في كتابه المنوّه به «دراسات في الحضارة»، يواصل الدكتور لويس عوض مناقشة قضية القومية. يقف مناقشاً الدكتور محمد إسماعيل علي، أستاذ القانون الدولي. فلويس عوض يرى في ما عرضه محمد إسماعيل، تحليلاً موضوعياً لقضية القومية العربية، ومحاولة جادة للمناقشة على أساس علمي. ويرى أن خلافهما يدور من خلال التعريفات أو معاني الألفاظ: "القومية"، "العرقية"، "العنصرية"، "الثقافة"، "الحضارة"، "الوطن"، و"الجيوبوليتية". فكل منهما يستخدم هذه المصطلحات بمعنى مختلف.
يتفقان على عدم المقارنة بين القومية الآرية العرقية، ودعوة القومية العربية، وإن كان يرى لويس في القومية العربية بعض جوانب عرقية. يناقش رأي الدكتور إسماعيل: "ولقد حاولت أن أبحث عن تأصيل عرقي لدعوة القومية العربية التي بزغت في صورتها الحديثة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن، فلم أعثر على رأي له وزن علمي يؤصل فكرة العروبة تأصيلاً عرقياً أو جنسياً، بل على النقيض من ذلك تماماً؛ إذ يقوم المفهوم الأصيل للقومية العربية على الاشتراك في الإقليم، واللغة، والتاريخ المشترك، ولم يُطرح على الإطلاق مقولة وحدة العرق أو الجنس في أي مرحلة من مراحل الوحدة العرقية".
والأمر ليس كذلك على وجه الدقة -كرد الدكتور لويس-؛ فالبعث العربي يبدأ تاريخ المنطقة منذ الفتوحات، وكأنما تاريخ المنطقة كلها لم يبدأ إلا منذ بزوغ نجم العرب، وكأنما سومر، وبابل، وآشور في الطرف الشرقي منها، وفينيقيا وأرض كنعان، ومصر القديمة في وسطها، ومعين وقتبان وسبأ وذو ريدان في جنوبها، ونوميديا – ليبيا– وقرطاجنة وموريتانيا في غربها، لم يكن لها تاريخ قبل ذلك التاريخ بآلاف السنين. أليس من العرقية التركيز على بداية التاريخ القومي في المنطقة بانتفاضة العرب التاريخية في القرن السابع الميلادي وما بعده، مع إهدار تاريخ المنطقة وحضاراتها قبل ذلك؟
يضيف الدكتور، ومعه كل الحق: "وفي مكتبتي عشرات الكتب الحديثة بعضها عن التاريخ العربي، وبعضها عن الأدب العربي، وبعضها عن اللغة العربية، وضعها علماء أجلّاء تفيض بالنزعة العرقية في فهم معنى العروبة". ويشير إلى كتاب جواد علي، وكتاب الدكتور ناجي معروف الذي ينسب كل العلماء والمفكرين والفلاسفة من البلاد الأعجمية إلى العروبة، وهي نزعة موجودة لدى كثير من المؤرخين اليمنيين.
يشدد الدكتور عوض على الفصل بين القومية العربية والقومية المصرية، مؤكداً أن القومية العربية حدودها الجزيرة العربية، مندداً بخرافة عنصرَي الأمة المصرية، معتبراً أن الأمة المصرية ليس فيها إلا عنصر واحد، أياً يكن الدين.
يتوافق عوض مع إسماعيل على عدم اعتبار الدين مقوماً من مقومات الأمة، ويناقش تعريف الدكتور إسماعيل للقومية، القائم على الاشتراك في الإقليم، واللغة، والتاريخ المشترك، ويرى أنه بحاجة إلى تحليل؛ لأنه تعريف ناقص للقومية، ومن جهة أخرى تعريف مستقبلي يقوم على الأماني أكثر مما يقوم على الواقع. ويرفض بالمطلق تصنيف أقباط مصر كأقلية، مشيراً إلى اشتراك أقباط مصر ومسلميها في العديد من القيم والتقاليد والعادات، باستثناء القيم والتقاليد الدينية. وينفي مفهوم الاشتراك في الإقليم، مستبعداً تكرار تجربة محمد علي، وجمال عبدالناصر، كأنموذج للتوحيد. والواقع أن المستبعد هو توحيد القوة؛ فأنموذج محمد علي باشا أو الزعيم العربي جمال عبدالناصر، فشلا لعدة اعتبارات، أهمها: عدم مراعاة الاختلاف والتفاوت في الأمة، ثم تدخل الاستعمار متحالفاً مع الرجعيات العربية، ووجود إسرائيل في جسد الأمة. ويتركز نفي الدكتور لويس على فكرة الدولة الواحدة التي يستبعدها تماماً.
المأساة أن الفهم الرومانسي أو الشوفيني للقومية، كما عند الحكم دروزة أو البعث، لا يختلف كثيراً عن دعوات الإسلام السياسي الذي يرى أن الأمة العربية لا وجود لها قبل الإسلام، ويربط الأمة والقومية باللغة والجوانب الروحية فقط
ويتفق لويس وإسماعيل على أن شعار الوحدة لا يمكن أن يعمينا عن واقعنا المهلهل؛ لأن الوحدة بين الضعفاء ضعف فوق ضعف. ويدرس عميقاً وتاريخياً، مراحل تطور الوحدة في العديد من بلدان وشعوب العالم في أوروبا وغيرها.
يشترط الدكتور لويس للحديث عن الأمة العربية وعن الوطن العربي، زوال الحدود السياسية، وقيام الدولة المركزية الواحدة التي يحكمها دستور واحد وقوانين واحدة، وتكون صاحبة سيادة لا تتجزأ على كل أراضيها وكل مواطنيها؛ وهو ما ليس موجوداً في الحاضر.
وبقراءة هادئة ومتأنية، نلحظ أن الخلاف بين الدكتور وكل دعاة القومية والمتناقشين، وبالأخص الدكتور محمد إسماعيل، له علاقة بالأولويات، وبفهم معاني ودلالات المصطلحات. فالدكتور لويس يقرّ بمقولات الأمة التي يطرحها المفكر القومي العلماني، سواء لدى إسماعيل أو ساطع أو زريق أو العروي أو ياسين الحافظ أو إلياس مرقص، ولكن تأكيده على القومية المصرية هو ما يشكل نقطة تحتاج إلى النقاش والمراجعة. والقومية المصرية، مثل القومية السورية أو الفينيقية والأشورية والسبئية والحميرية، موجودة لدى مفكرين عرب، وتنبعث مثل هذه الدعوات في ظروف الأزمات. وفي مصر كانت هزيمة 67، الأرضية الخصبة لازدهار الإسلام السياسي المنكر للحضارة الفرعونية وغيرها، وأيضاً للدعوات الانعزالية لدى الحكيم وفوزي، ولها أثر أيضاً فيما يكتبه الدكتور لويس، وقد كانت رؤية الميثاق الذي قدمه جمال عبدالناصر، رداً إيجابياً على الهزيمة ومحاولة للتجاوز.
المأساة أن الفهم الرومانسي أو الشوفيني للقومية، كما عند الحكم دروزة أو البعث، لا يختلف كثيراً عن دعوات الإسلام السياسي الذي يرى أن الأمة العربية لا وجود لها قبل الإسلام، ويربط الأمة والقومية باللغة والجوانب الروحية فقط، كما عند زكي الأرزسوزي، أو بالدعوة الإسلامية، كما عند منظري الإسلام السياسي؛ فالحضارات الفرعونية والأشورية والبابلية والسبئية والحميرية، جاهلية وكفر.
رأي المفكر القومي قسطنطين زريق في القضية العربية لا يختلف كثيراً عن رؤية عوض؛ فهو يقول: "إني من القائلين بوجود أمة عربية وقومية عربية، وكان الأجدر بي أن أقول: أؤمن بوجود العناصر والإمكانيات بتكوين أمة عربية فيما إذا توفرت لهذه العناصر والإمكانيات سبل الحياة...؛ فالأمة والقومية ليستا -كما يعتقد البعض- حقيقتين أزليتين تقومان على جنس، أو لغة، أو ثقافة، أو صلات تاريخية؛ فقد توجد هذه العناصر كلها، ولا تكون ثمة أمة أو قومية؛ إذ ما الأمة والقومية سوى مظهرين لواقع اجتماعي يبرز إلى الوجود عندما تتوفر شروط اقتصادية واجتماعية وثقافية معينة، وإرادة لحياة مشتركة ديناميكية قائمة على الصلات والروابط التي ذكرنا". (الأعمال الفكرية العامة للدكتور قسطنطين زريق، ص 1663). وهذا هو الرأي السائد في كتابات الدكتور لويس عوض، وبخاصة كتابه الأثير «فقه اللغة العربية».
في «موسوعة الهلال الاشتراكية»، يقدم الأستاذ إبراهيم عامر، المفكر الماركسي، عرضاً لمفهوم الأمة. والحقيقة أن الأمة العربية من قلائل من الأمم تتوفر لها مقومات أمة كالأرض الواحدة، والتاريخ العام، والتكوين النفسي، والاقتصاد، واللغة. ومع ذلك، فهي من أكثر الأمم تمزقاً وتفككاً وتصارعاً؛ بسبب حكامها، وقد امتد التصارع إلى الشعوب.
يشير الدكتور أنور عبدالملك في كتابه «المجتمع المصري والجيش»، إلى بيان للحزب الشيوعي المصري أصدره عقب قيام الوحدة بين مصر وسوريا بعنوان «مفهوم القومية العربية»، ذاكراً المبادئ الخمسة التي قام عليها مفهوم الأمة: "التاريخ المشترك"، "اللغة الواحدة"، "الأرض"، و"الحياة الاقتصادية"، رغم السيطرة الاستعمارية على مقدراتها، و"السوق المشتركة"، وإن كانت مبعثرة وتفصلها الحدود المصطنعة، وخامساً: "التكوين النفسي المشترك"، أو الطابع القومي للأمة العربية. (المجتمع المصري والجيش، ص 268 بتصرف شديد).