يقول الدكتور عبدالله العروي: "قبل التفكير في قضايا تقنية روائية خالصة، خلق الشخصيات، بناء العقدة، وتيرة السرد، طبيعة السرد، وفي علاقات هذه العناصر بالدينامية الاجتماعية، كان الأجدى أن نطرح السؤال ما هو الشيء الروائي في مجتمعاتنا؟"
إن الرواية النسوية ما زالت في طور بداياتها، رغم ظهور أسماء روائيات يمنيات في الداخل اليمني والخارج العربي، وهذا لا يعني بالتأكيد أن التجربة ليست ناضجة بمقاييسها الفنية ومقاييس التجربة، لكن نستطيع أن نقول أنها متعثرة على مستوى الاختيار واللغة، مع التأكيد أن هناك تجارب استطاعت أن تتجاوز الآفاق وأن تحقق لنفسها بعض الحضور العربي.
تعد الرواية في اليمن من الملامح الحديثة للأدب، وخصوصاً كتابة الرواية النسوية، مع أن أول رواية ظهرت في اليمن كانت رواية "فتاة قاروت"، وقد ظهرت في ثلاثينات القرن العشرين المنصرم، بينما اعتبرها بعض المختصين قصة طويلة. إلا أن المرأة لم تقتحم مجال الكتابة الرواية إلا مؤخراً، وظهرت العديد من التجارب النسوية في الكتابة الروائية، بعكس الكتابة القصصية التي ظهرت مبكراً في جنوب اليمن وشماله.
إن الرواية النسوية ما زالت في مبتدأ الطريق وفي معظمها تعاني من القصور في بنية الكتابة السردية واللغة، ويظهر عليها قلة النضج في اختيار موضوع الرواية وبناء شخصياتها الروائية، ونستطيع القول إنها ما زالت تحوم حول السطح، وأحياناً تقوم بملامسته دون الدخول في عمق المبنى والمعنى، مع وجود استثناءات بالطبع.
في هذه الإطلالة القصيرة، سأتناول روايتين للكاتبة اليمنية سيرين حسن؛ "في تابوت امرأة" و"طقوس الشرنقة"، وسأحاول أن أستعرض الروايتين من خلال قراءتي الشخصية فقط.
علينا في البداية أن نشيد بالكاتبة من ناحية اختيار شخصيتي الروايتين، وهما الشخصيتان اللتان لم يتطرق لها أي روائي أو روائية في اليمن من قبل، حسب علمي. فبطلة رواية "في تابوت امرأة" كانت ضحية الأب وزنا المحارم، وضحية المجتمع الذي يقف مع الأب دون أن يتوقف لحظة للتفكير في جرمه، بل حتى مؤسسات الدولة الفاسدة، تقف معه دون أن تكلف نفسها السؤال والتحقيق.
أحداث الرواية تجري بسرعة مذهلة دون أن تجعل القارئ يلتقط أنفاسه وأن يفكر في أحداث الرواية، وهو ما يجعله يلهث خلف الأحداث، بحيث لا تترك له فرصة ليستجمع أفكاره وأن يعيد تقييم موقفه وموقف المجتمع، ليجد القارئ نفسه قد وصل إلى النهاية دون أن يكون قد كوّن فكرة حقيقية حول شخصية الرواية. فالكاتبة لم تستطع أن تبني شخصية الرواية بناءً تدريجياً وارتقاءً نفسياً يتناسب مع الحدث؛ "الاعتداء عليها من قبل والدها وهو في حالة سكر"، حتى تستطيع أن توصل مشاعر بطلة الرواية وأن تجعل القارئ يتعاطف معها أو أن يحملها مسئولية ما حصل لها. فهي تعاني من صراع حاد غير مفهوم لها. ولم تستطع أن تستوعب سلبية المجتمع المحيط بها. وعلى الرغم من الأحداث المتسارعة في حياة البطلة، إلا أنها حاولت أن تعمل جاهدة على تغيير واقعها، وقامت بتغيير اسمها أكثر من مرة، في محاولة لخلق واقع بديل، وأن تتصالح مع ما حصل لها من ظلم، إلا أن الواقع ظل يلاحقها بمصائبه التي لا تنتهي.
أشارت الكاتبة لشبكات الدعارة والتي تتم إدارتها من داخل السجن، وكيف يتم استدراج السجينات الشابات بعد أن يتخلى عنهن أهلهن بسبب تعرضهن للسجن. فالمجتمع لا يرحم المرأة لو دخلت السجن لأي سببٍ كان، فما بالك لو تم ذلك بتهمة تمس الشرف، حتى لو كانت ملفقة، وهو ما لا يتسامح معه المجتمع. كما أشارت كذلك إلى استغلال الجنود للسجينات جنسياً، في إشارة لما حدث في نهاية تسعينات القرن العشرين الماضي، عندما برزت فضيحة شبكات دعارة برعاية شخصيات أمنية، وهي الفضيحة التي تزامنت مع قضية سفاح كلية الطب في جامعة صنعاء، وقد تم وأد القضية في وقتها.
تقف الكاتبة في صف بطلات رواياتها وتحاول أن تلفت نظر القارئ لضعف المرأة وتنتقد المجتمع العصبوي الذكوري، الذي يبيح لنفسه ويجيز كل تصرفاته سواء الفردية أو الجمعية
لم تقدم لنا الكاتبة وصفاً لشخصية البطلة، واكتفت بإيراد بعض الشذرات عنها من خلال سير الأحداث، وهو ما يجعل القارئ في حيرة بشأن كيفية التعرف على البطلة والاقتراب منها. في الصفحة رقم (91) ينقطع سير الأحداث في نقلة مفاجئة للبطلة دون تبرير أو تمهيد، وهو ما يصيب القارئ بالحيرة والدهشة. القطع المفاجئ لسير الأحداث يجعل القارئ يعود أكثر من مرة إلى الصفحة السابقة، ليحاول أن يجد الترابط المفقود. ومع أن الكاتبة تعود بالفلاش باك، إلا أن القارئ يظل تائهاً.
وعلى الرغم من أن البطلة استسلمت في النهاية وقبلت بشروط المجتمع، حتى عندما هاجرت إلى خارج اليمن، ظلت مستسلمة لشروط المجتمع، رغم اختلاف المجتمعين العربي والغربي.
كانت الكاتبة تستطيع أن تغني روايتها بأحداث، وأن تشتغل عليها أكثر بحكم أن موضوع الرواية لم يتم التطرق له من قبل. فقد أخذت قصب السبق، إلا أنها من وجهة نظري، استعجلت في إخراج الرواية إلى النور. وظلت الكاتبة تستعجل في إنهاء دور بعض شخصيات الرواية حتى تستطيع أن تظل مع البطلة، وألا تتشعب أحداث الرواية، ما جعل الحكاية بسيطة منذ بدايتها لنهايتها.
في رواية "طقوس الشرنقة"، استطاعت الكاتبة أن توظف الصدمة التي حصلت لبطلة الرواية في وفاة والدتها، وتأن ستثمر القهر الاجتماعي عندما تفقد البطلة والدتها فتدخل في أزمة نفسية لا تستطيع أن تتجاوزها، لتوصل رسالتها التي أرادتها للقارئ. وهنا تبرز قدرة الكاتبة، للمرة الثانية، في حسن اختيارها لموضوع الرواية أو أحداثها.
تختار الكاتبة شخصية بطلة الرواية بتمعن، فلم يسبقها أحد في تناول مشاكل المرأة واضطهادها في المجتمع اليمني، من الزوايا التي اختارتها. يتعاطف القارئ مع البطلة، لكن التعاطف لا يكفي؛ فالقارئ يحلّل ويقارن بالواقع، وطوال ما هو يقرأ، يذهب ذهنه إلى الواقع للبحث عن نموذج حقيقي قرأ عنه أو حتى سمع عنه، يبحث من خلال قراءته عن معلومات تساعده على فهم شخصية البطلة، ولا يكتفي بخيال الكاتبة الذي لا يساعده في إعادة تمثيل الرواية داخل ذهنه، وهو ما يجعله مشتتاً ومتأزماً في فهم البطلة.
تنطلق الرواية من واقع اجتماعي تراه سلبياً، وتحاول أن تعبر عنه، لتصل إلى خيال مطلق يعارض ما تريده الكاتبة من القارئ.
تتشارك الروايتان في عدة نقاط؛ الأولى جعْل الجسد محور الأحداث. فجسد "سارة" "في تابوت امرأة"، جعلها مطمع الجميع، ابتداء من الأب وانتهاء بالعشاق الذين تتعرف عليهم من خلال شبكة الدعارة أو من خلال المراقص التي ترتادها. وبالمثل، جسد "ريتاج" الذي أباحته لوالدها حتى لا يتخلى عنها بعد أن فقدت والدتها، فهي في قرارة نفسها تتحمل سبب ونتائج موت والدتها، ولا تريد أن تخسر والدها كذلك، ولهذا نجدها تحارب زوجته الجديدة حتى تستطيع أن ترميها بتهمة الشرف كذلك!
عاشت "ريتاج" حالة من الصراع الذاتي والنفسي بين أفكار عدة، واستطاعت في النهاية أن تختار الإجابات التي تريدها وتتوافق مع ما يعتمل من اختلال نفسي داخلها، فنجدها تبرر لنفسها كل تصرفاتها. والنقطة الثانية، هي اشتراك الأب في عمق الروايتين؛ فالأب في الرواية الأولى جاني وفي الرواية الثانية مجني عليه، مع تبادل أماكن بطلتي الروايتين؛ في الأولى مجني عليها، وفي الثانية جانية. ووجود الأخ في الرواية الأولى جانٍ مع استعداده للقتل، بينما في الرواية الثانية مجني عليه بتخطيط الأخت. ولا أدري هل ذلك من المصادفات أم مخطط له مسبقاً من الكاتبة.
تقف الكاتبة في صف بطلات رواياتها وتحاول أن تلفت نظر القارئ لضعف المرأة وتنتقد المجتمع العصبوي الذكوري، الذي يبيح لنفسه ويجيز كل تصرفاته سواء الفردية أو الجمعية، من خلال اتفاق المجتمع مع التصرفات الخاطئة، بل وتجاوزها بتحميل المرأة الخطأ أو الأخطاء التي يتسبب بها الرجل نفسه.