قراءة استعادية
نحن جرحان في محارة واحدة
أنت تقشّر أصدافك بدون اكتراث
أنا أقشّر لحمة أحشائي متريثًا
*عبدالودود سيف: النورس
1-
لتجربة الشاعر عبدالودود سيف أبعادٌ ودلالات يحسن التوقف عندها قبل التَّماسّ أو الاحتكاك النقدي بنصوصه. فهو ذو أسلوب متوازن. لا ينحاز تمامًا لمقترحات الحداثة، ولا يتمترس خلف دعاوى التقليد أو الأصالة التي قال عنها ذات لقاء صحفي: "... ينمحي معنى التقليد باعتباره مرادفًا للأصالة، ويصبح رديفًا للاستلاب. مع تعارضهما في الحالتين مع أي نزوع لتأكيد الخصوصية والإبداع". فهو يضع بذكاء وحساسية كلًّا من التقليد والأصالة المزعومتين بمقابل الخصوصية والإبداع، ويختار الأخيرتين ليكونا أشبه بإعلان عن برنامجه الأسلوبي واستراتيجيته الشعرية؛ لذا لم يكن عبدالودود صوتًا تقليديًّا في الحركة الشعرية الحديثة في اليمن، رغم اهتمامه بالموسيقى الوزنية ومراجعته لنظرية الخليل حول البحور الشعرية وتفعيلاتها وموسيقاها. يعززها الإيقاع الذي يحرص عليه الشاعر، بل كان له فيه نظرات وأفكار كتبها في مبحث مطول عن العروض الخليلي وإمكانات تطويره وتغيير إيقاعاته. مقترحات لم تجد صدى للأسف، وقد تم تمثيلها باعتقادي في قصائد الشاعر اللاحقة، لكنها ظلت ضمن الوزنية الشعرية التي لم يتم فحصها في برنامج التحديث اللاحق، أعني الانصراف لكتابة قصيدة النثر من خلال الجيل التالي، وبعض مجايلي عبدالودود أيضًا. وكتابته أغلب شعره بالطريقة الوزنية (الحرة) المحافِظة على عُنصرَي الوزن والقافية، والاعتماد على الموسيقى المتحصلة من وجودهما في القصيدة، والمحافظة على النظام البيتي في الشعر العربي، لا بالنظم على طريقة الشطرين، وإنما بالتعويل على التلاقي بين بنية السطر في القصيدة، ومعناه ودلالات المبنى الشعري كله. وترافق ذلك لغة شعرية تمتثل للمجازات وللصور والإيقاعات المعهودة، ولكن بتجديد واضح في المبنى الشعري العام. وفي المضامين المعبرة عن هواجس وحدوس شخصية يتوجها حضور الذات بشدة في الملفوظ الشعري، وضمائره التي يتقدمها ويهيمن عليها ضمير المتكلم/ الشاعر، وعن رفض غير محدد الوجهة مُتخفٍّ في كثافة رمزية ووصف ومبالغة وسرد مطوّل. لكن حمولته السياسية يمكن تشخيصها بالتأويل والقراءة الحفرية. فالشكوى والتمرد وهاجس التخطي والنأي عن الواقع، إنما تخفي داخل البنية العميقة للنص تعارضًا مع الأوضاع السياسية السائدة، أو تلخص معضلات. البلاد ومشكلاتها وما تعانيه.
ويمكن التمثيل لذلك بقصيدته (الميلاد - تخطيط على جسد المهد) التي يهجم استهلالها على القارئ بموسيقية، فيها عذوبة وانسيابية، لكنها عالية النبرة وتنساق لآليات البلاغة الشائعة؛ كالجناس والطباق والتكرار الترجيعي، كما أنّ السرد يتعثر بغنائية مباشرة تخنقه، وتعلو فوق عناصره. وسنعاين ذلك في استهلال النصّ:
"غيم بكفِّي أم دخان
هذا ابتداءُ رسوّ صاريتي على شط،
وأول ما أهش بنرجسٍ أو أستظلّ بزعفران
هذي خطاي تعود بي نحوي، ثم تجلسني إليَّ..
أرى الدنان كأنها مَلْأَى بخمرٍ ليس تعرفها الدنان"
يمكن للقارئ ملاحظة الحرص على التدفق الموسيقي واستثمار حركات تفعيلة البحر الكامل وسكناتها، وما يخلقه التدفق اللّغوي والتداعي أيضًا.
ويمكننا قراءة المسكوت عنه، السياسي والاجتماعي، في عنوان القصيدة بتخطيط (= شعر) على جسد المهد أي خارطة الوطن ومفاصل حياته، كون اليمن هي المهد عربيًّا، وكما استثمر أدونيس ذلك في قصيدته الشهيرة (المهد)، عن مرائي اليمن وآثارها الشعورية والانفعالية فيه.
وثمة ما يذكرنا بكثير من قصائد درويش وأسلوبه في الإيقاع واللغة خاصة، ومن أمثلة ذلك العودة بالفاعل الدلالي في الجملة الشعرية، وهو مختلف عن الفاعل النحوي، كقوله: (وأعود إليَّ/ أسير إليّ/ أمشي إليّ/ آتي إليَّ).
وفي طرق التكرار، كما فعل مثلًا في تكرار (أسمّي).
2-
كلما استذكرت الشاعر عبدالودود سيف وقراءتي لشعره ولقاءاتي معه خلال إقامتي الصنعانية، أستذكر عمله الطويل (زفاف الحجارة للبحر).
هو عمل تتجلى فيه المقدرة التخييلية لعبدالودود، وترويض اللغة لتغدو داخل النصوص الشعرية ذات حمولة رمزية ثقيلة.
كما أنّ لعبدالودود جهده البارز في الكتابة الشعرية الطليعية، كونه من أبرز شعراء مرحلة التحديث الشعري في اليمن، ومن الموجة التالية للرواد التي يمثّلها شعراء من جيل السبعينيات، وتحمل سمات التبلور والنضج بتأثير استقرار قصيدة النثر العربية وتبلورها، وتداولها على مستوى الكتابة والتلقي، فكانت قصائد النثر التي يكتبها عبدالودود سيف أكثر نضجًا واقترابًا من تقنيات قصيدة النثر العربية السائدة، وإظهارًا لمزاياها ومقوماتها الفنيّة التي تتجسد في نبذ الغنائية والمباشرة والنثرية، وتأخير الموضوع أو المضمون لصالح الشكل الجديد، رغم أنّ شعراء هذه الموجة جاؤوا إلى قصيدة النثر من تجارب وزنية جيدة، وراوحوا بين كتابة قصيدة الوزن وقصيدة النثر، بل جمعوا بينهما أحيانًا.
عمل سيف، المطول (أسماء للموج وألقاب للزبد)، في ديوانه (زفاف الحجارة للبحر) المكتوب والمنشور في التسعينيات، يعكس قدرة فائقة ومتقدمة لاستثمار طاقة قصيدة النثر، والحرية المتاحة في فضائها، كما نعثر على احتدام لغوي وتصويري، يلزم القارئ الانتباه إلى أدقّ الألفاظ، فهنا (أسماء) للموج لأنه الأصل، و(ألقاب) للزبد لأنه سطح، وعلى قارئ النص أن يكتشف أول مفاتيح تلقي النص وموجهات قراءته، وأعني بذلك الفرق بين الأسماء والألقاب؛ الأسماء تنتمي للإنسان ذاته وتقترن بوجوده، فيما تتباعد الألقاب عنه لأنّها مسبغة عليه من الخارج. لذا قام عبدالودود، بفنية عالية وبما يُظهر قصد المؤلف، بإسناد الأسماء للبحر، ورمى الألقاب للزبد الذي يطفو، ثم ينحسر وجوده وينسحب للفراغ.
وهذه الثنائية في العنوان، سوف تشقّه دلاليًّا أو ينشق بها إلى نصفين، وإلى اثنين يتكلمان في النص ويعيشان تفاصيله. بينهما نزاع أزلي مجسّد بحرارة في النص، تسري عدواها إلى القراءة، فكأنّ عبدالودود يرسم بحرًا هادرًا بصوت موجاته ودفق مياهه، بينما يطفو الزبد الذي تلفظه الأمواج وينطفئ متلاشيًا.
أراد الشاعر لنصه أن يندرج في شعرية العنوان الموضوع للديوان، فجاء النص حاملًا ثنائية ضدية (الأسماء/ الألقاب، والموج/ الزبد)، وهي تماثل ثنائية (الحجارة/ البحر) في العتبة العنوانية (زفاف الحجارة للبحر)، مهيئًا القارئ ليتسلم تلميحات وإشارات جسدية توحي بها مفردة (زفاف) رغم أنّ هذا الزفاف زائف وغير متكافئ ودليل خذلان؛ لأنّ الحجارة هي التي تُزفُّ للبحر، فهي فاعل دلالي في جملة شعرية أولى، لكن البحر فاعل دلالي في جملة شعرية مغيَّبة، تشي بها علاقة الغياب بالجملة الأولى، لذا حمل وصفًا وتعيّنات جسدية لا تكفي المرأة وحدها لتمثيلها. فهي بهذا التحديد اللفظي تكون باهتة الحضور في العمل، لكن (الأنثى) ستكون أشد أثرًا وأكثر حضورًا. وهنا أستخدم هذا الفرق لأوسع دلالة الأنثى؛ لتشمل المؤنث عامة ولتكون المدينة مثلًا. إنّها إذ تأتي في مواضع محددة وتؤدي وظيفة دلالية تعمق صورةً أو معنى في برنامج القراءة أو حسابات تأويل النص واجتهادات قراءته. بل هي من مفردات الزبَد الذي ستعكسه القصائد، وهي تنتمي للحجارة في سجل ثنائيات القصيدة. هذا الزفاف يحدث بين نقيضين: حجارة - مؤنثة، وبحر - مذكر. صلادة الحجارة ودلالتها الجامدة تقابل البحر الذي يضج بالحياة وصراخ موجه وكائناته.
ثمة هياج لغوي عارم يوازي هيجانات العاطفة: (أدخل بلسمًا وأخرج طلسمًا)، (أنا الذي اتسع فامتنع)، (المدى تفاحة وأنا سكين)، ولقد توسط الشاعر بضميره اللغوي وأناه، بينه وبين ذاته، بين أسمائه وألقابه، موجِه وزبَده، ليجد نفسه وسط دائرة تكبر إلى ما لا نهاية وراء الأفق، ومنها تكون البداية. في حين ختم الشاعر نصه المحتشد بتداعياته اللغوية والصورية، وبنائه المقطعي المتنامي، المازج بين السرد والوصف، والاسترجاع والحوار الداخلي، ممّا يؤهله ليغدو أحد النصوص المميزة في قصيدة النثر العربية. ودالًّا نصيًّا على عدة تحولات في قصيدة عبدالودود، وأهمها:
- الإفادة من السرد واستخدام ضمير السارد الأول، وتوجيه الخطاب نحو قارئ ضمني.
- استبدال الإيقاع الوزني الذي تخلقه التفعيلة بإيقاع قصيدة النثر.
- إطلاق المخيلة وتنضيد الصور من خلالها.
3-
تبدأ القصيدة باندفاع وتدفق شديدين، يمثلهما لسانيًّا استخدام الحال (متوَّجًا)، بما فيه من قوة في الدلالة:
"متوَّجًا بصولجان الرغبة في استئناس جراد الوحش الضالّ بين أقدامي وخطاي..."
وفي البحث عن المؤثرات، قد نجد تصاديًا مع مطلع (هذا هو اسمي) لأدونيس، ذات الأثر في جيل الستينيات ومن تلاهم، حيث بدأت بالحال أيضًا:
"ماحيًا كل حكمة هذه ناري
لم تبق آيةٌ- دميَ الآية
هذا بَدْئي"
وثمة نزاع بين خطى الشاعر وما يتحدى رغبته في الوصول إلى هدفه، رامزًا له بجراد الوحش الضال في البيت الأول، مهيئًا القارئ لهذه المواجهة الملحمية التي ينكفئ الشاعر بسببها إلى ذاته:
"وأدعو إليَّ منقسمًا إلى سطح وقاع.
في سطحي ماء يدوي وسفائن تغني.
وفي قاعي أوتار تهذي.
ومآذن تصلي".
تلاحق قراءتنا ثنائيات النص، هذه التي جعلته منقسمًا منشقًّا، كما يقول الشاعر إلى سطح وقاع، ليضيف تعزيزًا لمعراجه أو رحلته الشعرية الأسطورية. لنستدل بعامل التأويل على أنّ الشاعر يرفض سطحًا أو زبدًا يراد له أن يحياه مستبدلًا إياه بماء يتكون منه؛ لأنّه من عناصر التكوين الأولى. وتكون تلك شهادة على ولادة جديدة تحدث في القصيدة، ما دامت غير ممكنة في الحياة.
على مستوى السرد في القصيدة، يتسلم الشاعر مهمة السارد الأول، فيأتي الخطاب بضمير المتكلم، ويصبح راويًا مسؤولًا عمّا يروي، وموجّهًا الخطاب لقارئ أو مجموعة متلقّين مفترَضين؛ لتكتمل الهيئة السردية المستعارة للتوظيف الدلالي في النص.
وفي التوظيف البلاغي سيجد القارئ تقابلات لافتة، لها وقع أو رنين يخدمها المجاز، فتبدو أشبه بحلم أو تهيُّؤات ممّا يراه المتصوفة. وذلك شجّع بعض القراءات ذات المقترب الصوفي لتُسقط التصوف على نصوصه، التي أراها متأثرة بالأدبيات الصوفية دون التزام بقاموسها الشائع. كقوله:
أدخل بلسمًا وأخرج طلسمًا/ أنا الذي اتسع فامتنع/ اتسعت الشبهة بين الغمامة والحمامة/ إما زبدًا أقيم به سرجًا لموجة. وإما بحرًا، أصطحبه على فمي كياقوتة...
وتقف القصيدة في كثير من مواضعها لتعمّق الوصف، وتتسع أفقيًّا ولا تنمو، تاركة القارئ يتمتع بلغة منوعة المصادر، ولها وقع شعري مؤثر، لكنها لا تتقدم باتجاه هدفها، مكتفية بهذا الانثيال الثرّ للمجاز والتدفق الإيقاعي الذي أفاد من الحرية التنضيدية في قصيدة النثر، فغدا البيت سطرًا طويلًا أشبه بقصيدة مدوّرة، كما غاب الإيقاع الموسيقي المعتاد؛ ليستعيض الشاعر عنه بإيقاع الصورة والتكرار والخيال الذي يمزج الإيهام بالواقع؛ ليخلق هذه الصرخة التي يشق على القارئ الخروج من موجها وتجنب زبدها.