيجابية». ص160.
مضى السرد في هذين الخطين بشكل متناغم ومنسجم ومتداخل أحيانًا، حيث وصل هاليفي وحبشوش إلى نجران في سياق رحلتهم، والتقوا بعائلة مري معض اليهودية، واطلع حبشوش منهم على قصة سعيدة التي كانت، حينها، تنتظر طقوس الذبح. في سياق سردي يتجلى فيه مدى براعة السارد في التعامل مع مسارات الأحداث، مستخدمًا لغة سلسة وواضحة، عززت من جمالية العمل الروائي، وإن شاب الرواية قصورٌ في الاشتغال على التنضيد وعلامات الترقيم والضبط السياقي أحيانًا؛ فنجد، أحيانًا، جملًا غير مكتملة، لكنها لم تؤثر على سلامة وجمال العمل ككل.
الخطاب
تعاملت الرواية مع عددٍ من القضايا في سياقها السردي، أبرزها الخلاف الفكري بين حاخام أوروبي وحاخام يمنيّ حول كثير من القضايا العقدية والفكرية والثقافية، بما فيها علاقة يهود الشرق بما كان يعتقد به يهود الغرب. علاوة على ما كانت تتمتع به اليمن من خصوصية ثقافية استطاع السارد بجزالة أسلوبه وخصوصية لغته وتماسك سرده إبراز معالمها وملامحها.
بالإضافة إلى ذلك استطاعت الرواية الاشتغال بإنصاف على عددٍ من الحقائق التاريخية في تعاملها مع مسار الرحلة؛ إذ حاولت الرواية تصحيح ما ورد فيما دوّنه هاليفي نفسه عن الرحلة.
حتى في اشتغاله على الأماكن والشخوص والتفاصيل المشهدية كان الخطاب يطفو واضحًا باتجاه إيصال رسائل مهمة تعكس الوجه الحقيقي لليمن، وما كان يتمتع به المجتمع من خصوصية ثقافية وقبلية بما يؤكد ما بذله الكاتب من جهود في القراءة والبحث التاريخي، والذي تجلت من خلاله رؤيته الخاصة.
بمعنى آخر لقد حرص الكاتب أن تُنصف الرواية اليمن في تلك المرحلة التاريخية من خلال حرصه على تبيان البينات التي تبرهن صحة ما ذهب إليه من رؤى أبرزها الجمال الفطري التي كان يتمتع به المجتمع اليمني في تلك الفترة التي سبقت عودة الأتراك للمرة الثانية لاحتلال اليمن.
إن كان ثمة ما يؤخذ على الرواية فهو بعض القصور في تسليط الضوء على المرحلة السياسية التي كانت تعيشها البلد خلال تلك الفترة في سياق السرد؛ إذ يحار القارئ -وبالذات القارئ غير اليمني- في التعرف إلى طبيعة المرحلة التاريخية، وما كان يعانيه المجتمع حينها، باستثناء تلك الإشارات، كالتي وردت في آخر الرواية، وبخاصة عند إخراج حبشوش من السجن.