كما هو الحال في العالم كله، أجبرتنا أزمة كورونا في اليمن على خوض تجربة العمل من المنزل. لكن العمل من المنزل في بلد يعاني من ويلات الحرب ويفتقر إلى أبسط الإمكانيات، هو تجربة أشد قلقاً من قلق الإصابة بفيروس كورونا. لا يوجد لدينا أبسط مقومات الدوام من المنزل كوجود الكهرباء، وتغطية شبكات الاتصال الجيدة والإنترنت السريع. ذلك أن استهداف أبراج التغطية وقصفها من قبل أطراف الحرب، جعل أغلب المناطق اليمنية تعاني من ضعف تغطية الاتصال والإنترنت.
أعمل صحفية مستقلة، حيث أكتب مواضيع وقصص بين فترة وأخرى، بالإضافة إلى عملي كمختصة سوشل ميديا في شركة خاصة. خضت تجربة العمل من المنزل عندما أصدرت الشركة تعليمات بالالتزام بالإجراءات الوقائية ضد فيروس كورونا.
في البداية تحمَّست جداً. فقد كنت أتصور أن العمل من المنزل سيكون أكثر راحة لي، حيث سأحظى بساعات نوم إضافية بدلاً من الاستيقاظ من بعد صلاة الفجر استعداداً لوصول باص العمل الذي يأخذني أولاً ثم يأخذ باقي الموظفين. من هناك كنت أبدأ رحلة “ماجلان” للفّ في الشوارع واكتشاف كروية صنعاء. نأخذ كل موظف من بيته وسط الزحام، وقيادة العم يحيى سائق باص العمل المغوار الذي يعتقد أنه يقود سيارة سباق وليس باص موظفين؛ يقود بسرعة فائقة ولا ينتبه إلى وجود المطبات أمامه. كما كنت مسرورة أيضاً من فكرة العمل من المنزل كونها ستعفيني من رؤية وجوه بعض الموظفين المتذمرين على الدوام، وإحباطهم وتلك الطاقة السلبية التي يبثونها في من حولهم.
بالإضافة لذلك، فكرت بأنه عندما أبدأ العمل من المنزل، سأستطيع الاستمتاع بباقي اليوم في مشاهدة بعض الأفلام وممارسة رقص “الباليه” الذي أحبه، لكني عندما بدأت التجربة خاب حماسي وخابت كل ظنوني. لم أحظَ بوقت نوم إضافي مثلما توقعت، فقد كنت أستيقظ باكراً للاستعداد للدوام وتجهيز مجموعة وسائد أضعها فوق بعضها لتكون بمثابة طاولة لوضع جهاز الكمبيوتر، وأدعو من كل قلبي أن تشرق الشمس سريعاً وتكون ساطعة وقوية حتى أتمكن من شحن جهازي المحمول من بطارية الطاقة الشمسية دون توتر.
دوامي المعتاد يبدأ الساعة السابعة صباحاً، ويستمر إلى الواحدة ظهراً. هذا هو الدوام الرسمي في عملي، لكن من المنزل، أعمل من قبل الساعة السابعة، حيث يتوجب عليّ أن أرسل إيميل التقارير كل يوم قبل الساعة السابعة صباحاً، وأحياناً لا ينتهي دوامي في الساعة الواحدة، بل يستمر إلى الليل، وقد يستدعي الأمر إيقاظي من النوم، لإرسال إيميل مهم أو الرد على أمر يخصّ العمل.
كل دقيقة يفصل الإنترنت وبالكاد أستطيع فتح صفحة المتصفح، وبصعوبة بالغة أتمكن من إرسال الإيميلات وإرفاق المرفقات وتحميلها وذلك بسبب ضعف الإنترنت
كل يوم أحرص على أن يتبقى في جهازي المحمول شحن حتى أتمكن في اليوم الثاني من إعداد التقرير وإرسال الإيميل إلى مديري في العمل، والسبب أنه لا يمكن شحن الجهاز من الصباح الباكر وإنما يتوجب الانتظار إلى أن تشرق الشمس، وأظل أغني “يا شمس يا شمس لا لا تغيبي” طوال اليوم. وعندما تمطر أو تكون الأجواء غائمة أصاب بالإحباط، حيث لا يمكنني شحن جهازي المحمول عندما تكون الأجواء غائمة.
كما هو معروف بأن شحن الأجهزة الكهربائية بالطاقة الشمسية يقلل من فعاليتها، فهي لم تُصنع لتكون قابلة للشحن بالطاقة الشمسية، لهذا السبب تعطلت بطارية جهازي المحمول وأصبحت لا تدوم ساعة كاملة، فكرت بشراء بطارية جديدة لكن الإشكالية ستظلّ مستمرة، حيث لا يوجد لدينا مصدر للطاقة غير الأنظمة الشمسية.
أتذكر وضعي طوال فترة العمل وأتنهد بعمق. أبقى في توتر دائم، فكل دقيقة يفصل الإنترنت وبالكاد أستطيع فتح صفحة المتصفح، وبصعوبة بالغة أتمكن من إرسال الإيميلات وإرفاق المرفقات وتحميلها، وذلك بسبب ضعف الإنترنت. أحياناً تحتاج أمي إلى استخدام الدينامو لرفع الماء، فأضطر إلى فصل شحن الكمبيوتر المحمول لتستخدم الدينامو، وأحيانا نحتاج إلى استخدام الغسالة لتنظيف الملابس، فأضطر أيضاً إلى فصل جهازي.
للأسف الطاقة الشمسية ليست مثل الكهرباء العادية. إنها محدودة الاستخدام، إذ سرعان ما يصدر المفرغ صوت الإنذار، مشيراً إلى أن الطاقة الشمسية أوشكت على الانتهاء، فأضطر وقتها إلى تشغيل “الماطور” (المولد)، بالرغم من ارتفاع سعر الوقود في المدينة. يبلغ ثمن اللتر الواحد 295 ريال يمني -ما يعادل 30 سنتاً- أتحمل نفقاته بنفسي، ناهيك عن الإزعاج الشديد الذي يسببه لي المولد ويجعلني أشعر بالصداع طوال اليوم.
بالإضافة إلى هذا كله، أفتقر أثناء العمل من المنزل إلى الهدوء. فمن الصعوبة بمكان جدولة أوقات الأطفال المتواجدين في البيت. إنهم لا يستوعبون فكرة أنني أقضي ساعات عمل، بل يحومون حولي طوال اليوم، مما يضعف تركيزي ويجعلني مشوشة. أجدهم يتجمعون حول جهازي المحمول كلٌ لديه طلبات مختلفة. أحدهم يقول لي: يا عمة سارة، افتحي لنا “ماشا والدب”. والآخر يقول: أريد أن أرى صوري التي في الكمبيوتر. وابنة أخي تأتي ومعها مشطها وتطلب أن أقوم بتسريح شعرها، وفي هذه الأثناء يتصل المدير يقول لي: لماذا تأخر وصول الإيميل يا سارة؟ ويستمع إلى أصوات ضوضائهم إلى جانبي!
مع كل هذه المعاناة، أحسست أننى أرهق صحتي البدنية والعقلية. عندها أيقنت بعد هذه التجربة أن فيروس كورونا أخف وطأة من التوتر والقلق الذي أعيشه أثناء العمل من المنزل. وقررت العودة إلى الدوام في مقر الشركة.