البردّوني والمصيرُ المجهول لمخطوطاته النثرية

ما الذي كان يحويه المنزل المنهار من آثار الراحل؟
أحمد الأغبري
August 31, 2020

البردّوني والمصيرُ المجهول لمخطوطاته النثرية

ما الذي كان يحويه المنزل المنهار من آثار الراحل؟
أحمد الأغبري
August 31, 2020
منزل عبدالله البردوني قبل انهياره- أحمد الأغبري

من المؤسف أن تحلَّ الذكرى الحادية والعشرون لوفاة رائي اليمن وشاعرها "عبدالله البردونيّ" وما زال تراثه المخطوط بعيدًا عن متناول القرّاء، بما في ذلك تراثه النثريّ الذي ما زال مصيره مجهولًا، ومحلّ خلاف بين الأدباء أنفسهم، ما بين نافٍ ومُقِرّ. 

نعرف جيّدًا أن مسؤولية تغييب هذا التراث مشتركة بين ورثة الراحل وبين المؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية؛ والأخيرة تتحمل مسؤولية كبيرة؛ إذ باستطاعتها من خلال المال، والمال لا يعني شيئًا إزاء مكانة الراحل، أن تَحِلّ المسألة منذ وقت مبكر. 

لكن ما زال وراء الأكمة ما يؤكد أن ثمّة مخاوف سياسيّة غير لائقة بسلطة غير مؤهلة، أعاقت كل الجهود الرامية لإخراج تلك الكُتب المخطوطة إلى النور، وتحويل منزله (الذي انهار مؤخرًا جراء الأمطار والإهمال) إلى متحفٍ، وإعادة طِباعة كُتبه المنشورة، وبخاصة النثرية التي انحسرت مساحة انتشارها في سوق النشر خلال السنوات الأخيرة، ولم تحظَ بإعادة طباعتها ضمن مجموعة كاملة كما حظي شعره.

من غير الطبيعيّ أن يُحيي المشهد الثقافي اليمنيّ ذكرى وفاة الرجل، والمشهد برمته قد عجز طوال 21 سنة عن إخراج تراثه المخطوط، وجعله في متناول الناس، أو لنقل على الأقل، أن يسهم هذا المشهد بمؤسساته غير الحكومية، في الكشف عن حقيقة ومصير كُتبه النثرية المغيّبة، بدلًا من إسهام بعض رموز هذا المشهد، للأسف، في خدمة التغييب، بقولهم إنه لا يوجد تراثٌ مخطوط للراحل سوى ديواني "العشق على مرافئ القمر"، و"ابن من شاب قرناها". بينما نعلم أن ثمّة كُتب نثرية أكّدت وتؤكّد عدةُ مصادرٍ وجودَها. يكفي للاستدلال على ذلك بما ورد في تقريرٍ عمّا تم حصره من مُخلّف الراحل الأدبيّ، مِن قِبل اللجنة التي تم تشكيلها عقب وفاته مباشرة، لتقويم وحصر وتقسيم مخلف البردوني، التي تكونت مِن: الراحل يحيى ناصر الدرة، ويحيى محمد جغمان، اللذَينِ تمكّنا مع آخرين من إنجاز حصر (بعض) ما تركه الراحل. ومن بين ما ذكروه كِتابٌ مخطوط بعنوان "ثوارٌ في رِحابِ الله"، ومجموعة مقالات اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين، ومقالة بعنون "نبوءة المعَرّي"، وكان الاتفاق، حسب عضو اللجنة يحيى جغمان، أن يتم حصر كافة كُتبه ومؤلفاته ومكتبته، بالإضافة إلى الأوسمة والجوائز التي حصل عليها، ونقلها إلى منزله الكائن في حي "بستان السلطان"، لتحويله إلى متحف.

 إلا أن ذلك لم يحدث بسبب الخلاف بين الورثة على المنزل الكائن في الحي السياسي بصنعاء، «ولم تـُـستكمَل القسمة ولم تتم قسمة إلَّا ما يخص الأوراق النقدية بين الورثة. أما بقية تركة المرحوم فلم تقسَّم؛ بسبب أَن أرملة المرحوم طلبت تحويلَ القضية إلى المحكمة الابتدائية، وتم تسليمُ ملف القضية إلى رئيس المحكمة في وقته وحينه، وانتهى دَورُ اللجنة المشكَّـلة لتقويم وحَصْر وتقسيم مُخلف المرحوم الأستاذ/ الـبَـرَدُّوْني».

فيما تحدّث الشاعر والناقد علوان الجيلاني، وكان من تلاميذ وجلساء البردوني، في شهادةٍ أدلى بها للكاتب عام 2012، عن ثلاثة كُتب نثرية (لم يذكرْ فيها كِتاب "ثوار في رِحاب الله" الذي ذكرته لجنة الحَصْر)، مؤكّدًا أن البردّوني ترك كتبًا نثرية غير الديوانَين، وذكر أنه شهد إنجازها ورآها بعينيه، مشيرًا إلى كِتاب بعنوان "الجمهورية اليمنية"، وكِتاب آخر بعنوان "الجديد والمتجدّد في الأدب اليمنيّ"، بالإضافة إلى سيرته الذاتية...، وقال: «هناك نوع من التراخي والقصدية لتغييب كُتب البردوني لأسباب كثيرة جدًّا أبرزها سياسية؛ فهناك كِتاب "الجمهورية اليمنية"، وأنا أشهدُ أني رأيته بعينيّ، وشهدتُ كثيرًا من فصوله، وهي تُنجز عند البردوني، ورأيته قبل موته بفترةٍ قصيرة، وهو جاهزٌ بالملفات كاملة لتُرسل للمطبعة، وقد كان جاهزًا سنة 1994. وعندما اندلعت الحرب بين طرفي النظام في ذلك العام، أخَّر إرساله للمطبعة، وقال الآن يُكتبُ التاريخ مِن جديد، وظل يكتبه أربع سنوات أخرى.

 وهناك، أيضًا، سيرته الذاتية، التي نشر بعضها في صحيفة "26 سبتمبر"، لكن هناك فصولًا منها لم تُنشر، ونريدُ أن نعرف أين هي؟ وهناك كِتاب "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني" الذي طالما أعلن عنه، وقال لي عنه بلسانه، إن هذا الكِتاب جاهز للنشر في 1800 صفحة، ويحتاج إلى 18 ألف دولار لطباعته حينها».

منزل عبدالله البردوني بعد انهياره

 وانطلاقًا مما ورد في تقرير لجنة الحصر وشهادة الجيلاني، فهناك أربعة كتب نثرية مخطوطة تركها الراحل، وإن نُشر بعضها في هيئة مقالات وحلقات في صحيفة "26 سبتمبر" ومجلة "الجيش"، فإن إصدارها في كُتب يعزز من أهميتها؛ لأنها، بلا شكّ، ستأتي بأكثر مما حملته المقالات.

الجدير بالإشارة أن وزارة الثقافة كانت طبعت كِتاب "الجمهورية اليمنية"، ولا يعرف الكاتب كيف حصلت عليه، لكنه رأى عام 2015، كميةً من هذا الكِتاب مخزّنةً في أحد مخازن المركز الثقافي بصنعاء، ولم يتم توزيعها حتى الآن. قيل إن السبب يعود لما تضمنه الكِتاب من أخطاءٍ طباعية كثيرة؛ فيما قال آخرون إن السبب يعود لخلافِ الوزارة مع ورثة المؤلف بخصوص قيمة الحقوق الفكرية؛ الأمر الذي أعاق توزيعه، وإن كنتُ أرى أن السبب غير ذلك تمامًا.

مما سبق نجد تقصيرًا واضحًا في التعامل مع تراث الراحل عبدالله البردوني؛ إذ لا يمكن أن تبقى مجهولة ماهية هذا التراث لأكثر من عقدين. كما أنه من غير المعقول أن يكون الورثة أقوى من الدولة في الدفاع عن تراث راحل بحجم البردوني، خاصة إذا علمنا أن ما كان سيُدفع لتحرير تراث البردوني لا يساوي ما كانت تدفعه الحكومة لأي وزير معين مقابل تأثيث مسكنه؛ فهل تأثيث مسكن وزيرٍ جديد أهمّ مِن تحرير وطباعة كُتب البردّوني المخطوطة وتحويل منزله إلى متحف؟! لكننا نحن في بلد لا يعترف بالتزاماته تجاه مواطنيه العاديين، فكيف يفي بالتزاماته تجاه علمائه، ويتعامل مع نتاجاتهم بوعي عصري يحترم فيه الآخر مهما كان حجم الاختلاف معه. ويفسر هذا فشل اتفاق طباعة الديوانَين غيرَ مرة في اللحظات الأخيرة.

عدم صدور أي إعلان من ورثة البردوني بخصوص سلامة مقتنيات الراحل وتحفظهم عليها في مكان آمن عقب انهيار منزله، يؤكد مدى سلبيتهم في التعامل مع هذا التراث، لكنه في الوقت نفسه يؤكد مسؤوليتهم عن حمايتها وعدم تفريطهم بها

كما أن الاختلاف في ماهية وحجم التراث المخطوط للرجل، يؤكد أننا أمام جريمة كبيرة ارتُكِبت عقب الوفاة، وما تزال تُرتكَب بحق تراث البردّوني؛ وهذا كافٍ لنقول إن ثمة تعمّدًا وتغيِيبًا واضحًا مورس خلال السنوات السابقة تجاه تراث الراحل. لكن مَن تعمّد ذلك يعتقد أنه قد ينجح في حجب هذا التراث عن القراء؛ لكنه لا يفهم أن هذا الحجب قد يؤخر الاطلاع عليه لفترة من الوقت، لكن سيأتي يومٌ يَجِدُ فيه هذا التراث طريقَه إلى النور، وحينئذٍ سنجد البردّوني ساخرًا منهم بضحكته التي ألفها عنه تلاميذه.

ونحن كقرّاء، بحاجة ماسة لقراءة ما تبقى من نتاجه الشعري والفكري...، وسننتظر خروج هذا التراث للنور؛ بل نحن على ثقة بأن ذلك سيحصل.

ووَفقَ مصادر مطلعة، فقد تم نقل كل ما يخص الراحل من كُتب ومقتنيات وجوائز وأوسمة إلى منزله الكائن في "بستان السلطان". وفي حال بقيت كل تلك الآثار هناك خلال العقدين الماضيين، فمن المحتمل تعرضها للتلف أو العبث؛ وفي حال كانت هناك حقًّا، فإنها قد تلفت تحت أنقاض المنزل بانهياره مؤخرًا. كما أن عدم صدور أي إعلان من ورثته بخصوص سلامة مقتنيات الراحل وتحفظّهم عليها في مكان آمن عقب انهيار منزله، يؤكّد مدى سلبيتهم في التعامل مع هذا التراث، لكنه في الوقت نفسه يؤكّد أيضًا، مسؤوليتهم عن حمايتها وعدم تفريطهم بها. نقول ذلك متفائلين! 

وصدر للبردوني خلال حياته (1929 - 1999) اثني عشر ديوانًا، وثماني دراسات في الأدب والتاريخ والثقافة اليمنية، وتناولت تجربته العديد من الدراسات، بوصفه من أهم شعراء العربية في القرن العشرين، وبرز متميزًا في منح القصيدة العموديّة روحًا حداثية، تخلقت في فضاءاتها شعرية جديدة متجددة.


•••
أحمد الأغبري

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English