منذ صدور أول رواية يمنيّة ممثلة في "فتاة قاروت"، لأحمد السقاف، عام 1927، يقول الباحث والقاصّ "زيد الفقيه" لـ"خيوط"، إن ما صدر من الرواية اليمنيّة حتى نهاية2019 ، وصل إلى 252 رواية، وفق رصده البيبلوغرافي للنتاج الروائي اليمنيّ. وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا الرقم بسيطًا مقارنة بما صدر في أي بلد عربي مجاور. هنا نسأل: هل ما يصدر من هذه الرواية، حاليًّا، يمثل حالة تراكمية التهمت ما قدّمه القرن العشرين في السرد اليمنيّ؟ وهل يمكن الحديث عن التراكم مع غياب تواتر إنتاج الكاتب، كحالة سادت مسار هذه الرواية في القرن الماضي؟ وانطلاقًا من ذلك هل يمكن الحديث، حاليًّا، عن رواية يمنيّة مكتملة لها ملامحها الخاصة؟ ذلك ما ناقشناه مع عدد من الروائيين والنُقّاد اليمنيين، وحاولنا مقاربته في هذا التحقيق.
الأساس الصحيح
الروائي والقاصّ "وجدي الأهدل"، الذي وصلت إحدى رواياته للقائمة الطويلة لجائزة "البوكر" العربية، يرى أن ما يصدر عن الرواية اليمنية، حاليًّا، هو حالة تراكمية التهمت ما قدّمه القرن العشرين في السرد اليمني، وتمثل حالة متطورة عنه. "الأهدل" قال إن الروايات اليمنية في القرن العشرين الفائت، هي التي وضعت الأساس الصحيح لتطور الفن الروائي اليمني حاليًّا.
«بالضرورة أن تحقق الروايات اليمنية الصادرة في القرن الحادي والعشرين، تفوقًا فنيًّا على الروايات اليمنية التي سبقتها في القرن الماضي، وإلا فإن صيرورة التطور سوف تكون خاطئة، وكأن البداية كانت خاطئة من الأساس. ورأيي الشخصي أن الروايات اليمنية في القرن الماضي (العشرين) هي التي وضعت الأساس الصحيح لتطور الفن الروائي في القرن التالي».
وفيما يخص التراكم السردي في ظل غياب تواتر إنتاج الكاتب اليمني كحالة سادت القرن العشرين، يرى "وجدي" أنه إلى حدٍّ ما هناك تراكم سردي للروائيات والروائيين في قرننا الحالي.
«يمكنك أن تلاحظ بسهولة أن الأديب اليمني لديه مشروع روائي يعمل عليه بدأبٍ، عامًا تلو الآخر، وفي جيلنا روائيون وروائيات صدرت لهم ما بين ثلاثة وستة أعمال روائية أو أكثر، وهذه حصيلة مرتفعة للأديب اليمني مقارنة بالأجيال الأدبية السابقة التي ظهرت في القرن العشرين».
وعلى صعيد العلاقة بين تواتر إنتاج الكاتب وتوفر الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، يقول "وجدي" إن استمرار الكاتب اليمنيّ على قيد الحياة إبداعيًّا، "مسألة حظ لا أكثر"!
«اليمن يفتقرُ إلى أبسط مقومات الحياة الثقافية الطبيعية، فلا دُور نشر ولا شبكة توزيع، ولا حتى سلسلة مكتبات عريقة، ويقع على عاتق المؤلف تدبير طباعة روايته وتوزيعها والإعلان عنها، وإذا لاحظت فإن هذه المهام في خارج اليمن تقوم بها مؤسسات كبيرة، وبواسطة جيش من العاملين! وعمومًا يتغلب الروائي اليمني على الموات الثقافي في بلده بالنشر في بيروت والقاهرة وغيرهما من العواصم العربية. ولكن بشأن المؤلف اليمني كإنسان له احتياجاته اليومية كالمأكل والمسكن والملبس، فإن استمراره على قيد الحياة – إبداعيًّا - مسألة حظ لا أكثر، وحتى لو حقق بطولة الاستمرار في الإنتاج الأدبي، فإن المجتمع لن يشعر به مطلقًا مع الأسف».
الاستقرار مهم
ويتفق نسبيًّا مع "وجدي"، الروائي "سالم بن سليم"، وهو صاحب رواية "النوافذ الصفراء" وغيرها من الأعمال السردية، مؤكدًا أن ثَمّة تراكمًا للسرد اليمني؛ «بعض الروايات تمثل امتدادًا متطورًا للسرد اليمني في القرن العشرين. لكن هناك روايات شابة أو لنقل كُتّابها شباب لم يكونوا على اطلاع على الأدب اليمني إلى حد المقاطعة، إن جاز التعبير».
لكن "سالم" اعتبر غياب تواتر إنتاج الكاتب، من عيوب الرواية اليمنية في القرن العشرين، مؤكدًا أهمية عامل الاستقرار الحياتي.
«الاستقرار عامل مهم جدًّا لكي يعطي الكاتب ويستمر. أعرف كُتابًا وشعراء كانوا شغوفين بالكِتابة والشعر، لكن صعوبة العيش دفعتهم للهجرة، وهناك مَن فقدوا شغفهم بالأدب وتوقفوا».
الرواية بلا هُوية جغرافية
الروائي "الغربي عمران"، الذي فاز العام الماضي (2019)، بإحدى جوائز "راشد بن حمد" للإبداع، يرى، أيضًا، أن التواتر السردي اليمني في القرن العشرين ولّد تطورًا، وهو يعتبر أن «طباعة أعمال جديدة حالة متطورة؛ فرواية جديدة تعني شيئًا ما فنيًّا أو موضوعيًّا جديدًا».
إلا أن "الغربي" لا يتفق مع الطرح الخاص بالتراكم السردي في الرواية اليمنية، باعتبار أن الكاتب، هنا، لا يُسابق مَن حوله، بل يتحرك في فضاء عربي وعالمي؛ لأن الرواية، من وجهة نظره، حالة فردية إنسانية؛ وذهب للقول: لا توجد رواية يمنية.
«الرواية ليست يمنية أو عربية، الرواية روح إنسانية، تتبادل فنونها الشعوب...، ولذلك تأتي يومًا بعد يوم مختلفة، وبالذات في جوانب البناء الفني وأسلوب التناول». «لا توجد رواية يمنية، بل رواية في اليمن، ولا يتسابق الكاتب أو يُنافس مَن حوله، كما لو كانوا سمكًا في حوض، بل في محيط واسع اسمه الإنسانية. إذن الرواية حالة فردية إنسانية ضمن محيط كوني».
ويؤكد أن الرواية مرتبطة بماضي الفرد الإبداعي، وليس بماضي المحيط الذي يعيش فيه أو بمَن سبقه مِن الكُتاب في البلد نفسه.
هل يمكن الحديث عن رواية يمنيّة مكتملة الملامح، وما هي هذه الملامح، وهل تستند إلى تراكم تسعة عقود من السرد؟
«سَمِّهِ تراكمًا سرديًّا يمنيًّا، واسميّه إبداعًا إنسانيًّا فرديًّا، له علاقة بماضي الفرد الإبداعي، وليس بماضي مَن حوله أو مَن سبقه مِن الكُتّاب في نفس النطاق الجغرافي». «مسار الرواية، أيضًا، في اليمن لا يمكن أن ترصده جمعيًّا بل فرديًّا، فهناك كاتب في المجر يكتب بالمجرية د. "أحمد عايض"، ولديك بالفرنسية د. "حبيب سروري"، وغيرهما. إذن الإنتاج لا يحدّه النطاق الجغرافي، الرواية التي يكتبها يمنيون هي رواية غير متصلة بمَن كتبوا في الماضي في نطاق اليمن، هي فردية والتراكم فردي، والبناء تختلف صلاته الإنسانية فنيًّا».
وقال "الغربي" إن الكتابة حالة ذاتية تحت أي ظرف، وبالتالي لم يتفق كليًّا مع الحديث عن أهمية الاستقرار كضرورة للكتابة.
«أتحدث عن نفسي؛ الكتابة أنا، الكتابة ذاتية تحت أي ظرف، الكتابة ملاذ، الكتابة نسق حياة، لا يعوقه عائق. بالطبع تُؤثّرُ الأوضاع على الكاتب، لكنها لا تقتله ولا توقفه؛ لأنه إن توقف مات، ولذلك يستمر الكاتب متلبسًا بالكتابة كدرعٍ واق. بالطبع الاستقرار مهم، ولكن الأوضاع المضطربة محفزّة للكُتّاب، وأنتَ قرأتَ روايتي الأخيرة "حصن الزيدي" وكتبتَ عنها، ورأيت فيها أن الواقع يدفع بالكاتب كي يكتب ويستمر».
ملامح الرواية
انطلاقًا مما سبق نسأل: هل يمكن الحديث عن رواية يمنيّة مكتملة الملامح، وما هي هذه الملامح، وهل هذه الملامح تستند إلى تراكم تسعة عقود من السرد؟
الروائي "حبيب سروري"، الذي فاز العام الماضي (2019)، بإحدى جوائز "كتارا" للرواية العربية، يرى أن هناك رواية يمنيّة مكتملة الملامح على الأقل بالنسبة له.
«يكفي رؤية تصاعد حضورها الدائم عربيًّا وعالميًّا، الدراسات التي تُكتب حولها، والمقابلات العربية والعالمية حول نماذج منها. ماجسترات ودكتورات ومقالات في مجلات مُحكّمة دولية دَرسَتْ بعض الروايات اليمنية (بعض رواياتي كأمثلة فقط). تُدَرّس بعض الروايات اليمنيّة هنا وهناك. والعديد من نوادي القراءة العربية تُكرّس لأكثر مِن رواية عربية. (ثلاثة نوادٍ، في لبنان والجزائر وسوريا) منذ بدء هذا العام (2020) دَرَسَتْ بإسهاب ثلاث روايات لي، على سبيل المثال».
ويرى "حبيب"، وهو أستاذ جامعي مُقيم في فرنسا، أن ثمة ملامح تختص بها الرواية اليمنيّة، أبرزها في تقديره: «١) الغوص في الهم والتاريخ والحياة اليمنية؛ اليمن منجم روائي، بلا قاع. أين ستجد تفاصيل يوميات الحياة اليمنية في جنوب اليمن (الشيوعي سابقًا) خارج الرواية اليمنية؟! ٢) الهموم العربية والعالمية، والتاريخ العربي، ليسا غائبين عن الرواية اليمنية، كوننا جزءًا من هذا العالم. بعض رواياتي، كمثل، تدور في مسرح عُمان، أو تتناول شخصيات جوهرية في التاريخ العربي، كالمعري».
كما يؤكد أن هذه الرواية تستند إلى تراكم سردي يمني، لكنه استدرك بأن هذه الرواية، أيضًا، لا تستند، فقط، إلى ذلك التراكم.
«شخصيًّا، تأثرت مثلاً ببعض الروايات اليمنية، كـ"زهرة البن" لعلي محمد زيد، "طعم أسود" لعلي المقري...، لكن تأثُرنا يذهب، أيضًا، أبعد مِن ذلك. هو تأثر بالسرد العربي والعالمي عمومًا».
الواقع كرافد إضافي
لكن الناقد "أحمد ناجي النبهاني"، الذي صدر له عددٌ من الكتب في النقد الأدبي، يرفض الحديث عن مفهوم رواية يمنية، ويرى أنه من المبكر الحديث عن ذلك، لكن يمكن الحديث عن روائيين يمنيين نهضوا وتطوروا، حد قوله.
«لا نستطيع أن نتحدث عن مفهوم رواية يمنيّة، لكن نستطيع أن نقول إن هناك روائيين يمنيين استطاعوا أن ينتقلوا بالفن الروائي اليمني إلى العالمية. لا توجد ملامح خاصة للرواية اليمنيّة، لكن هناك ملامح خاصة للكُتاب والروائيين؛ فكل روائي مِن هؤلاء له عالمه وخصوصيته أمثال "وجدي الأهدل" و"حبيب سروري" وغيرهما، فكل روائي مِن هذه القامات يمتلك لونًا وعالمًا خاصًّا يستطيع من خلاله أن يُشكّل رافدًا للثقافة الإنسانية؛ وبالتالي لا أستطيع أن أقول إن الرواية اليمنية نهضت، لكنْ هناك روائيون يمنيون نهضوا بأدواتهم الفنية، واستطاعوا أن يقدّموا تجارب روائية تستحق الاحترام حتى الآن».
لم ينل النتاج السردي اليمني حقّه من الدراسات التي تتبعت مراحله باحثة عن عوامل النكوص والتطور، وكاشفة عما تميز وتمايز به وتأخر عنه، وما اكتسبه من عوامل تعزز من حضوره الإبداعي إنسانيًّا
وأكد "النبهاني" أن إطلاق مفهوم الرواية اليمنية يحتاج إلى تراكم كبير، بينما التراكم في الرواية اليمنية ما زال محدودًا، «وبالتالي الحديث عن رواية يمنية ما زال صعبًا. إلا أننا سنتحدث عن عوالم إبداعية مُذهلة شكّلتها رواية هذا الكاتب أو ذاك مِن اليمن، وعكست حالة مِن التضاد بين الواقع المتخلف والبناء الإبداعي المذهل الذي يسكن هذا المبدع».
وبناءً من ذلك «لا نستطيع أن نقول إن الرواية اليمنية استفادت من التراكم السردي اليمني، لكنها استفادتْ من تراكم القراءات هنا وهناك لهؤلاء المبدعين؛ وهذا التطور الابداعي هو خلاصة اطلاعهم على التراث اليمني السردي واطلاعهم، أيضًا، على التراث الإنساني العالمي بالإضافة إلى الواقع، وما يشكله مِن رافد إضافي لتجاربهم الإبداعية».
174 رواية في عقدين
ووفق رصد بيبلوغرافي للنتاج الروائي اليمني، أعدّه الباحث والقاصّ "زيد الفقيه"، فقد صدر مِن الرواية اليمنيّة في عشرينيات القرن العشرين الماضي، روايتان، وفي الثلاثينيات رواية، ورواية في الأربعينيات، ومثلها في الخمسينيات، أربع روايات في الستينيات، 15 رواية في السبعينيات، 16 رواية في الثمانينيات، 29 رواية في التسعينيات، 85 رواية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، و89 رواية في العقد الثاني حتى 2019.
وشهد عقد السبعينيات أبرز تحولات السرد الروائي اليمني تقنيًّا وموضوعيًّا في القرن العشرين؛ وهو التحول الذي برز بوضوح على يد الكاتب الراحل "محمد عبدالولي"، وتحديدًا في روايته "يموتون غرباء"، الذي كرسته روايته "صنعاء مدينة مفتوحة"، فيما شكلت الثمانينيات مرحلة جديدة ظهر فيها الروائي زيد مطيع دماج؛ لتبدأ الرواية في اليمن خلال التسعينيات مرحلة متقدمة كمًّا ونوعًا من خلال روايات الكُتاب الشباب، والتي مثّلت إرهاصًا للتحول الكبير في العقدين الأولين من الألفية الراهنة، والتي شهدت تطورًا كميًّا لافتًا؛ فصدر خلال هذين العقدين أكثر مما صدر خلال سبعة عقود من القرن الماضي، كما حققت تطورًا نوعيًّا فارقًا على صعيد المعالجة السردية (التقنية والخطابية) في اشتغالها على أبنية متطورة وقضايا شائكة وحساسة؛ وهو المسار الذي ما زال محل دراسة ومجال تطور.
لم ينل النتاج السردي اليمني حقه من الدراسات التي تتبعت مراحله باحثة عن عوامل النكوص والتطور كاشفة عما تميز وتمايز به وتأخر عنه وما اكتسبه من عوامل تعزز من حضوره الإبداعي إنسانيًّا، وهي حقيقة تستدعي من الباحثين والنُقاد منحه الاهتمام الكافي بما يتواكب مع واقعه.