ما بين أغسطس/ آب 1999، وأغسطس/ آب 2020، توالت الكثير من الأحداث على المستوى المحلي من منازعات وحروب، وصعود قوى وسقوط أخرى، في امتداد للأحداث التي شكلت اليمن منذ بداية القرن العشرين. أحداث تحتاج لراءٍ مثل البَرَدُّونِيّ، ليجمع أشتاتها ويرتب خيوطها، ويظهرها كاملة، بجذورها وسيقانها وأوراقها، وكذلك ثمارها التي ستنبت أحداثًا أخرى بعد فترة من الزمن.
في أغسطس/ آب 1999، توفي عبدالله البَرَدُّونِيّ، عن عمر ناهز السبعين عامًا، وفي أغسطس/ آب 2020، تهدّهم بيته، بما يشبه إسدال الستار على قضية كانت تظهر وتختفي بين الحين والآخر، حول الإرث الأدبي و(العائلي) الذي تركه البَرَدُّونِيّ، متمثِّلًا في مخطوطات أعمال لم تنشر، وبيت تراثيّ بمواصفات يمكن تحويله إلى متحف للبردّوني.
فخلال واحد وعشرين عامًا، وتقريبًا في شهر أغسطس/ آب، من كل عام، وخلال الاحتفائية السنوية بالبَرَدُّونِيّ، تخرُج للعلن قائمةٌ بأعماله التي لم تُنشر، سواءً في مجال الشعر أم الدراسات النقدية أم البحثية الاجتماعية والسياسية. ويتم الحديث عن صندوق البَردُّونيّ الذي كان يحتفظ فيه بهذه المخطوطات، ومصيرها ومن يحمل مفتاح الصندوق حاليًّا!
وأبرزُ ما يثار الجدل حوله من الأعمال غير المنشورة رواية "العم ميمون"، وهي – كما يوحي اسمها عن اليمن– هاجسُ البَردُّونيّ الأول، ويقال: إنها كانت جاهزة للنشر منذ العام 1993، وكما نشر في صحيفة "الثقافية" التي كانت تصدر عن مؤسسة الجمهورية للصحافة في تعز، في العدد (7) بتاريخ 2/ 9/ 1998، في مقابلة مع البَرَدُّونِيّ، أنها "تحتاج إلى "فلوس" أكثر مما ينبغي لتخرج للناس"، دون أن يتم توضيح المعنى من "الفلوس"؛ فهل هي النقود، أم هي القطعة المعدنية التي تدور؟ فالبَرَدُّونِيّ اعتاد على طباعة أعماله وبيعها بأسعارٍ أقلّ من تكلفة طباعتها. أيضًا، وبرغم قوله في المقابلة إن الرواية "مراجعة وجيّدة"، فهل كان يرى أنه بحاجه للاشتغال عليها أكثر؟ أم السبب هو ذلك التوجس الذي ينتاب بعض كبار الشعراء من نشر الروايات التي يكتبونها، وإحساسهم بخيانة مشروعهم الشعري، أو الارتياب من ردّة فعل القراء والنقاد، وعدم حصولها على نفس نجاح أشعارهم، أو مقارنتها بمنجزهم الشعري؟
والعمل الثاني هو مخطوطة كتاب "الجمهورية اليمنية"، وهناك من يجزم بالتأكيد بوجود مخطوطة الكتاب، وهناك من ينفي وجود المخطوطة ويتحدّى إظهار أيّ شيء منها. وهناك قصص عجيبة ارتبطت بالكتاب إلى درجة أن هناك قصة تتحدث عن أن الكتاب تم أخذه بعد وفاة البَرَدُّونِيّ مباشرة.
وبين روايات التأكيد والنفي، يمكن تتبّع مسارٍ لكتابات البَردُّونيّ حول هذا الموضوع؛ فالبَردُّونيّ أصدر كتاب "اليمن الجمهوري"، ورصد فيه قيام الثورات اليمنية ضد الإمام يحيى والإمام أحمد، وصولًا إلى الصراعات داخل الجمهورية، التي أُعلِنت بعد زوال نظام الإمامة، والأخطاء التي وقع بها الثوار، بدايةً من ثورة/ حركة 1948، إلى ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، وما بعدها. ورصد في الكتاب الحركات والأحزاب التي تشكّلت في اليمن في القرن العشرين، سواء المرتبطة بالاتجاه الدينيّ -السلفيّ تحديدًا- أم القوميّ، أم العالميّ.
لم يكن البَردُّونيّ مجرد شاعر كبير، وأحد عمالقة الشعر العمودي في القرن العشرين، لكنه كان باحثًا ومتأملًا في الثقافة الشعبية اليمنية، واستقراء الظواهر الاجتماعية والسياسية وتحليلها
ومن جانب آخر كان، حتى الأيام الأخيرة من حياته، ينشر يوميات، في صحيفة 26 سبتمبر، أقرب إلى أن تكون سيرة ذاتية اجتماعية سياسية، كان يوقّعها تحت اسم "المواطن عبدالله البَردُّونيّ"، وقد ابتدأ السيرة من الأربعينيات من القرن العشرين في ظلّ حكم الإمامة، ثم انتقل إلى الخمسينيات من القرن العشرين، ومن خلال السياق من المرجّح أنه كانت ستمتد إلى بداية الستينيات، وبهذا يكون البَردُّونيّ قد غطّى الفترة السابقة لكتاب (اليمن الجمهوري)، وهذا يقودنا إلى استنتاج أن البَردُّونيّ سيقوم بمواصلة الكتابة وتغطية الفترة اللاحقة، التي ستكون عن قيام الوحدة والأحداث التي تبعتها. خصوصًا أنّ للبردّوني موقفًا مميّزًا تجاه الوحدة، حيث كان يرى أنه تم الاستعجال بإقامة الوحدة في العام 1990، وأن الظروف لم تكن متهيئة بشكل جيد لها، وربما كان يقصد الظروف الخاصة بالنخبة الحاكمة في الشمال والجنوب، وأن قرار الوحدة كان هروبًا للأمام، لطرفي الوحدة في صنعاء وعدن، وكلاهما كان يأمل في أن يعيّنه الطرف الآخر في صراعه مع القوى المنافسة له في منطقته، وكذلك الأمل في قدرة كليهما على ابتلاع الآخر بعد ذلك.
لذلك كان البَردُّونيّ يرى ضرورة التهيئة للوحدة أولًا بين النخب الحاكمة في الشمال والجنوب، والتدرّج بها وصولًا للاندماج الكامل. وبهذا تكون الروايتان عن وجود الكتاب من عدمه كلتاهما صحيحة. فربما كان البَردُّونيّ يؤجّل الكتابة عن "الجمهورية اليمنية" حتى ينتهي من كتابة مخطوطاته الأخرى، أو بسبب قصر الفترة الزمنية التي مضت على نشوء الجمهورية اليمنية (تسع سنوات قبل وفاته)، وكان ينتظر مرور فترة أطول وظهور أحداث جديدة. وربما شرع فعلًا في الكتابة، وانتهى منها فعلًا. والاحتمالُ الآخر، أنه لم يفكر في الكتابة عن تلك الفترة، صحيحٌ أيضًا، ما دام لم يظهر شيء من تلك الكتابات. لكن في فوضى المخطوطات المختفية، لا يمكن الجزم بشيء بشكل نهائي.
وتتراصّ الأسماء التي تحتفظ بتلك المخطوطات المخفية، وتتوزع الأسماء بين أقارب البَردُّونيّ، وبين الذين كان البَردُّونيّ يستأمنهم ويُملي عليهم أعماله لتدوينها على الأوراق.
ويزداد مشهد الاحتفائية سخونةً بنشر قصيدة أو قصائد تحت عنوان "القصائد الجديدة"، التي لم تُنشر للبردّوني، ويقوم بعض العابثين أيضًا باستنساخ قصائد وإلصاقها بالبَردُّونيّ، وبعد فترة يقومون بالكشف والإعلان عن أنها من أعمالهم.
أما جوهرة تلك الاحتفائيات السنوية هو الإعلان عن تحويل بيت البَردُّونيّ إلى متحف، ويبدأ المشهد بتمسك ورثة البَردُّونيّ بمبلغ - يرتفع كل عام - مقابل تحويل البيت إلى متحف. ثم يأتي تصريح لوزير الثقافة في حكومة صنعاء، بـ"بذل كافة الجهود"، وتوفير الإمكانات المالية لإنشاء متحف البَردُّونيّ، وصولًا إلى أخبار عن قرب وضع اللمسات الأخيرة للاتفاق بشأن "متحف البَردُّونيّ"، ونشر مخطوطات الدواوين الجاهزة للنشر. ومع انتهاء فعاليات الاحتفائيات، يعود كل شيء إلى ما كان عليه؛ مفتاح البيت، صندوق المخطوطات، وحلم المتحف، إلى داخل التابوت، ليُفتح مع بداية التجهيز لفعالية العام القادم.
لكن هذا العام يبدو مشهد احتفائية البَردُّونيّ أكثر إثارة ومرارة أيضًا؛ فجوهرة الاحتفائية (البيت) تحوّلت إلى كومة من التراب، ولم يعد بالإمكان استحضار مشهد المتحف. كذلك سيكون من الصعب التصديق أنه سيتم إعادة بناء البيت بشكله السابق ومن ثم تحويله إلى متحف، على الأقل في احتفالية هذا العام، لكون الجثة لا تزال طرية. كما أن تهدُّم البيت وضع كثيرًا من التراب على محتوياته، والحديث عن مخطوطات وإخراجها للنشر من بين تلك الأنقاض، سيكون بمثابة كذبة لا يمكن إلا الضحك على من سيُطلقها، على الأقل، حتى تأخذ الريح الكثير من تراب بيت البَردُّونيّ المتهدِّم.
لكن مع كلّ هذه اللزوجة والضحالة، يظل البَردُّونيّ وأعماله أكبر من كل محاولات الانتفاع والجحود والنسيان. فالبَردُّونيّ لم يكن مجرد شاعر كبير، وأحد عمالقة الشعر العمودي في القرن العشرين، لكنه كان باحثًا ومتأمّلًا في الثقافة الشعبية اليمنية، وكذلك في استقراء الظواهر الاجتماعية والسياسية اليمنية، وتحليلها وصولًا إلى تحديد موطن الضعف والقوة، وأسباب النجاح والفشل، ما يجعله من المفكرين القلائل، الذين يجمعون بين البحث والتقصّي والتحليل، وبين الاستقراء والخروج بنتائج يُعتد بها. وتظل قصائده تقرأ ويعاد قراءتها مع كل حدث يمر بهذه الأرض التي أنجبت البَردُّونيّ.