ما بعد كورونا سؤال يتردد على غير لسان، وفي كثير من البلدان. الحربان الكونيتان: الأولى (1914- 1919)، والثانية (1939- 1945) كانت أوروبية بالأساس بين الاستعمار القديم والجديد، ولكن أثرها الكبير شمل مختلف بلدان العالم. أما وباء كورونا، فقد عم غالبية أمم وشعوب العالم، ودخل كل بيت، وشمل العالم المتقدم والمتخلف. فالسؤال جوهري وكوني يبرر طرح السؤال وواقعيته. وهناك أسئلة راهنة: هل الأرقام المعلنة دولياً هي الأرقام الحقيقية؟ أم أنَّ ما خفي كان أعظم؟
وهل ما تعلنه كل دولة هو الرقم الصحيح؟ أم أن هناك إخفاء؟ وبالتالي، هل هناك تهويل للتخويف بالوباء؟ أم تهوين واستهانة؟ وهل يخدم الإخفاء لحجم الوباء، وتأثيره، والتهوين من شأنه- النظم الحاكمة أم العكس؟ أم أن الأمر مختلف من بلد لآخر؟ وما مدى الأثر التدميري على الحياة العامة؟ وما مدى طبيعة النظام الدولي القادم وآثاره المستقبلية؟
الوباء يتراجع في غالبية البلدان التي انتشر فيها، وهو في حالة تراجع مستمر، والأشهر القادمة تَعِد بالمزيد لعودة الحياة الطبيعية. ويبرز لغز “أبو الهول”.. ماذا بعد كورونا؟ وهو السؤال الذي تنفجر منه عشرات الأسئلة. هل يبقى النظام القطبي كما هو؟ أم أن الكورونا مؤذن بميلاد نظام قطبي جديد، وواعد بتعددية قطبية؟
وهل يُقوِّي الوباء الدكتاتورية أم يضعفها؟ وهل تقوى الإرادة العامة للأمم والشعوب كرد على عجز الأنظمة المختلفة عن مواجهة الوباء؟ وهل تطرح الأسئلة عن مخاطر الفتن والحروب والهوس بتطوير أسلحة الإبادة والدمار على حساب الدواء والغذاء، ومواجهة الفيروسات المتطورة وغير المتوقعة؟ وهل يكون دافعاً للبحث العلمي في الجوانب الإنسانية والحياة؟
هناك- في العالم كله- أسئلة حارقة، واحتجاجات ضد مختلف نُظُم الحكم في البلدان الصناعية؛ إذ تُتَّهم هذه النظم بالتضحية بالإنسان لصالح رأس المال، والاحتكارات العالمية، وصناعة السلاح على حساب التطبيب، والغذاء، والبحث العلمي.
كورونا كشف طبيعة وقصور نُظُم الحكم كلها؛ فالحفاظ على السلطة أهم من سلامة المواطنين والشعوب. ومن هنا، يكون إعطاء الأولوية للاقتصاد على حساب حياة الناس هو أنموذج أمريكا ترامب، وبرازيل بولسونارو، وبريطانيا جونسون- اليمينيون المتطرفون، والنماذج الأسوأ.
في الوطن العربي يتآزر الفساد، والاستبداد، والحرب، وكورونا. وتمثل اليمن، وليبيا وسوريا، ولبنان، والعراق- الأمثلة الأفجع، بينما تنفرد اليمن بتصدر المشهد عالمياً حسب الواقع، وتقارير دولية؛ فالمجاعة تحصد عشرات الآلاف، والمشردون بالملايين، والأوبئة الفتاكة فاشية في طول اليمن وعرضها، أما الكورونا فمطلق السراح في بلد تحتله المليشيات المدججة بالجهل، والكراهية، وأوهام الاصطفاء والتمكين الإلهي؛ ومؤزّر بالحصار الداخلي والخارجي: براً، وبحراً، وجواً، ومنكوب بحرب أكثر من خمسة أعوام، وكل أطرافها لا همّ لها إلا السيطرة على البلد، واقتسامها، وتفكيك عُراها، ونهب ثرواتها، وامتصاص دماء أهلها.
يقيناً أنَّ الوباء كشف هشاشة، وفساد، وعجز الأنظمة المختلفة عالمياً، ولكنه في البلدان المتخلفة أسقط آخر ورقة توت تستر عورة السلطات في هذه البلدان. والأسئلة الجارحة: هل تضعف الكورونا أنظمة الحكم، وزبانية الفساد والاستبداد؟ أم تقوى عضلاتهم بمقدار ما تفتك بشعوبهم، وتدمر قدراتهم الوطنية وطاقاتهم؟ كل الاحتمالات ورادة، ولكن في المدى المنظور، فإن الاتجاهات الدكتاتورية والشعبوية تستمد جبروتها وطغيانها من ضعف شعوبها ومحاصرتها.
يحصل ما يشبه التحالف الموضوعي بين الأزمات والكوارث، والحروب والأوبئة والخوف، وكلها أسلحة مشرعة بيد الطغاة والفاسدين؛ لإشهارها ضداً على محكوميهم وأوطانهم.
ردود فعل الأمم والشعوب ضد نهج القوة، والحروب، وتجارة السلاح، والعجز الفاضح، والإهمال العامد عن مواجهة كورونا- واقع بدأت بشائره تتصاعد في غير مكان.
كل حكام البلدان العربية- مع استثناءات قليلة في تونس، والسودان إلى حد ما- حلفاء الأزمات والنكبات، بل وصناعها؛ فالحرب التي أشعلوها في عموم الأرض العربية ضداً على الربيع العربي قد دوخت البلاد والعباد، وأعادت الأمة كلها إلى ما قبل عصر الوطنية. الكورونا وَحَّدَ العالم، ومد ظله الكئيب على الكرة الأرضية كلها، واغتال الأنفس البريئة بدون تفرقة أو تمييز. فهل توحّد الاحتجاجات القادمة العالم؟ وتمتد إلى أركان الدنيا في الشرق والغرب، والشمال والجنوب؟
ما يجري اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الصين، وفي البرازيل مؤشر مهم قد يمتد إلى العديد من بلدان العالم.
في المنطقة العربية ما تزال جذوة الربيع متقدة تحت الرماد، وبشائرها في فلسطين ولبنان والعراق والجزائر.
ردود فعل الأمم والشعوب ضد نهج القوة، والحروب، وتجارة السلاح، والعجز الفاضح، والإهمال العامد عن مواجهة كورونا- واقع بدأت بشائره تتصاعد في غير مكان.
المتتبع للحالة الأمريكية- كمثل راعب لنهج ترامب وإدارته- يدرك أن الدكتاتورية هي هي، سواء في بلد متقدم صناعي كأمريكا، أو متخلف شديد التخلف كاليمن. فالمحتجون المدنيون لصوص، وقطاع طرق، وفوضويون، ومخربون يعملون لصالح أجندة أجنبية كنعت ترامب.
يرفع ترامب الكتاب المقدس، كما فعل علي عبد الله صالح حين رفع المصحف في وجه ثورة الربيع العربي في اليمن، ويهدد المتظاهرين بإنزال الجيش في كل الولايات الأمريكية؛ وقد أنزله فعلاً في واشنطن، ويُوَاجه المحتجين بالقمع السافر، ويُستخدم الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي من قبل الشرطة والحرس الوطني، ويُمنع الصحفيون من التغطية، ويعتقل صحفيو الـCNN؛ وكأننا في بلد من بلدان العالم الثالث.
مؤشرات ما بعد كورونا لا تتجلى في شيء كما تتجلى في قمع الحريات العامة والديمقراطية، وفرض حظر وسائل التواصل الاجتماعي، وحجب تويتر، وجوجل في أمريكا.
إن توحد الحكام- في غير قارة- في مواجهة الاحتجاجات المدنية هي الملمح الأهم، ويمثل ترامب في أمريكا، وناريندارمودي في الهند الأنموذج الأبشع للدكتاتور في بلد ديمقراطي.