في اليمن الذي تطحنه الصراعات، بدأت تتعالى الأصوات المطالِبة بالسلام. ولتحقيق وصول أكبر لهذه الأصوات إلى مختلف شرائح المجتمع وفي كل مكان، يجب الاستفادة من كل الوسائط الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، بحيث تتماهى هذه الوسائط مع الأيديولوجيات المختلفة المعبرة عن المجتمع، وتعكس الأواصر المشتركة التي تجمع بين أفراده، بمختلف شرائحه وطوائفه.
وتعد الوسائط المسموعة أسهل الوسائط انتشارًا، حيث يمكن الوصول إليها بسهولة وفي أي مكان من دون الحاجة إلى توافر شروط محددة، كما أن نطاق تأثيرها يغلب على الفئات البسيطة والمتوسطة.
عن حضور المذياع لدى الشباب اليوم، تقول صابرين الأحمدي (طالبة جامعية): "منذ كنت طفلة اعتدتُ أن أسمع المذياع في بيتنا، وأصبح صوت المذياع دأبي اليومي، حيث يرافق صوت فيروز اللحظات الأولى التي تسبق ذهابي إلى الجامعة، وهي أولى خطوات السلام النفسي الذي اعتدته في بداية يومي".
وتضيف: "أثناء قيادتي السيارة، أحب الاستماع إلى الإذاعات المجتمعية التي تسلك في خطها الإعلامي التطرق إلى قضايا الناس ومعالجة مشكلاتهم كبداية لاستدراك القضايا العامة التي تؤرق حياة الناس".
حسام عبدالقادر، وهو أيضًا طالب جامعي، يوضح السبب الذي يجعله يفضل الاستماع إلى الإذاعات المجتمعية دون سواها من قنوات البث الإذاعية الإخبارية، قائلًا: "حقيقة لقد مللنا سماع أصوات البنادق، وقرع طبول الحرب. لم يعد يعنينا من الذي انتصر أو انهزم، لا نريد أن نعرف، نريد أن نعيش مستقبلنا نحن، لقد مللنا من اجترار ويلات الصراع يومًا بعد آخر".
ما زال الحديث عن السلام بوصفه قضية محورية في اليمن في الإذاعات المجتمعية، لصيقًا بالبرامج الخاصة التي تناقشه كأحد القضايا التي ما تزال بحاجة إلى تسليط الضوء عليها بوجه خاص.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول عميد كليَّة الإعلام بجامعة عدن، د. محمد علي ناصر: "الإذاعات المجتمعية في اليمن نشاطها محدود ولا تعطي السلام الاهتمام المطلوب، ومن حيث المبدأ لم تصل إلينا لا صحافة سلام ولا ثقافة سلام".
ودعا ناصر القائمين على الإذاعات المجتمعية والمحليَّة إلى "تبني برامج تدعم السلام والتعايش في المجتمع، والبحث عن جهات ترعى هذه البرامج لضمان استمرار بثها إلى الجمهور في مختلف المحافظات اليمنية"، لافتًا إلى أن "إعداد الصحفي وصناعة رسالة السلام، يبدآن من الجامعات، ومؤسسات المجتمع المدني التي تتبنى الدعم في هذا المجال".
تبقى إشكالية الصراع السياسي والعسكري في اليمن، مرتبطة بابتكار آليات فاعلة لرأب الصدع، وهنا يأتي دور الوسائط الإعلامية الموجهة لبناء أطر السلام وتكييفها لتصل إلى كل شرائح المجتمع.
مؤسس أول إذاعة مجتمعية في محافظة أبين (جنوب اليمن)، الصحفي عصام علي محمد، يقول لـ"خيوط"، إن الهدف الذي تعمل لأجله إذاعته هو "إرساء السلام في المحافظة أولًا. نحاول منع أيِّ مظاهر للازدراء القبلي أو المهني أو المناطقي في أبين بخاصة، وفي اليمن عامة".
ويضيف عصام: "دورنا في إذاعة أبين يكمن في أننا نحاول الجمع بين الفرقاء السياسيين والعسكريين حول طاولة برامجنا، وذلك عن طريق استخدام الوسائل التقنية أو الاتصال المباشر".
تبث إذاعة "هُنا أبين" المُجتمعية برامج منوعة؛ منها للترفيه، ومنها للتوعية، بالإضافة إلى اللقاءات المجتمعية، وفقرات إذاعة مدرسية من مدارس أبين (زنجبار، وجعار). كما تبث برنامج "قطوف المعرفة"، وهو برنامج ثقافي يومي منوع، وتبث مسلسلًا محليًّا يوميًّا تركز فيه على تنوع اللهجات المحلية لمحافظات أبين، عدن ولحج، "لوجود أواصر قربى وتداخل في العادات والتقاليد"، كما يقول عصام.
ويتابع: "نطمح في راديو "هُنا أبين" إلى الإسهام في صنع سلام مجتمعي، تذوب من خلاله كلُّ الفروقات والاختلافات، وذلك من أجل العمل معًا على بناء المُحافظة والمشاركة في الحفاظ على تميزها في الجانب الزراعي".
وأشار عصام إلى أن برامج راديو "هُنا أبين" تعمل "وفق مسار مجتمعي معنيّ بالتنمية والسلام"، وأن هذا النوع من البرامج التي تبثُّ في مناطق الصراع، "لا يحظى بالدعم، الأمر الذي يعيق استمرارية بث هذه البرامج".
كما يؤكد على أن تمويل إذاعته كان بجهود ذاتية منه، فإضافة لإنفاق مدخراته المالية، اضطر لاقتراض خمسة ملايين ريال يمني "من صديق"، حتَّى يضمن استمرار عمل الإذاعة. وإلى ذلك، قال إنه يتطلع للشراكة مع أي جهات أو منظمات مستقلة تهتم بدور الإذاعات المحلية، "لا سيما تلك التي تعنى برعاية برامج السلام والتنمية ونبذ العنف والصراعات" التي اعتبرها أبرز عوائق العمل الإذاعي المهني، خاصة في ظل تجاذبات أطراف الصراع في محافظة أبين، وفي إطار اليمن بصورة عامة.
وفي محافظة حضرموت، تبنّى "راديو السلام"، مناقشة القضايا المتعلقة بتحقيق السلام، والتنمية المستدامة، كالتأكيد على الهُوية الوطنية، وفتح باب الحوار للمبدعين، كلّ في مجاله وتخصصه، بالإضافة إلى مناقشة قضايا النوع الاجتماعي.
وتبقى إشكالية الصراع السياسي والعسكري في اليمن، مرتبطة بابتكار آليات فاعلة لرأب الصدع، وهنا يأتي دور الوسائط الإعلامية الموجهة لبناء أطر السلام وتكييفها لتصل إلى كل شرائح المجتمع، لا سيما أن المذياع ما زال يسجل حضورًا واضحًا في الريف اليمني، كما أن دور وسائط الإعلام الأخرى يكاد يكون محدودًا في المناطق التي لا توجد فيها كهرباء، ووسائل الاتصال فيها ضعيفة.
إن توظيف الوسائط المسموعة في نشر ثقافة السلام، يمكن أن يتحقق عن طريق تأكيد الروابط الثقافية التي تجمع بين الفرقاء، كالعادات الاجتماعية، وتسليط الضوء على الأعمال الإنسانية بمعزل عن شخصنتها، ودعم المواقف المجتمعية التي تجمع ولا تفرق وتبني ولا تهدم، وإنشاء قنوات ترابط وتشابك مجتمعي، ونقل لقاءات الشخصيات الاجتماعية التي تحث الجميع على التعايش ونبذ التفرقة.