لعبت الإذاعة اليمنية دورًا رئيسيًّا في صنع الوعي الجمعي للمواطن اليمني بعد قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر في ستينيات القرن الماضي، فإضافةً لكونها كانت منبر إعلان قيام الجمهورية وإشعال فتيل الثورة ضد الحكم الإمامي، عملت على تعليم الشعب أبجديات العيش ودحض الخرافات مستغلًّا مرحلة الجهل والأمية السائدة آنذاك؛ بفعل السطوة القمعية للنظام الإمامي وعزلته عن العالم.
كانت إذاعة صنعاء في الشطر الشمالي من الوطن وإذاعة عدن من جنوب البلاد، بمثابة مزود إعلامي متكامل للمواطن، حيث الأخبار الفورية والأناشيد الحماسية والسهرات الغنائية المحلية والعربية التي كانت تجذب المستمع وتداعب أحاسيسه وشجونه، ضمن معطيات تلك المرحلة.
هذه الطفرة النوعية في الإعلام المسموع، وقف خلفها مبدعون كُثر أعطت المرحلة المنفتحة من الحكم في بلادنا، مساحات واسعة من إنتاج البرامج المنوعة لتغطي فترة البث، وكأن تلك الفترة تجاوزت مرحلة الفضائيات اليوم.
بعد قيام الجمهورية في الشمال، وبدء الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، وجهت إذاعات الشطر الشمالي برامجها الداعمة لثورة الـ14 أكتوبر، وكانت إذاعة تعز الرائدة في هذه الناحية وفقًا لشهادات معاصرين لتلك الحقبة.
ويستحضر الجمهور في اليوم العالمي للإذاعة، برامج كثيرة دعمت وعي الناس في مختلف المجالات، كان برنامج "أوراق ملونة"، ومن بعده "واحة اليوم" في إذاعة البرنامج العام، من أبرز ما يتذكره المستمع، ويذهب خياله لفترة البساطة والجمال والمحبة التي كانت تُذاع عبر الأثير.
الحسن بن علي يؤكد لـ"خيوط"، أنه مستمع جيد وشغوف بالراديو، إذ كانت اهتماماته تتركز بشكل كبير في الجانب الرياضي، ويضيف قائلًا، "كنت أنصت جيدًا لبرنامج "صدى الملاعب" على إذاعة تعز، وكان صوت الإعلامي الرياضي عبدالسلام فارع مميزًا وهو يشدو بحب كطبيعة الرياضة"، ويتابع: "هناك برامج أخرى أعطتني معلومات معرفية جمّة شكلت مكتبة متكاملة في كل بيت يمني".
قياس الجمهور
وفي ظل تعدد وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، تختلف الآراء حول إمكانية صمود الإذاعة مع هذا المعترك الكبير في الإعلام، وهل ما زالت أوليات الناس تنساب في اتجاه الصوت على حساب العالم المليء بالتحديثات وأهمية الصورة في جذب الجمهور.
يتركز جمهور الإذاعة بدرجة رئيسية في الأرياف بنسبة كبيرة تتعدى 75%، إذ تجد الإذاعة طريقها للمستمع ويتفاعلون مع برامجها، من خلال ما تفرده من نوافذ متعددة للتواصل معها.
مؤخرًا أجرت إذاعة محلية في تعز، دراسة عن تفاعل الجمهور معها منذ افتتاحها قبل ثلاث سنوات، قالت إذاعة "وطني إف ام"، إن خمسة ملايين متصل تفاعلوا مع برامجها المفتوحة في المساحة المحددة للتفاعل، وهو رقم مشجع في خضم ما يشاع عن تراجع الاهتمام بالإذاعات، وخفوت صوت مثل هذه الوسائل الإعلامية.
جدل تراخيص البث
يتسيد الترويج وإعلانات الشركات التجارية والمنظمات، قائمة تمويل إذاعات الإف إم، وازداد مؤخرًا افتتاح إذاعات وإن كانت بإمكانيات بسيطة لا تضاهي المستوى المتقدّم الذي وصلت إليه إذاعات مماثلة في البلدان العربية والعالم، ويتساءل مراقبون عن التراخيص التي تمنح لملاكها في ظل عدم وجود قانون يجيز افتتاح إذاعات إف إم حتى اليوم.
أكثر من 20 إذاعة "إف إم" في صنعاء وحدها، يعج بها فضاء العاصمة، يختلف المستمعون في تقييم المحتوى، بين من يرى أنها تقدم خدمة إرشادية للناس فيما يخص اتباع أنماط حياتية إيجابية، وآخرون يرون أنها أبعد ما تكون عن همّ المواطن، وهدفها جني عائد مالي فحسب.
إلى جانب الحرب المستعرة في البلاد للعام السادس على التوالي، استغلت بعض المنابر الإذاعية في تغذية الصراع وخروجها عن الدور التنويري والتوجيهي، في مشهدٍ يظهر مدى ما أفرزته الحرب من شحن لعقول العامة حتى من هم بسطاء ويوصفون أنهم أكثر قربًا من المذياع.
بالمقابل تخاطب برامج أخرى شريحة واسعة بلغة مهذبة، تعكس إيمان القائمين عليها بالاهتمام بذائقة المستمع، وإعطاء فرصة للإبداع ينبع من زاوية بعيدة عن الحرب، وهي قاعدة كسرت التعميم وتحتاج لدعم حتى تخرس آلة الدمار.
العمل الإذاعي
يرتبط الجمهور غالبًا بمذيع يجذبه إما بنبرة صوته أو بتبني القضايا المجتمعية التي تهمه بموضوعية، إذ ترى المذيعة "المخضرمة" -كما يصفها جمهورها- أديبة الصراري، أن حميمية اللقاء عبر ميكرفون بعالم لا نراه شيئًا مذهلًا، محبة الناس لك من خلال نبرة صوتك، دون التعرف لملامحك شيء حقيقي بالنسبة لمذيعي الراديو.
وتضيف الصراري لـ"خيوط" أن الإذاعة ما زالت تمثل وسيلة مهمة قادرة على إيصال رسائل إيجابية وتوعوية، متنوعة في كل المجالات، رغم ما يشهده العالم من تغييرات وتطورات متسارعة، إلا أن الراديو ما زال يحتفظ برونقه الخاص، وفرادته، ونجاحه الدائم.
الصراري، كانت تعمل في إذاعة تعز الحكومية وانتقلت لإذاعة خاصة، تصف تجربتها في المجال الإذاعي بالرائعة والمميزة، وتراكم الخبرات التي يتم اكتسابها من خلال العمل في المجال الإذاعي.
إجمالًا يتطلب الأمر الاهتمام بالإذاعة اليمنية وإعادة الاعتبار لها، والأهم إعادة النظر في وضعيتها الراهنة والارتقاء بدورها بما يلبي احتياجات التطوير في هذا المجال الحيوي، لكي تبقى الإذاعة حاضرة على الدوام بما يعيد لها بريقها الآخذ في الانتشار ودورها في تشكيل وعي الناس في مرحلة مفصلية تعيشها اليمن في الوقت.