في محاضرة تحدث فيها الفنان اليمني نبيل حزام عن تجربته في التمثيل، أشار إلى عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، وكيف ساهم في تشجيع ثقافة المسرح والفنون بصورة عامة. كان ما يزال ممثلاً شاباً في بداية مسيرته، ومع قيام "حركة 13 يونيو/ حزيران"، التي أفضت إلى صعود الحمدي رئيساً، وخلال ثلاث سنوات وعدة أشهر تم تشجيع حركة المسرح. في تلك الفترة ساهم الجيش في دعم عروض المسرح العام، فكانت تلتقي شاحنتان عسكريتان في الفضاء العام من أجل أداء عروض مسرحية.
دشّن الحمدي اهتمامه بالخطط التنموية وبناء مؤسسات الدولة، لكن فترته الزمنية الصغيرة لم تسعفه في بلد يفتقر إلى أيّ بنية تحتية. وفي حديث الممثل اليمني الكبير، شعّت الفرحة من الحنين وهو يعود إلى ذلك الزمن الذي سقط مثل ومضة انطفأت سريعاً بنهاية مأساوية للحمدي بعد اغتياله.
من خلال التصور العام لمفهوم الدولة الحديثة في تلك المرحلة وما تشكّله القوى التقليدية من عائق، كانت الفنون والثقافة سلاحاً قوياً يمكنه المساهمة في خلق فضاء وطني يمني. فالأحداث التي تلت ثورة 26 سبتمبر/ أيلول، أعادت اليمن إلى الحيز المناطقي سياسياً واجتماعياً. والجليّ أن الحمدي اتّخذ تصوراً وظيفياً للفن يساهم في بناء روح وطنية تتفق مع عملية البناء. أي أنه تصور يتفق مع منظومة المعسكر الاشتراكي، وإن كان جوهره الانخراط ضمن دول عدم الانحياز.
صبغت مرحلة الحمدي على الفنون مضامين ذات مغازٍ تتفق مع التوجه العام، ففي المسرح ظهرت مسرحية "محاكمة الفأر". وهي مسرحية تاريخية من ثلاثة فصول، تتحدث عن أسطورة انهيار سدّ مارب بعنوان "الفأر في قفص الاتهام"، فبعد التحقيق في أسباب انهيار السد يتم إدانة الفأر كمسؤول عن انهيار السد، كدلالة على الفساد والتهرّب من المسؤولية. آنذاك، كان المسرح فناً ناشئاً والبنية العامة ضعيفة لا ترقى إلى مستوى المسرح العربي. على أن هذا التوجه، وإن بدلالات رمزية تخدم القضية سيساهم في تطور النشاط المسرحي، وسيفضي إلى تراكم في المضامين الفنية.
على صعيد آخر، تؤكد لنا قصة ظهور نشيد "رددي أيتها الدنيا نشيدي" أنه يعود إلى عهد الحمدي. أصبح النشيد الوطني لليمن الجنوبي لاحقاً ثم نشيد الجمهورية اليمنية بعد الوحدة في 1990. وبحسب روايات مطلعين، جاء النشيد بطلب رسمي؛ كانت رغبة الحمدي استبدال النشيد الوطني "في ظل راية ثورتي" الذي لحّنه وغناه علي بن علي الآنسي، لكن هل كان الغرض منه التعبير عن مرحلة جديدة؟ وما علاقته بالتقارب بين الحمدي في الشمال وسالمين في الجنوب من أجل إعلان الوحدة؟
عندما كان النشيد جاهزاً وتم عرضه على القائد العسكري عبدالله عبدالعالم، وهو أحد القيادات المقربة من الحمدي، طلب تعديلاً طفيفاً في النشيد، وهو المقطع الذي وصل إلينا بصوت أيوب طارش:
"عشت إيماني وحبي أمميّا.. ومصيري فوق دربي عربيّا.. وسيبقى نبض قلبي يمنيّا.. لن ترى الدنيا على أرضي وصيّا".
كان هذا المقطع في نسخته الأولى بتأليف عبدالله عبدالوهاب نعمان يكرّر "يمنيّا" في الأشطار الثلاثة الأولى للبيتين قبل أن ينتهي بـ"وصيّا"، وطلب عبدالله عبدالعالم تغييره إلى "أمميّا"، "عربيّا"، و"يمنيّا". وعبدالعالم كان أحد رموز نظام الحمدي، ولعب دوراً في تشجيع العروض المسرحية من خلال جعل الشاحنات العسكرية منصات للعروض العامة. لكن هل كانت الغاية من هذا التعديل أن يصبح النشيد الوطني للوحدة اليمنية؟
كان أيوب صاحب الحضور الأبرز وقتها، اتّسمت أغنية "وازخم" من كلمات عثمان أبو ماهر بدعوة للعمل، وجاءت باللفظة التهامية لتتوافق مع حملات التشجير التي كان يقودها الحمدي
ليس هناك توثيق دقيق لزمن ولادة النشيد، إلا أن إصداره بصوت أيوب تزامن مع تحركات الحمدي وسالمين من أجل الاتفاق على الوحدة اليمنية. الأكيد أن الزعيمين اليمنيين سالمين والحمدي كانا على وشك اللقاء من أجل التوقيع على الوحدة بين شطري اليمن. وبعيداً عن النظرة الحالمة التي دفعت الزعيمين، وربما سارعت بصورة ما في نهايتين مأساويتين لهما حدثتا تباعاً، فقصة النشيد تروي أيضاً عن جانب مهم من فترة الحمدي، ومن تلك الفترة التي كانت بمثابة نقطة فاصلة في تحولات شهدتها اليمن لم تكن بمعزل عن ما يجري في العالم.
وبصرف النظر عن إعلان الوحدة من عدمها، كان الأرجح أن الحمدي سيقر "ردّدي أيتها الدنيا نشيدي" كنشيد وطني، ومع مقتله أُغلق ملف النشيد. لكن رغبة الحمدي تتحقق بصورة ما، بعد سنوات يصبح هو النشيد الرسمي لدولة اليمن الجنوبي، والأكيد أنه تم تكليف أحمد بن أحمد قاسم لتلحينه، لكن الأخير صاغه في قالب أغنية عاطفية، خصوصاً في مطلعه. وهو ما جعلهم يعودون إلى لحن أيوب طارش نفسه، فلم يكن الأمر تكليفاً له كما تشيع بعض الروايات. لاحقاً بعد اتفاق الوحدة الذي وقعه الرئيسان حينها: علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض، سيكون النشيد الوطني لليمن الموحد كما أراد الحمدي. غير أن تعديلاً آخر على كلماته سيحدث، إذ تم استبدال لفظ "أمميّا"، بلفظ "سرمديّا".
ولهذا دلالته، فنظام صالح في الشمال أراد أن ينفي عن نفسه أي صلة بالراديكالية الاشتراكية، عند توقيعه مع علي سالم البيض اتفاقية الوحدة. بينما كان نظام الحمدي ينظر إلى الأمر بطريقة مختلفة باعتبار أن النشيد الوطني وثيقة شاملة للتوافق على مبادئ عامة؛ بمعنى أن الأفق العام لدولة الوحدة لا يتعارض مع أيديولوجية النظام الاشتراكي في الجنوب. على أن تقارب سالمين مع الحمدي جُوبِه بمعارضة تيار قوي داخل الحزب، هو نفسه الذي قام بتصفية سالمين لاحقاً، بينما كان الوضع مختلفاً نهاية الثمانينيات مع أفول المعسكر الاشتراكي في العالم وإعلان انتهاء الحرب الباردة.
مؤخراً تم نشر روايات عن مقتل الحمدي، لكن كل ما جاء فيها يعرفه الجميع، ولم تُستقصَ التفاصيل الأكثر غموضاً من مؤامرة مقتله. بل إنه تم انتقاء الوقائع بالصورة التي تلائم توجهات الرواة. أما ما تم روايته عن تفاصيل المؤامرة، فالجميع يعرفها ويتحدث عن المتورطين فيها، بما في ذلك الرواية التي تؤكد تورط سفارات ومخابرات دول أخرى، ووجود الملحق العسكري وإشرافه على العملية، وجلب فتاتين فرنسيتين وقتلهما لتأطير المؤامرة برواية أخلاقية، وضلوع بعض المشائخ والزعامات القبلية.
أما قصة النشيد فتروي أيضاً عن التصور العام لمشروع الحمدي، حتى وإن اتخذت الفنون في جوانب منها سمة وظيفية تخدم قضية أو مشروعاً، كانت ستترك أثراً على الجوانب الأخرى، فبعد مقتل الحمدي، تنازل الجميع عن تطلّعاته العامة سواء في بناء الدولة أو دعم الفنون والثقافة. لكن ما ميّز فترته، بصرف النظر عن الأشكال الرائجة، كان ظهور النشيد الوطني. وعلى سبيل المثال، وضع أيوب في نشيد "ردّدي أيتها الدنيا..." حبكة لحنية تميزت بالتنويعات المقامية. وإذا قارنّاه بكثير من أعمال أيوب سنجد أفقه بعيداً عن المحلية، سواء في الجو العام للحن أو بإضفاء تنويعات مقامية لافتة.
وفي ذلك رمزية عامة للأفق الذي مثّله الحمدي لليمنيين بصورة عامة. فالأغنية من مقام الراست، وتشهد تحولات مقامية لافتة: مقام العراق، وهو متفرع من مقام السيكاه، البياتي وأيضاً العجم والهُزام ومقام شعار، إضافة إلى البياتي. ولأن صيغة النشيد الوطني لا تتوافق مع المقامات الشرقية، جرى تعديل النشيد إلى مقام العجم، وهو اللحن الذي يتم عزفه كسلام وطني لليمن. ودلالة ذلك أن أيوب الذي غنى النشيد لم يكن يعرف أنه سيكون نشيداً وطنياً، أو أن ذلك عُرفٌ عام في الغناء اليمني، فمعظم الأناشيد الوطنية على مقام الراست.
على صعيد الغناء، أكثر ما ميّز فترة الحمدي هو ظهور الأناشيد الوطنية، وهي نفس الأناشيد التي ظل الإعلام الرسمي يذيعها، لكن بالنسبة للذين عاشوا ذلك الزمن لم تعد بأثرها الأول، وكانت أشبه بجعجعة دون طحين. ما يشير أيضاً إلى التفاعل العام مع مسار الحمدي، وربما كان أيوب صاحب الحضور الأبرز وقتها، اتّسمت أغنية "وازخم" من كلمات عثمان أبو ماهر بدعوة للعمل، وجاءت باللفظة التهامية لتتوافق مع حملات التشجير التي كان يقودها الحمدي. وفي تلك الصور ملامح من شخصية الحمدي الذي أراد أن يدفع اليمن بصورة ما في عربة الحضارة التي غرقت فيها ألف عام ثم عادت إلى سباتها مجدداً دون حُلم. فالشباب يتطلّعون للهجرة، وظروف العمل وانهيار فرص التعليم وحتى وسائل العيش، تجعل من الهجرة حلم الشباب، بينما حين دعا أيوب في أغنيته اليمنيين ليعودوا إلى حقولهم وأرضهم، أثار الحنين لدى كثيرين عادوا من الغربة، وربما شعر بعضهم بالندم لما آل إليه حال اليمن.