(1)
بين أدب السيرة الذاتية، والسرد الذاتي الروائي، حدود رفيعة جداً، تفضي في كثير من الحالات إلى الخلط بينهما، وهو خلط ناتج عن تداخل الأنواع الأدبية، وهدم الحدود الفاصلة بينها كما يذهب إلى ذلك موسى إبراهيم أبو رياش، وإن”المتحكم الأول في تحديد الملامح الفارقة، هو الاحتكام إلى الواقعي والتاريخي، ففي حين يمكن محاكمة أدب السيرة بمطابقة الواقع والتاريخ، فإن الرواية مهما كانت معتمدة عليهما فإنها تصنع عوالم خيالية لا وجود لها في الأساس” حسب قوله أيضاَ.
وإذا “كانت السيرة الذاتية هي سرد سيرة حياة إنسان، ورصد منجزاته، والرواية فناً أدبياً سردياً له مقوماته الفنية وسماته الجمالية المعروفة، فإنه بالضرورة يكون هناك تداخل واضح بينهما، ذلك أن سارد السيرة الذاتية يحكي رواية حياته، وسارد الرواية يصنع سيرًا ذاتية خيالية لشخوص لا بد لها في نهاية الأمر من أن تتمثل واقعيًا في وعي المتلقي ليستقبلها، وإلا استشعر أنها لا تنتمي لعالمه الأرضي، كما يحدث في أدب الخيال العلمي مثلاً”.(*)
إيراد هذا السياق بمجزئه الطويل نسبياً، هو محاولة لإيجاد عتبة نصية ومفتاح قراءة لتعيين الموضع الذي وضع به عبد الرحمن بجاش قارئه، حين يأخذه إلى المنطقة المشتبكة في النوع الأدبي، الذي تخلص إليه مادة الكتابة عن عمل “حافة إسحاق”.
(2)
حين فرغت من قراءة نص “حافة إسحاق- ما تيسر من سيرة الإنسان والمكان”(**) لم أستطع ترويض انفعالي كمتلقٍ يستغرقه إحساسٌ شديدٌ، بأن جزءًا كبيراً من مخزون ذاكرته حاضرٌ فيما يقرأ، بسبب أن البنية السردية بوحداتها الحكائية المختلفة والمتنوعة، عن الوجوه والمكان في ذلك الزمن، هي نفسها من تتشبَّع بها الذاكرة الطرية، لكائن يستعيد طفولته الهاربة في أزقة حواري مدينة تعز، وشوارعها العتيقة بكثير من الشجن.
المكان بتعيناته الجغرافية وإطاره الزمني حاضرٌ، ليس في قشرة التذكر الخارجية، وإنما في عمقها.. فالأزقة المتربة الضيقة، كما تحضر في القراءة، هي تلك التي تستعاد عندي الآن بالتذكر، فقد عبرناها ذات وقت بشباشبنا البلاستيكية، أما البيوت المتداخلة والمتواضعة هي الأخرى قد تلمسنا جدرانها وجلسنا على مصاطبها الإسمنتية، وشممنا الروائح المنبعثة من مطابخها، وشاهدنا النساء، مكشوفات الوجوه، وهن ينشرن الغسيل على السطوح، التي يُصعد إلى بعضها بسلالم خشبية توضع في الجوار. أما الشارع الرئيس 26 سبتمبر، بمرموز التحول الذي يحمله، فيُختزل في واجهات المحلات التجارية، التي كانت تبهرنا، بعرض السلع الحديثة المتنوعة من خلف زجاجها اللامع والنظيف، وروح المدنية التي كان يضفيها في حياة الناس، إذ كان يُسمى بشارع الحب، لأنه كان ملتقى المتسوقات والمتسوقين والمتنزهات والمتنزهين في عصاري المدينة، حين تختلط في فضائه روائح العطور والمأكولات والحلويات، وطبخات الشاهي المنبعثة من كتالي مقهى الإبي، ومطاعم نبيل الوقاد وأسوان.
حين جلس على كرسي الحلاقة الأبيض المهيب، وسمع طقطقة مقص الحلاقة جوار أذنيه، رأى ولأول مرة “عبد الرحمن قاسم بجاش بشحمه ولحمه وبقايا الجدري على وجهه
في واحدة من زياراتنا إلى تعز، قبل سنوات طويلة، أخذني “عبد الرحمن بجاش” إلى حافته القديمة، هو لم يكن يعِّرفُني بمراتع طفولته، وإنما كان يستعيد شغفاً صبوراً، حان وقت ملامسته بالكتابة، التي بقيت لسنوات، تتأسس على المشافهة، حين كان يحبذ إسماع أصدقائه تلك الحكايات لتمتينها.
أزعم أني كنت أحدهم، عشت كل حكايات الحافة بتفاصيلها من فم المؤلف قبل قلمه، لهذا حينما قرأتها ملمومة في كتاب، شعرت أنه – لم يزل- يهمس بأذني حكايته تلك وبكل تفاصيلها، مزيلاً تلك المسافة الملتبسة بين الشفهي والمكتوب، في عملية لم تزل تربك عندي مفهوم التلقي، خارج تحصيناته النظرية.
وغير ذلك إن الكتاب، بقصدية التأليف، يثير إشكالا جنسوياً واضحاً بين السيرة الذاتية والنص الروائي، أيضا لم يزلها قيام المؤلف بتعتيب الكتاب في العنونة المركبَّة (حافة إسحاق- ما تيسر من سيرة الإنسان والمكان) حتى من باب التخفيف على القارئ نوع ما يقرأ إن جاز قول مثل هذا، فهو سيرة ذاتية في كثير من المواضع التي تتعزز بأنا المتكلم المتعين بوضوح بحضور اسم المؤلف ووالده وأصدقائه ومعارفه ومواضع المكان بشكل صريح، غير أن التمدد في الزمان والمكان واستعادة حكايات الشخصيات بغرائبيتها وإدهاشها، وبأنساق سردية شديدة التماسك بضمائر متعددة، يضفي على الكتاب نكهة أخرى، أقلها أنها تقود قارئها إلى اعتقاد أن ما يقرؤه رواية مكتملة الأركان.
لهذا أقول بكل اطمئنان نحن أمام عمل حيوي ومختلف، المتحكم فيه هو ما تختزنه الذاكرة عن المكان والشخوص والزمن بكل عفوية، وليس فذلكة الكتابة وتصنعاتها الملونة، حتى أن الأخطاء العابرة، التي تظهر هنا وهناك في النص تصير، في مساق القراءة، جزءًا من هذه العفوية.
(3)
بين أغسطس 1962 وربما أغسطس 1969 تتعين البنية الزمنية لكتاب الحافة. ففي أغسطس الأول كان وصوله إلى المدينة لأول مرة، كما يتظهر ذلك في النص، وفي أغسطس الثاني، كما أعتقد، كانت مغادرته لها بانتقاله إلى صنعاء لمواصلة تعليمه الثانوي، مع بداية العام الدراسي الجديد.
في هذه الرحلة الزمنية وقع بصره ولأول مرة على السيارة، التي كانت نوع “لاند روفر” حبة ونص “مطربل” مزركشة بالألوان ويعتلى زجاجها الأمامي الهون المثلث، وكان يقودها أحسن سائق في زمنه وهو “السواق هزاع عبدالله مقبل” .
هذه السيارة، ستصير، بعد ركوبها الأول، محط مقارنة في ذهن الطفل، الذي انتابته وقتها مشاعر مختلطة من الفرحة والخوف والإحساس بالراحة، بينها وبين حمار عمه عبد القوي هناك في قرية الكدرة بقدس.
وفيها ارتشف أول كأس قهوة في مقهى الشرعبي، ورأى لأول مرة الزنابيل بيد كثيرين ذاهبين للتسوق، ومرّ تحت عقد كبير يحيط به مبنى كبير من الجانبين، قال له والده إنه باب الكبير، ورأى الطريق الأسود اللامع ( الدامار)، والذي كان يسمع به عن طريق العائدين إلى قريته من عدن “المعادنة”، الذين كانوا يقولون إن النصارى يدهنون به الطُرق هناك.
رأى المستودع الشرقي -أحد عناوين الحداثة في المدينة المغلقة آنذاك- حين كان يعرض للبيع الساعات الرولكس والصليب وعطور عدن. ورأى المدرسة الأحمدية وبالقرب منها مقهى الإبي.
وبرغبة من الأب جال بذات السيارة، وبمعية السائق هزاع في المدينة. صعدا من العقبة إلى العرضي، ثم إلى شارع حارة المستشفى، هبوطاً إلى وادي المدام، ثم العودة مرة أخرى إلى أمام المستودع الشرقي، وتلك كانت تعز كلها، والطريق الوحيد المسفلت فيها.
في الزقاق الرئيس لحارة الجزارين جوار المدرسة، اندهش من مرآة الحلاق والفوطة البيضاء التي وضعت على صدره، وحين جلس على كرسي الحلاقة الأبيض المهيب، وسمع طقطقة مقص الحلاقة جوار أذنيه، رأى ولأول مرة “عبد الرحمن قاسم بجاش بشحمه ولحمه وبقايا الجدري على وجهه، والذي تحوَّل بعد الحلاقة “التالو” من “القروي” إلى “التعزي”، المزهو بمعرفة المدينة قبل أقرانه في القرية، بفعل حلاق لم تزل صورته محفورة في الذهن.. شاب وسيم حليق الشنب، يلبس قميصاً مقلَّماً وفوطة عدنية ويعتمر كوفية بيضاء نظيفة.
قبل أن تتناسل حكايات الحافة ووجوهها من الناس، عمد المؤلف إلى تعديد أسماء سكان بيوتها، والذين سيصيرون في بنية النص مفاعيله السردية.
من المسرود المقتضب عن بعض تفاصيل الرحلة الأولى، والدهشة التي غمرت الطفل القروي تتعين بوضوح حدود السيرة من الإشارة الصريحة إلى الاسم، وفوتوغراف السمة بدلالة الوجه المجدور، والذي كما يقول:
“أُصبت به وأقراني، وكانت عمتي تلفني بتلك القطعة البيضاء من “المُريكن”، الذي يُلف به الموتى، ويرشون على أجسادنا التراب لتجف حبيبات الجدري، وبعدها يدهنون أجسادنا بأوراق نبتة “العجيلة” اللزجة”.
قبل أن تتناسل حكايات الحافة ووجوهها من الناس، عمد المؤلف إلى تعديد أسماء سكان بيوتها، والذين سيصيرون في بنية النص مفاعيله السردية. أما تموضع الحارة في حيِّز الجغرافيا للمدينة القديمة فهي تتمدد بين السور الذي يرتفع إلى حدبة، ومن ثم يصعد إلى القاهرة، مروراً بباب المخلولة وحافة الظاهرية وباب الكبير.
تبدأ حكاية الحافة من وصف المنزل الذي كان يسكنه والده، والذي كان عبارة عن بيت مكون من طوابق ثلاثة يشبه في تقسيمه دار العائلة في القرية، فطابقه الأرضي بلا نوافذ وهو أشبه بإصطبل بلا نوافذ، وطابقه الثاني بنوافذ صغيرة ومكون من حمَّام وغرفة صغيرة إلى جانب غرفتين متداخلتين، وفي الطابق الثالث أيضاً حمام وغرفة صغيرة، فغرفتين متداخلتين، أما المطبخ فكان على السطح الذي يطل على حافة إسحاق، ومنه كانت تُشاهد مئذنة جامع المظفر بطابعها الرسولي قبل سقوطها واستبدالها بمئذنة صنعائية من الياجور.
أمام هذا المسكن، كانت تقع غرفة صغيرة وملحق بها حمام صغير، أما مطبخها فكان يقع أسفل السُلَّم، الذي يُصعد منه إلى حيث تقيم أسرة صالح الآنسي صاحب الوجه الأحمر البشوش، والذي كان يعمل ممرضا في المستشفى الجمهوري أو “راس بتان” كما كانت تسميه العبادية. هذه الأسرة، بالأم التي كانت تحنو على الطفل الصغير، هي أسرة الناشط خالد الآنسي.
في الحارة كان يسكن العُكفي “غُشيم” بملامح وجهه القاسية ، بشنبه العريض الذي يَعتني به، بالشال الذي يغطي به رأسه على طريقة أبناء الشمال. كان صوته أجش، يقصف كالرعد حين يجلجل خارجاً من بيته ذاهباً إلى العرضي حيث ثكنة عساكر الإمام، وظل بشكله وسلوكه محل حذر من جيرانه، حتى أتى من أسكته ذات نهار نهائياً، ثم اختفى من الحافة، فلم يُعرف هل قُتل أم عاد إلى قريته في جبال الشمال؟
من شخصيات الحافة “الطَبَل” أو حامل رسائل الناس وأغراضهم بين المدن والقرى. كان اسمه “سيف عقلان”، ومسكنه كان يقع بجوار بيت “غُشيم”، تميَّز بشخصيته القوية وطلته البهية.. مشدة مشجرة يلفها على رأسه بعناية على طريقة أهل الحجرية، وكوت أسود نظيف، وعسيب على وسطه معلق بطريقة القُضاة أو أبناء الحجرية.
مثل هذا الرسم الدقيق للشخصيات إلى جانب سرد حكاياتها، يغدو وجودها في النص أقرب إلى كولاج بصري شديد التنوع والثراء، يسهل التعاطي مع سِيَرها وحكاياتها وطريقة حياتها وملابسها، بمنزعٍ روائي مكتمل، تؤلف بنيته مجموع الحكايات تلك، والتي قد تبدو من أول وهلة غير منتظمة خيطياً، لكن تعينات المكان وأثر الزمن، ومعمار السرد كلها تُعظِّم مثل هذا المبذول الذي يُتلقى وبكثير من الاطمئنان بوصفه مساقاً روائياً ناقصاً، لكنه بكل تأكيد عمل سِيروي تام، عَصَبه المكان بتفاصيله، والزمن بسيرورته، والشخوص بحكاياتهم المدهشة التي اختزنتها ولأزيد من نصف قرن ذاكرة مبدعٍ كبير اسمه عبدالرحمن بجاش.
(*) القدس العربي- السيرة الذاتية والرواية: اتفاق أم افتراق؟ 1 / ديسمبر – 2019).
(**) صنعاء – مكتبة ابن خلدون ط1 2019