دخل الشاعر جازم سيف من بوابة الشعر عبر ديوانه الأول "أخطاء تمتدحني" الذي أُصدر عام 2019، وذلك بعد سنوات من المحارق والمعارك الفكرية الكلامية، ومن ثم وجد نفسه مشدودًا إلى هذا الجنس الإبداعي من دون قصد. للشعر بريق لا يمكن بأي حال من الأحوال التواري عن إشراقاته، ولعل أهم ما يميز تجربة الشاعر أنه قضى سنوات طويلة في مصيدة الأيديولوجيا التي دخلها من بوابة عقود فلسفية، خالطها اهتمام مشهود في الكتابة للطفولة والفكر التربوي مجال وظيفته؛ بالإضافة إلى الشأن الموغل في الدراسات الاجتماعية مجال دراسته.
لكن الشعر وعلى حين غرة، هيمن على لغته، فهام في فضاءاتها اللامحدودة؛ منسجمًا مع إسهاماته الكتابية والنقدية، وحين انمحت الحدود الفاصلة بين كل هذه الاهتمامات، خرج الشاعر من أمشاج كل هذا التشابك، ليعلن أحقيته بهذا المكون الثقافي.
إن ارتياد الشاعر لهذا الحقل الجديد لم يكن سوى فتحًا جديدًا مكّنه من تجديد حياته الفكرية والإبداعية؛ خاصة أنه لم يذهب بعيدًا؛ فالشعر بين بنات أفكاره مطواعًا؛ يختزل، بالإضافة إلى تجربته في الحياة، ثقافته الفكرية المتينة. وقد حدث معي شخصيًّا أن فرحت فرحًا غير معلن، حين انضم شاعرنا إلى قافلة الشعراء؛ ومرد ذلك يعود إلى إدراكي التام بأن لغتنا الشعرية سيتم تطعيمها بطاقة جديدة ومختلفة، لها نسقها الخاص ومشربها الخاص وذائقتها الفريدة التي لم نعهدها من قبل... وقد كان ذلك في هذا ديوان "ما الحرب؟".
يندرج هذا اللون الشعري ضمن قصيدة النثر، وقصيدة النثر لم تصل بعد إلى غايتها عربيًّا ـ كما يبدو لي -رغم كل المداد الذي سال وكل الشهداء الذين سقطوا في ساحة المعركة، مثل: محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وعبداللطيف الربيع، ونبيل السروري، ومختار الضبيري، والدبعي، والزكري؛ لأن قصيدة النثر بلغت فيها المغامرة حدَّ أن خرجت كليًّا من عباءة النص الشعري العربي، وهي مجازفة قُوبلت بهجوم شرس قابله إصرار غير معهود وسعي حثيث في البحث عن كينونة جديدة لشعر جديد.
في اليمن خرجت قصيدة النثر بشكل مبكر من معطف الشعر العمودي وشعر التفعيلة، فشكل محمد المساح مثلًا، في سبعينات القرن العشرين المنصرم، سبقًا إبداعيًّا في اكتشاف هذا الفضاء، وكذلك حسن اللوزي وعبدالكريم الرازحي، وهكذا تلاحقت الأجيال إلى أن وصلتنا أصوات متعددة، كل صوت ينفرد بنغمته التلقائية وإيقاعه الحميم. ومن هذه التجارب ديوان: "ما الحرب؟" مجال القراءة. إصدار مركز "إرم" للتنمية الثقافية والدراسات التاريخية 2020.
تقوم ثيمة الديوان على سؤالين أحدهما ظاهر وهو: ما الحرب؟ وثانيهما خفيّ وهو: ما السلم؟ كل حرب هي في حقيقة الأمر مرتبطة بالسلم. خارج الحرب داخل السلام يمكننا أن نفعل شيئًا. ثمة سمات عامة كثيرة اشتغل عليها الشاعر منها الاستعارة والمفارقة والتكثيف اللغوي السوسيولوجي. وسوف تعتمد هذه القراءة على كتاب "الاستعارة الحية" لبول ريكور، بالإضافة الى الاستهداء بمعنى المفارقة والتكثيف اللغوي عند باشلار، والإزاحة.
في العتبة
«ما الحرب..؟» "ما" استفهامية يُسأل بها لغير العاقل، أو للشيء الذي لا يمكن عقله، ولا يمكن تصور حدوثه كما هو السياق في العنونة هنا؛ فإذا قلنا: ما هي الحرب؟ بدا الأمر وكأننا نسأل عن شيء عاقل، والحرب مجنونة؛ لذا فالصواب أن نقول: ما الحرب؟ أما ما «هي»، فتفهم حسب موقعها في الجملة كما «هي» في القرآن الكريم. كل سؤال تهكمي عن ماهية الحرب، يحمل في أحشائه بعدًا سلميًّا وبديلًا إنسانيًّا، ويتجلى ذلك في هذه المفارقة التي وضعها الشاعر «ما الحرب؟»
«أهي زوجة صماء
تلاحظ نساء الحي يفرشن الملاءات
ويجمعن أشياءهن المهمة
هربًا من الحرب
وهي تفرش ملاءاتها وتدعو زوجها للمطارحة» ص30
إنها لحظة مفارقة عميقة أوصلتنا إلى قفلة غير متوقعة. تكرار السؤال في ديوان "ما الحرب"؟ حلّ محل العتبات الداخلية. في العادة يعمل التكرار على إضعاف النصوص، ولكن انتقاءه هنا كتقنية، ساعد على الصعود والتنامي والحركة؛ وساعد الجملة الشعرية على البوح والإفضاء.
يقول باولو كويلو: ‹في اللحظة التي عثرت فيها على جميع الأجوبة، كانت الأسئلة كلها قد تغيرت»؛ فما البال إذا كانت هذه الأسئلة تتعلق في حالة حرب مرضية ومزمنة، وهو ما ذهب إليه الشاعر حين فسّر عمله على غلاف الديوان موجزًا منهجه في الكتابة: بالحفر... ما الحفر إذا؟ في واحدة من مفاتيح الديوان هو "نص حفري" يدفن بذور الرؤى والأفكار، منتظرًا أن تصبح قمحًا تأكله العصافير الجائعة.
لذا فإن الشاعر هنا، لمن يقرأ، سيجد أنه يبحث عن السلم من وراء هذه المفردة. الشاعر وهو يلقي بهذا السؤال كالصرخة، يتشهى سلمًا وسلامًا ومحبة غامرة تملأ الكون. لا يريد إجابة بالمطلق، وكأنه قد قرأ أحلام مستغانمي، وهي تقول في رواية ذاكرة الجسد: «الأجوبة عمياء، الأسئلة وحدها ترى»، يقترب الشاعر في تساؤله العميق والوجودي من أهم شيء التصق بحياته: اسمه واسم أسرته وعائلته وعشيرته الذين يشبهوننا جميعًا:
«ما الحرب؟
أهي مقاربة على بابي تقول : اسم جدي قائد
وأمي قلعة/ وأبي سيف/ وأخي مهند/ وأنا جازم» ص38
هذا السؤال الذي ضاق حتى أصبح شخصًا، واتسع حتى أصبح حربًا وديونًا، جاء كرد توضيحي للحرب التي استعصت على التوقف. داخل زفرة واحدة لا يفصلها عنوانٌ جانبي؛ أو موضوعٌ مختلفٌ، ولا تثنيه جملة اعتراضية؛ إنه سؤال طويل ومستمر؛ يريد بالسؤال أن يشغل الحرب ويربك زئيرها، كأنه ينسجم مع رأي جان جاك روسو الذي رأى بأن المجتمع هو من يُسهم في خلق شخصيات تدعو للحرب بفعل التشوه الذي يرافق حياتها.
حين يكون سؤال ما الحرب؟ عنوانًا لديوان شعري؛ فإن الأمر مختلف تمامًا عما يذهب إليه محرك البحث. ما الحرب؟ سؤال متجاوز دائمًا؛ الإشارة الرمزية في ملامحه تذهب إلى خلخلة البنى المعرفية، واللغوية والفلسفية
ما الحرب أم ما السلم؟
توماس هوبز شهد الكثير من الحروب، ولديه نماذج مختلفة عن أسبابها وتداعياتها، لكنه توصل إلى نتيجتين: الأولى، إذا كان القائد يستطيع تحقيق السلم والأمن والاستقرار لمواطنيه، فليأخذ ما يريد من بيت المال، والثانية، أن الحرب هي في الحقيقة تنتمي إلى الطبيعة وأصل البشر، وهذا هو أيضًا من قبل، رأي ابن خلدون. يبقى هناك من لا يعرف ما الحرب؟ ولماذا تحدث؟ لأنها ليست من ثقافته؛ سؤال ما الحرب؟ ليس سؤالًا فلسفيًّا قابلًا للنقاش والكتابة البحثية؛ بل هو السؤال الذي يندرج ضمن ما هو حواري، وشعوري فاضح ومفتوح وليس مغلقًا. لا نريد إجابة؛ لأن الإجابة متروكة لفهم علماء التاريخ والفلسفة ومفككي الجيوش ومديريّ الأزمات، أولئك الذين لن يفلحوا أبدًا في طرح مثل هذا السؤل؛ أو القصد من دلالته. حين يكون سؤال ما الحرب؟ عنوانًا لديوان شعري؛ فإن الأمر مختلف تمامًا عما يذهب إليه محرك البحث. ما الحرب؟ سؤال متجاوز دائمًا؛ الإشارة الرمزية في ملامحه تذهب إلى خلخلة البنى المعرفية، واللغوية والفلسفية؛ وحتى الشعرية أيضًا. إنه فعل تقويضي على صيغة بناء يتلاءم مع البحث عن هوية وكينونة للإنسان المقهور حقًّا، والمنذور في صحراء مؤامرة مترامية الأطراف.
ثمة صيغ ومهارات فنّية أتقنها النص لتلائم ما يحدث؛ فبالإضافة إلى ما ذكرت، هناك الصور التي سمّاها ميشيل لوغيرن "الصور المواكبة"، وهي الصور التي عمقت رؤى الديوان، وأثبتت حضوره المحلي الذي لا يعني سوى الإنسانية نفسها، ونجد ذلك في الاستشهادات والهوامش والنظريات التي يوردها الشاعر؛ لتشكل بعض البؤر المنفلتة في النص المدين لفعل الحرب الهاتك لمعنى الحياة. "الصور المواكبة" تمثلت في قصص حقيقية يرويها المبدع هنا شعريًّا كعملية إزاحة يتم تمريرها دون إحالات أو تواريخ أو هوامش؛ لكنها تستخدم هذه التقنية التي "يبدو فيها التصوير في الظاهر ليس ذا صلة، ولكنه يحمل كثافة بصرية وشحنة عاطفية"، هناك تقنية التمثيل التي جاء بها الشاعر ليضرب مثلًا، وهناك وقائع ومجازر حربية سمع بها العالم وتم إيرادها هنا كتوثيق شعري، ومن ذلك قوله:
"ما الحرب؟
أهي فستان فرح يفرد ذراعيه ويسلّم على المعزّين"
كم من فتاة انتظرت مجيء حبيبها لإقامة فرح،
ولكنه لم يعد". ص6
"ما الحرب؟
أهي قذائف هاون ذهبت للتسكع في مدرسة للبنات"! ص14.
وقد حدث ذلك في عدة مدارس يمنية. ومن ذلك أيضًا:
"ما الحرب؟
أهي مالك مطعم يذبح الجراء من أجل زبائنه المحترمين
أم راتب يُستخدم في التكتيكات العسكرية..."!
تماثلات كثيرة في النص تكاد تقول خذوني، خلف كل سطر، ومن ذلك قصة الطفلة "ملاك" ابنة الشاعر التي أوردها على النحو التالي:
«ما الحرب؟
أهي طائرة حربية لم تعد إلى مدرجها اليوم
لأن الطفلة ملاك
أخرجت من درج خيالها مظلّة
وأجبرت قائدها على الهبوط
ثم أتت بخيط ربطته إلى الكابينة
وحولت الطائرة الحربية إلى طائرة ورقية» ص37.
سؤال "ما الحرب؟" لا يترجى أجوبة، بل هو سؤال مفتوح على جرح وطن ما يزال ينزف. سؤال يبدو كل لحظة وكأنه خرج للتو من بين الأنقاض، شواء ترتفع رائحته من بين ضروس ماكنة تعمل دون توقف منذ ستة أعوام، ولا أحد يدري كم تريد من السنوات العجاف كعمر افتراضي. سؤال يضع الكثير من الدلالات والمقاصد، تهكمي أحيانًا واستفزازي لآخرين، لكنه ينسجم تمامًا مع قضية مؤرقة ومعاصرة نتقلب بين عجلاتها بوفرة. سؤال يمثل الثيمة التي بنى قصتها الديوان، ثمة كمية مهولة من القتل المجاني والخذلان والبؤس والخيانة. حديث مختلف عن الإنسان المقهور، وهو في حالة ضعف ويدري بذلك، لكنه يكابر أحيانًا، وأحيانًا لا يمتلك أدوات البوح، مع أنه يدرك تمامًا أن أي حرب هي في الأصل، حالة خسران الإنسان في لحظات جبنه وخوفه وهلعه.
"ما الحرب؟" لعلها لحظة لاوعي واغتراب داخلي وخارجي، قصف تنكشف فيه عورة الإنسان الذي تخلى فيه عن واجبه وإنسانيته، وراح يركض في الدروب الوعرة باحثًا عن اللاشيء.
التكثيف اللغوي
يقول جورج زينات، في مقدمة كتاب "الاستعارة الحية" لريكور: "حتى الحياة تفقد الكثير من ألم وقعها حين تصاغ بعمل فني مبتكر».
اللغة في الديوان أهم سمة فيه؛ فهي لغة مواربة لعوبة مخاتلة، تبدي شيئًا، وتضمر تشظيًّا، تصوِّر ولكنها لا تعكس الألوان التي يراها القارئ العادي؛ ألوانها ليست ما نراه في الصور العادية، فالألوان فيها مزدوجة قد تظفر بك فتصيبك بالعمى أحيانًا.
وما نستطيع رصده هنا على سبيل الإشارة، أن الشاعر، مستخدمًا أدوات جديدة، استطاع الحفاظ على وحدة عضوية النص باستخدام معول الحفر "أم" (التي تفيد التعيين، تعيين شيء ما، كما لو أننا في حالة استقصاء، وتُسبَق "أم" إمّا بهمزة التعيين إذا طُلب تعيين أحد الأمرين، وإمّا أن تُسبَق بهمزة التسوية التي تُسبَق بكلمة سواء، مثل قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
عمل حرف العطف "أم" على تحشيد الصور؛ ذلك الحرف الذي استخدم كما لو أنه إبرة خيّاط يخيط الصور والجمل والمعاني المكثفة، ليصبّها في قالب شكلي جديد. حشد الشاعر في كل مفاصل الديوان كمية كبيرة من المشاهد الحربية والمفاهيم السوداء، التي استجدت على أرض الواقع لتعميق الوعي بالحدث. الشواهد متلاحقة على الأرض وهي كذلك في النص.
في الحرب يتم بيع وشراء الجيوش غير الوطنية، ويمكن التفاوض مع مؤخرة الجيش بالأموال، وهكذا تتضح الصورة في زمن الحرب التي تختلط فيها الأوراق.
يؤمن "باشلار" بمقولة "التخلص من المجاز"، وفي المقابل يعلي من أهمية الصورة الشعرية؛ "لأنها واهبة الوجود"، ومن هنا نجد انفتاح الديوان في جمله الشعرية على الصور اللغوية المكثفة غير المتوقعة على نحو قول الشاعر:
"ما الحرب؟
"تيتانيك" تجثو على جثث الصغار
لإنقاذ الكبار؟
أم عشر ورديات:
تفرغ الرشاشات من عملها
تليها المجنزرة
المجنزرة تؤدي مهامها تعقبها المدرعات
المدرعات تنجز فروضها
تحضر الطائرات..." ص15
..اشتغال ينسجم مع رؤية باشلار حول الوعي في تجميع الصورة على النحو الذي يجذرها في نفوسنا.
يمجد باشلار الصورة ويستدعي المجاز ليوبخه على اعتبار أنه تعبيرٌ زائلٌ، أمّا الصورة فإنها أكثر من مجرد عابرة للوعي، لوقع انبثاقها فعل كبير، ونجد ذلك في الصور المحكمة التي يسوقها الشاعر تباعًا:
ما الحرب؟
أهي جبل أخفق في تحقيق مهامه؟...
وحسب باشلار، فإن الصورة لا بد أن تكون ممتدة ووقعها مستمرٌ، وهنا نجد الشاعر يكمل سطره الشعري السابق بقوله:
«جبل أخفق في تحقيق مهامه،
فجمع كفوف التلال الملتصقة به
وضرب أخماسًا في أسداس» ص16.
وإذا كان "باشلار" نقل صورة جامدة للمجاز؛ فهذا لا يعني قصور المجاز عن أداء رسالته، وإنما يعني أن باشلار عبّر عن منهجه.
وفي حديثه عن التجاوز في الصورة الشعرية، نجده يعكس عمقًا واضحًا لتحفيز خيال الشاعر الذي ينافس الاختراعات الجديدة في التصوير الرقمي؛ حيث يذهب الشاعر إلى تصوير مفاصل غير مرئية:
«ما الحرب؟
أهي طقس ميثولوجي لإطلاق أجنة الحوامل؟
أم حوار يعاني من الإمساك
أم عطسة تتعرض للقمع؟
أم قلم اصفرّ من الفجيعة...
أم برج مطار لم يعد يلتفت يمنة أو يسرة» ص8.
وهكذا يمضي الشاعر مع باشلار في مفهومه للصورة الشعرية؛ حيث يرى أن المبدع لا يكتفي في الوعي بالعالم، وإنما إعادة إبداعه.
«ما الحرب يا إلهي؟
أهي مؤخرة متواطئة؟
أم مناضل سلمي يخلع رداء المهاتما غاندي ويرتدي خوذة هولاكو...» ص 10.
في الحرب يتم بيع وشراء الجيوش غير الوطنية، ويمكن التفاوض مع مؤخرة الجيش بالأموال، وهكذا تتضح الصورة في زمن الحرب التي تختلط فيها الأوراق.
الاستعارة
تبحث الاستعارة في الديوان عن تحقيق الثيمة الرئيسة، ألا وهي السلام؛ أو ما يمكن أن نطلق عليه: الأثر الكامل. فالدراسات السوسيولوجية للأدب في المرحلة الراهنة تنطلق من البحث في الدلالات الموضوعية للأثر، بواسطة تحليل النص، وذلك عبر مفهوم "لوسيان جولدمان"، المهتم بالأثر وعلاقته برؤية العالم، بمعنى الانتقال من العالم الصغير قبل صهر المفردات والجمل ثم تحويله إلى نص؛ ما يعني أخذه من الحيز الضيق إلى الحيز العام، ومن الهامشي واليومي والعادي إلى الحدث الإبداعي البارز، ما كان حدثًا اعتياديًّا لمتابعيّ نشرة الأخبار أينما كانوا، ها هو الآن حدث مؤثر:
«ما الحرب؟
أهي قذائف هاون ذهبت للتسكع في مدرسة للبنات
ارتعشت السلالم
الحجرات جرحت... الكراسات ارتجفت من الفجيعة» ص14.
وهنا ما نطلق عليه مبدأ الامتلاء في تصوير الحدث؛ فبدلًا من أن يقول الشاعر إن "الهاون" ذهبت للانفجار ويسجل خبرًا صحفيًّا؛ قال: "ذهبت للتسكع"، استعار لها هذه المفردة التهكمية لكي يلفت نظر المتلقي، فيدل ذلك على مدى قبح الحدث. سؤال "ما الحرب؟" ممتلئ بالدلالة المعرفية والمحتوى الاستعاري العميق. سؤال سيبقى إلى الأبد دون إجابة، لكن الدلالة واضحة، والأثر مشهود بفضل الصورة الاستعارية الكلية، وهو ما يعززه وقع التأثير لدى القارئ. إن فكرة الاستعارة، كما يرى ريكور، ليست تشبيهاً مكثّفاً ومحذوفاً ومختصر؛ وإنما معادلة كلية من التأمل التام، وهو ما رأيناه في المقطع السابق. وإذا كان قوام الحرب ثلاثة أشياء جميعها الحرب، كما يقول أحد الفلاسفة، فإن هذا ما يستعيره الشاعر كبنية مكتملة في هذا المقطع:
«ما الحرب؟
أهي متلازمة محاسبية تقول:
انحط نحن ندفع لك..
اسقط نحن ندفع لك
اهبط نحن ندفع لك»!21
الاستعارة وضفت في الديوان بقوة؛ لأنها تريد أن تعطي الحقيقة، ليس كما هي في المتداول اليومي الاعتيادي، ولكن كما هي مفردات مشحونة بالدلالة والإدانة والتأثير؛ لذلك يقول محمد والي في مقدمة ترجمته العربية لكتاب "الاستعارة الحية": «الاستعارة هي الأداة الذهنية التي لا غنى عنها إنها شكل من التفكير العلمي»، ومن الملاحظ أن التصوير الاستعاري بلغ ذروته في استقدام الصور المتوازنة بين كفتيّ السطور والمقاطع الشعرية، الأمر الذي أعطى للعمل دينامية وطاقة متجددة، حافظت على مستويات الانتقال بواسطة حركية الكتل داخل النص، تلك التي شكلت التناغم الاستعاري الراقص، إن جاز التعبير.
«ما الحرب؟
أهي ترويكة مكونة من ظفر مدبب» ص7.
في الهامش توضيح اضطراري، فـ"الترويكة" هي نظام قائم على الدفع الرباعي...، وهكذا في معظم المقاطع يحضر الهامش ليشرح الاستعارة. لا بد وأنت تقرأ الصفحات أن تتزود بعدسة القارئ الفاحص لترى العالم وهو في مشهد هوليودي؛
«ما الحرب؟
فنان تجريبي خلع شعر الفتاة وثبته
على رأس الطفلة التي رسمتها في الكراسة
كي تبدو أكثر واقعية» ص22.
أستطيع أن أقول هنا أن لغة الديوان منفلتة كما هي رؤى الشاعر في الواقع مغمورة بالدهشة.