هذا كتاب وصفت فيه كاتبته، السيدة هيدفيج فايس _ زُونِّنْبُورج H. Weiss _ Sonnenburg 1 رحلتها مع زوجها، السفير الألماني في الحبشة، الدكتور فايس Weiss، التي قاما بها إلى اليمن، في شهر فبراير عام 1927م، وتم نشره في عام 1928م، بعنوان:
Zur verbotenen Stadt Sanaa, Eine Reise von Abessinien nach Arabien
وكنت قد قرأت كتابها هذا أثناء انشغالي بإعداد بحث عن العلاقات اليمنية _ الألمانية، معتمداً على وثائق الأرشيف الألماني، لاسيما أرشيف وزارة الخارجية الألمانية، الذي توزع بعد الحرب العالمية الثانية، بين مقر وزارة الخارجية في مدينة بون، عاصمة ألمانيا الغربية، وبين أرشيف الدولة في مدينة بوتسدام، بألمانيا الشرقية.
وتكتسب هذه الرحلة أهميتها، من كونها مثلت فاتحة الاتصالات الطويلة، التي جرت بين الإمام يحي وبين الحكومة الألمانية، بهدف عقد معاهدة صداقة وتجارة بينهما، ترسي قواعد علاقات سياسية واقتصادية بين الدولتين. فقد حمَّل الإمام السفير الألماني فايس، عند مغادرته صنعاء، رسالة إلى الرئيس الألماني، أبدى فيها رغبته في عقد معاهدة صداقة وتجارة بين مملكته وبين الحكومة الألمانية. ولكن تلك الحوارات والاتصالات لم تحقق الغاية منها. إذ توصلت الحكومة الألمانية، بعد إرسال سفيرها (كورت بروفر)2 إلى صنعاء، للتفاوض مع الإمام، حول مضمون وصيغة المعاهدة، توصلت إلى قناعة، بأن هدف الإمام الرئيسي من عقد معاهدات مع بعض الحكومات الأجنبية، كإيطاليا والاتحاد السوفييتي، ليس إقامة علاقات تجارية واقتصادية فعلية، بل الحصول على اعتراف دولي بحكمه وباستقلال مملكته، لتعزيز موقفه تجاه الحكومة البريطانية، التي كانت تستعمر عدن، وتمد نفوذها إلى ما عرف في ذلك الحين بمحميات عدن (المحميات الغربية والمحميات الشرقية)، وبأن كل المعاهدات، التي عقدتها تلك الدول مع الإمام، ظلت حبراً على ورق، ولم تحقق، كما تؤكد الوثائق الألمانية، سوى الاعتراف بالإمام ومملكته.
ويمكننا أن نفهم سعي الإمام إلى تعزيز موقفه تجاه بريطانيا، بالحصول على اعتراف الدول المؤثرة على الساحة الدولية بحكمه وباستقلال مملكته، إذا ما وضعنا في الاعتبار طبيعة العلاقات السائدة في ذلك الحين، بين الإمام وبين بريطانيا. وهي علاقات اتسمت بالتوتر، الذي كان يتصاعد في بعض الأحيان، ليأخذ شكل اشتباكات مسلحة في بعض المناطق الحدودية، الفاصلة بين شمال اليمن وجنوبه. وكان الطيران الحربي البريطاني، يقوم أحياناً بقصف بعض المناطق الشمالية، لاسيما في البيضاء. كما يقوم بطلعات جوية بطيرانه الحربي، فوق مناطق متاخمة للمحميات الغربية، بما فيها مناطق من محافظة إب، التي كانت تسمى حينذاك (لواء إب)3، بحسب التقسيم الإداري التركي. ومن هنا اكتسبت تلك الاتفاقيات النمطية أهميتها، من وجهة نظر الإمام يحي. وظلت كل البنود التي تضمنتها الاتفاقيات، المتعلقة بالتعاون التجاري والاقتصادي وتبادل التمثيل الدبلوماسي، مجرد نصوص مكتوبة، تم التوقيع عليها، ولكنها لم تنفذ. لهذا توقفت الحكومة الألمانية عن مواصلة التفاوض، واكتفت بتبادل رسائل المجاملات والهدايا.
وقد أوردنا في كتابنا (العلاقات اليمنية _ الألمانية)4 تفاصيل الحوارات والاتصالات وتبادل الهدايا ورسائل المجاملات، مع إلحاح الإمام على عقد المعاهدة، وإصرار الألمان على التهرب من أي حديث عنها، بعد زيارة السفير بروفر لصنعاء وفشل المفاوضات5. وسنستفيد هنا من بعض ما رود في الخلاصة العامة للكتاب المذكور، لنضع رحلة السفير فايس وزوجته إلى اليمن، في الإطار العام لمجمل الاتصالات اليمنية _ الألمانية، التي كانت تلك الرحلة فاتحة لها، وكذا في إطار الظروف السائدة حينذاك، سواءً على مستوى الداخل اليمني، أو على مستوى علاقات اليمن بالعالم الخارجي:
حكمت الاتصالات اليمنية -الألمانية عدة عوامل، منها:
1- وضع ألمانيا الاقتصادي والسياسي بعد الحرب العالمية الأولى.
2- وضع اليمن الاقتصادي والسياسي بعد الاستقلال.
3- التنافس الدولي بين القوى العالمية الكبرى.
فقد دخلت ألمانيا عصر التصنيع، ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحولت من بلد زراعي متخلف (بالمعنى الإنتاجي) إلى بلد صناعي، سرعان ما أثبت قدرته على منافسة جيرانه الأوروبيين، في الأسواق العالمية. وقد قادت حمى التنافس والاتجاه المتزايد نحو إعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم، ابتداءً من مطلع القرن العشرين، إلى اشتعال فتيل الحرب العالمية الأولى (1914م _ 1918م)، التي خرجت ألمانيا منها مدمرة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وأثر ذلك الدمار الشامل على علاقاتها الدولية، وطبع سياستها الخارجية بطابع المصانعة والحرص على عدم إثارة مخاوف وغضب الدول الأوروبية الكبرى. ومن هنا فإن وضع ألمانيا الاقتصادي والسياسي كان عاملاً من العوامل، التي أثرت في طبيعة وشكل علاقاتها مع اليمن.
أما وضع اليمن الاقتصادي والسياسي، وهو العامل الثاني، من العوامل التي حكمت العلاقات اليمنية _ الألمانية، فقد ظل متخلفاً في أوضاعه الداخلية، سواءً في هيكل الدولة وأجهزتها ووظائفها، أو في اقتصاده وخدماته الصحية والتعليمية...إلخ، ولم تنشأ سوق تجارية داخلية نشطة. فقد ظلت حركة السوق ضعيفة، واحتياجات الناس محدودة، وأوضاع العملة سيئة، مع عدم وجود البنوك وصعوبة المعاملات المالية وضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، بسبب شدة الفقر. وظلت علاقاته التجارية الخارجية بسيطة ومحدودة، ولم ترج في هذه الفترة، رواجاً ملحوظاً، سوى تجارة السلاح، التي كان طرفها الرئيسي هو الحكومة اليمنية.
وكانت علاقات اليمن السياسية بالعالم الخارجي امتداداً لأوضاعه الداخلية المتخلفة، ومحكومة بسياسة الإمام، المتسمة بالانغلاق والحذر من ناحية، وبالخوف من مطامع جيرانه، في الشمال (ابن سعود) وفي الجنوب (بريطانيا)، من ناحية أخرى، بعد أن انتهت مشكلته مع الأدارسة، الذين كانوا قد احتلوا تهامة وبعض المناطق الجبلية المتاخمة لها، وتمكن من إنهاء وجودهم فيها6. فأثر الانغلاق والحذر، كما أثر الخوف من مطامع الجوار، تأثيراً مباشراً في طريقة تعامل الإمام مع القوى الخارجية. إذ سعى بكل جهده إلى الحصول على اعتراف دولي بحكمه وباستقلال مملكته، عن طريق عقد معاهدات صداقة وتجارة مع هذه الدولة وتلك. ولكن هذا السعي لم يرافقه تفاعل حقيقي مع العالم الخارجي.
وسهل التنافس الدولي وتسابق الدول الكبرى إلى مد نفوذها التجاري والسياسي إلى اليمن، وهو العامل الثالث، سهل للإمام يحيى عقد العديد من المعاهدات. فقد ظنت كل دولة من الدول المتنافسة، أن عقد معاهدة مع الإمام سوف يعزز موقفها التنافسي ويمنحها امتيازاً في السوق اليمنية على منافسيها الآخرين. ولكن هذه المعاهدات في الواقع لم يكن لها أثر يذكر، باستثناء حصول الإمام على مبتغاه، وهو الاعتراف بحكمه وباستقلال مملكته. أما الدولة الموقعة معه، فسرعان ما كان يفتر حماسه تجاهها وتضعف مكانتها، ويتجه باهتمامه إلى دولة أخرى، لم توقع معه على معاهدة بعد.
وقد تأثرت العلاقات اليمنية _ الألمانية بهذه العوامل، تأثراً لا تخطئه العين. فسواءً على مستوى المفاوضات، التي دارت حول عقد معاهدة صداقة وتجارة، وما سبقها ورافقها وتبعها من مراسلات، أو على مستوى النشاط التجاري، وخاصة في مجال تجارة السلاح. إذ نلمس حذر وتردد ألمانيا، وحرصها على تبيُّن مواقف الدول الأوروبية، ذات المصالح في المنطقة، وخاصة بريطانيا، وعلى توضيح موقفها باستمرار، تجنباً لأي التباس، وتحاشياً لأي ردود فعل سلبية تجاهها، من قبل تلك الدول.
ورغم أن حذر ألمانيا وترددها قد تلاشيا تدريجياً، خلال فترة الحكم النازي، التي امتدت من عام 1933م حتى عام 1945م، وتغيرت مواقفها وسياستها الخارجية، مع تصاعد درجة التأزم في علاقاتها بالدول الأوروبية الأخرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، رغم ذلك، فإن موقفها تجاه اليمن لم يتغير، تغيراً واضحاً. وذلك لاعتبارات جديدة، كما نعتقد، تمثلت في وقوع اليمن خارج دائرة الاهتمام المباشر لألمانيا الهتلرية7، ووقوعها في الوقت نفسه داخل دائرة مصالح حليف ألمانيا الأول، وهو إيطاليا.
وقد بدأت الاتصالات، بين الحكومتين، اليمنية والألمانية، برسالة وجهها الإمام يحيى إلى الرئيس الألماني، المارشال فون هندنبورج، بواسطة الدكتور فايس، رئيس البعثة الدبلوماسية الألمانية في الحبشة، الذي زار اليمن مع زوجته هيدفيج فايس _ زونِّنبورج، في خريف عام 1927م، لقضاء إجازته السنوية، كما أشرنا سابقاً. ثم تواصلت المراسلات بعد ذلك. وكان محورها الرئيسي هو رغبة اليمن في عقد معاهدة صداقة وتجارة مع ألمانيا، وعدم تحمس ألمانيا للاستجابة لهذه الرغبة.
وبعد تردد طويل، وبعد استطلاع موقف بريطانيا، تجاه فكرة عقد معاهدة يمنية _ ألمانية، فوَّضت ألمانيا الدكتور فون شتورر، رئيس البعثة الدبلوماسية الألمانية في مصر، بالتفاوض مع ممثل الإمام، على أن تجري المفاوضات في القاهرة. وكانت قد صدرت إيحاءات، بأن الإمام ربما يفوض محمد بن محمد زبارة، الذي كان حينها موجوداً في القاهرة، بإجراء المفاوضات. كما صدرت إيحاءات أخرى، بأنه يمكن أن يمثل اليمن في تلك المفاوضات عبد الواسع بن يحيى الواسعي، الذي قدم إلى القاهرة أيضاً. ولكن التأكيدات جاءت من صنعاء إلى برلين، من قبل محمد راغب8، بأنه لا زبارة ولا الواسعي يمكن أن يكلَّف بإجراء مفاوضات سياسية. وأنهما موجودان في القاهرة لأغراض أخرى، وأن المفاوضات لا بد أن تتم في صنعاء.
وفي شهر أبريل، من عام 1930م، كلفت ألمانيا رئيس البعثة الدبلوماسية الألمانية في الحبشة حينذاك، الدكتور بروفر، الذي حل محل السفير فايس، بالسفر إلى صنعاء، لإجراء المفاوضات هناك، وزودته بمشروع المعاهدة، المقترح من الجانب الألماني9، إضافة إلى وثائق أخرى، تتعلق بموضوع المعاهدة.
ووصل بروفر إلى صنعاء في نهاية شهر يونيو من العام نفسه، وباشر المفاوضات، التي وصلت إلى طريق مسدود، بسبب تباين وجهتي النظر، اليمنية والألمانية. فقد تقدم الجانب اليمني بمشروع آخر للمعاهدة10، تضمن، فيما تضمنه، نقطتين، رفضت ألمانيا الموافقة عليهما، وهما: الاعتراف بالإمام، حاكماً مستقلاً لليمن المستقل11، وخضوع رعايا كل من الدولتين للقضاء والقوانين السارية في بلد الدولة 12الأخرى، في حالة وجودهم فيها.
وبعد مضي شهرين على وجود بروفر في صنعاء، طلب من وزارة الخارجية الألمانية إرسال برقية إليه، مفتوحة، تطلب منه فيها القدوم إلى برلين للتشاور، ليستخدمها ذريعة لمغادرة صنعاء.
وغادر بروفر صنعاء، وقد تكونت لديه قناعات، ضمَّنها تقريراً حول سير المفاوضات، قدمه إلى وزارة الخارجية الألماني بعد عودته. وهي: أنه مادام الإمام مصراً على التمسك بالمشروع المقدم من الجانب اليمني، ولاسيما بالنقطتين المذكورتين، فإنه لا يمكن عقد المعاهدة. عدا عن أن المعاهدة لا قيمة لها أصلاً من الناحية الاقتصادية. فاليمن فقير وقليل السكان وأوضاعه الاقتصادية سيئة، ولن تفيد المعاهدة سوى الإمام، الذي يريد أن يدعم بها موقفه تجاه بريطانيا.
وسادت هذه القناعات، فيما بعد، جهاز وزارة الخارجية الألمانية، وأصبحت تمثل الموقف الرسمي للحكومة الألمانية، تجاه موضوع المعاهدة. ومع ذلك استمر الإمام ومحمد راغب في اتصالاتهما الرسمية، بالكتابة مباشرة إلى المسؤولين الألمان، وباتصالاتهما غير الرسمية وتوسيط بعض الشخصيات لدى الحكومة الألمانية، مثل الدكتور كارل راثينس13، بل وحتى توسيط الاتحاد السوفييتي، لإقناعها باستئناف المفاوضات وعقد المعاهدة.
ولكن رغم إلحاح الجانب اليمني، بل ورغم موقف الشركات والمصانع الألمانية، التي أخذت تلح من جانبها أيضاً على وزارة الخارجية الألمانية، مبدية رغبتها في عقد المعاهدة، حتى مع قبول شروط الإمام، لما في ذلك، حسب رأيها، من مصلحة للاقتصاد الألماني وللنشاط التجاري الألماني في اليمن، رغم ذلك كله فقد ظل الموقف الرسمي الألماني ثابتاً، ورفضت الحكومة الألمانية استئناف المفاوضات. ولكنها في الوقت نفسه حرصت على إبقاء قنوات الاتصال مع اليمن مفتوحة، من خلال رسائل المجاملات وتبادل الهدايا والتأكيد على أن المفاوضات لابد وأن تُستأنف وأن المعاهدة لابد وأن تُعقد في المستقبل.
ورغم عدم قيام علاقات سياسية رسمية في هذه الفترة، بين ألمانيا واليمن فإن الشركات والمصانع الألمانية واصلت جهودها، لتسويق البضائع الألمانية في السوق اليمنية. وأرسلت بعض الشركات مندوبيها وأقامت ممثلية لها في صنعاء والحديدة. وكان على رأس هذه الشركات والمصانع شركة يوسف هانزن وأولاده J.Hansen & Söhne، التي مثلت شركات ومصانع ألمانية عديدة. وكان محور نشاط هذه الشركات والمصانع تجارة السلاح. وقد برزت في هذا المجال شخصيات كثيرة، منها ديترش، ممثل شركة هانزن، وزكي كرام، ممثل مصانع موزر. ومن الجانب اليمني، عمر سليمان المزجاجي وأولاده، وإسرائيل صبيري14. وتنافست الشركات المختلفة، ألمانية وغير ألمانية، تنافساً شديداً، في تسويق الأسلحة إلى السوق اليمنية. وكان المشتري الرئيسي للأسلحة هو الحكومة اليمنية. ونزل بعض أبناء الإمام إلى السوق، يحاولون بدورهم المتاجرة بالسلاح أيضاً.
وقد مثلت الرحلة، التي قام بها السفير فايس وزوجته إلى اليمن، والتي افتتحت بها الاتصالات والحوارات الرسمية بين الجانبين، اليمني والألماني، مثلت اختراقاً دبلوماسياً غير عادي، لم يكن أصلاً هدفاً للرحلة، كما مثلت استكشافاً ممتعاً _ رغم ما صاحبها من صعوبات _ لمجاهل اليمن، المعزول عن العالم الخارجي، وحياة شعبه ونظامه السياسي وطبقته الحاكمة، ومجتمعه النسائي، الذي أبدت زوجة السفير اهتماماً خاصاً به، وأُتيحت لها الفرصة للاقتراب منه، وقدمت وصفاً له في كتابها هذا، متسماً بالدهشة، الصادرة عن خلفية ثقافية تترك تأثيرها على نظرة القادم إلى اليمن وفهمه وتقييمه لمجتمع ينتمي إلى ثقافة مختلفة، وإلى مرحلة تاريخية أخرى.
لقد انطلقت الرحلة من أديس أبابا، عاصمة الحبشة، قاصدة صنعاء، وكان الشغف بالاستكشاف، كما أكدت الكاتبة، هو الدافع إلى القيام بتلك المغامرة. وكانت صنعاء في نظر الكاتبة هي (المدينة المحرمة)، كما عبرت عن هذا في عنوان كتابها. ولم يكن هذا الوصف جديداً أو غريباً، أو مقتصراً على هذه المرأة الأوربية القادمة من عالم آخر. بل كان بمثابة انطباع عام تركته كل رحلة لكل أجنبي زار اليمن في ذلك الزمن. ولهذا الانطباع مسوغاته. فصعوبة الرحلة ووعورة الطرق وعدم توفر وسائل المواصلات الحديثة، وانعدام كل مظاهر الحياة المنتمية إلى العصر الحديث، من إدارة حديثة وخدمات ومدارس حديثة ومستشفيات وفنادق ومواصلات ومؤسسات اقتصادية ومالية وعلاقات دبلوماسية بالعالم الخارجي...إلخ، كلها تسوغ هذا الانطباع. وفوق هذا كله، لم يكن أي أجنبي يرغب في زيارة صنعاء، قادراً على بلوغها دون أن يحصل مسبقاً على إذن من الإمام شخصياً، ودون أن يكون مصحوباً بجنود مرافقين له، يحرصون على سلامته، وفي الوقت نفسه يمنعونه من أن يخرج عن حدود الطريق المحددة له مسبقاً، ابتداءً من المنطقة الحدودية التي ينطلق منها وحتى وصوله صنعاء، ثم عند عودته منها، حتى يغادر الحدود.
انطلقت هذه الرحلة من أديس أبابا إلى جيبوتي براً، ثم من جيبوتي بحراً حتى عدن، ومن عدن بحراً حتى المخا. ثم من المخا بحراً حتى الحديدة. ومن الحديدة إلى صنعاء براً، عبر رمال تهامة ومرتفعات الهضبة اليمنية، بكل ما يصاحب السفر في تهامة الحارة وفي الهضبة الوعرة، من مشقة وعناء.
وفي صنعاء كان الزائر يحل ضيفاً على الإمام. ولعدم وجود فنادق يمكن النزول فيها، كان الإمام يخصص لزائريه منزلاً من المنازل الحكومية، ويوفر لهم فيه الطعام والخدمة والحراسة، من لحظة الوصول إلى لحظة المغادرة. وعندما يغادر الزائر صنعاء، يرافقه جنود، مثلما رافقوه وهو في طريقه إليها، ويلازمونه حتى يتخطى حدود المملكة.
هذه الصورة، التي تكاد أن تكون صورة خيالية، تحدث عنها كل من زار اليمن في عهدي الإمام يحي وابنه أحمد15. وإن كان أحمد قد حاول أن يتعامل مع ما طرأ في البلاد العربية من تطورات سياسية، تعاملاً بدا في مظهره إيجابياً، وأن يضع في اعتباره التطور النسبي للوعي السياسي بين اليمنيين، بفعل نشاط حركة المعارضة اليمنية، التي نشطت في كل من عدن والقاهرة، وتأثير بعض مراكز التنوير في الوطن العربي، لا سيما في مصر، بعد ثورة 23 يوليو 1952م.
لقد حاول أحمد أن يظهر تفاعله مع هذه التطورات، وأن يبدو وكأنه قد تجاوز عهد أبيه يحي. فأقام علاقات خارجية وتمثيل دبلوماسي محدود، وانضم إلى تحالفات ومعاهدات عربية معلنة، وأظهر حرصه على تمتين علاقته بالنظام الثوري الجديد في مصر. ولكن هذا كله كان أقرب إلى مسايرة تيار التطور الجارف واحتواء تطلعات اليمنيين وإضعاف حركة المعارضة، منه إلى التوجه الجاد نحو تطوير وتحديث الدولة والمجتمع في اليمن.
ولهذا فإن السياسة العامة للإمام أحمد لم تختلف في جوهرها عن سياسة والده. فبقيت الأوضاع كلها شديدة التخلف، مشكلة حاجزاً أمام توق اليمنيين إلى الانعتاق وإلى الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث16. الأمر الذي ولد حاجة ملحة للتغيير. فكانت ثورة 26 سبتمبر 1962م، هي التعبير الواضح عن هذه الحاجة. وهي الثورة التي أدخلت اليمنيين إلى عصر كانوا غرباء عنه، ولم يكونوا مهيئين لدخوله. فالظروف الموضوعية (حجم التخلف)، لم تكن قد أفرزت أهم شرط من الشروط الذاتية للتغيير، وهو وجود النخبة السياسية المؤهلة لقيادة اليمن والولوج به إلى العصر الحديث.
ولعدم وجود هذه النخبة، لم يكن من السهل استيعاب الثورة وتمثلها والوفاء بمتطلباتها وتحقيق أهدافها المعلنة. لذا حدث ما حدث من تعثر وتخبط، استمر حتى اليوم، مصحوباً بعجز عن التخلص من الماضي وإرثه الثقيل. مما مكن للماضي من أن يكيف نفسه، وأن يظهر مجدداً في حياة اليمنيين وفي بنية الدولة وفي مواقع القرار فيها، بأشكال مموهة، وأن يبسط ظله على الحياة اليمنية بكل جوانبها، منذ اليوم الأول للثورة وحتى اللحظة الراهنة. والحديث في هذا يطول، ويبعدنا عن موضوع هذه الرحلة وتفاصيلها.
وتقدم لنا هذه الرحلة لمحة سريعة، عن ماض قريب، لم تزل امتداداته تؤثر في تفكيرنا وسلوكنا، حتى اليوم. وهذا شأن الماضي دائماً. فهو لا يموت ولا ينقطع، بل يتجلى في الحاضر وفي المستقبل بأشكال وصور شتى، بعضها يمكن تبينه، وبعضها الآخر شديد التمويه، يتغلغل في عقولنا ووجداننا وقيمنا وأنماط سلوكنا، أو كما يقال في عقلنا الباطن (بالمعنى الجمعي)، دون أن نشعر به.
كانت رحلة السفير الألماني وزوجته رحلة خاطفة، انشغلت فيها الكاتبة، زوجة السفير، بتصوير سطح الحياة، كما شاهدتها، بأسلوب أدبي جميل، انساقت معه، بفعل ما في الأسلوب الأدبي من إغراء، فقصرت في التدقيق في ما تراه وفي تتبع خلفياته والتعمق في دلالاته، واكتفت بالوصف السطحي العابر، الذي لا يقدم للقارئ اليمني (من أبناء جيلنا على الأقل) إلا ما هو معروف لديه. ولكننا هنا لا يجب أن نغفل بأنها لم تكتب كتابها للقارئ اليمني، أو حتى للقارئ العربي، الذي هو على دراية بما وصفته، بل للقارئ الغربي، المنبهر بما يقرأه، والمأخوذ بما ترتسم في الكتاب من صور وإيحاءات تبلغ حد الخيال، وتبدو ضرباً من الأساطير التي لا تنتمي إلى عالم الواقع، في الثلث الأول من القرن العشرين.
ومن الملاحظ أن الكاتبة، رغم أنها قدمت اليمن مع زوجها، وكانا معاً طوال الرحلة، قد استخدمت دائماً في وصفها للرحلة ضمير المتكلم المفرد، وكأنها كانت مسافرة وحدها، ولم تشر إلى وجود زوجها إلا مرة واحدة، عند حديثها عن رغبتها في الخروج معه للمشي، سيراً على الأقدام في شوارع صنعاء، وما واجهته من صعوبة، جعلتها تصرف النظر عن الخروج معه إلى الشارع نهائياً. كما أنها تحاشت الحديث عن اتصالاته في صنعاء، وعما أبداه الإمام له من رغبة في عقد معاهدة صداقة وتجارة مع ألمانيا، وتحميله رسالة موجهة إلى الرئيس الألماني، بهذا الخصوص. وكأن الكاتبة رأت من غير المناسب أن تتحدث عن زوجها الدبلوماسي وعن رحلته واتصالاته، أو عن أي شأن له علاقة بعمله، وذلك لاعتبارات سياسية. وهي بهذا التزمت بحدودها، كما يبدو، كزائرة لبلد كانت تجهله، ورغبت في وصف تجربتها الشخصية فيه، وحسب، دون أن تقحم زوجها، في ما قد لا يكون مناسباً لصفته الدبلوماسية.
وفي هذا الكتاب الذي قمت بترجمته، واجهتني مجدداَ مشكلة أسماء القرى والأماكن، وهي مشكلة تحدثت عنها مراراً، في ترجمات سابقة. فالزائر الأجنبي يعتمد في تدوين الأسماء على السماع، والأذن الأجنبية تعجز عن التقاط بعض حروف اللغة العربية، التي لا توجد في لغتها الأم. ولذا تلتقط الأسماء بصورة غير دقيقة، وتكتبها كما التقطتها. وعندما نقرأها كما كُتبت بالحروف اللاتينية، لا نستطيع، في كثير من الأحيان، أن نتعرف على القرى والأماكن المقصودة. وقد دأبتُ في مثل هذه الحالة، على أن أستعين بأصدقاء من أبناء المنطقة، التي تقع فيها تلك القرى والأماكن. وغالباً ما يعجزون عن مساعدتي، لأن بعض القرى اندثرت، وبعض طرق المسافرين تحولت إلى مناطق أخرى، ولم يعد بالإمكان التعرف على الأماكن التي كانت تمر بها الطرق القديمة. ولذا كان لابد من التخمين والترجيح أحياناً، بعد الاستعانة بالخرائط. وكنت دائماً إذا عرفت الاسم وتأكدت من صحته، أضعه مباشرة بالحروف العربية. وإذا خمنت ورجحت، أكتبه بالحروف العربية، ثم بالحروف اللاتينية، على سبيل التحوط. وإذا عجزت حتى عن التخمين والترجيح ولم أعثر عليه في الخرائط، اضطر إلى كتابته بالحروف اللاتينية فقط، كما هو مكتوب في النص الذي أقوم بترجمته. وهذا في نظري أفضل من أن أدعي معرفة ما لا أعرف، فأخطئ في كتابة الاسم، وأوهم القارئ وأضلله.
وفي هذا السياق، لا يسعني إلا أن أعبر عن شكري وامتناني للأصدقاء الأعزاء، الذين اجتهدوا معي في محاولة التعرف على بعض الأسماء، من اقترب منهم من الأسماء الصحيحة، ومن لم يتمكن من الاقتراب منها، رغم الجهد الذي بذله، فكان حاله كحالي. وعلى رأس هؤلاء الأصدقاء، الدكتور عمرو معد يكرب الهمداني، والمهندس محمود ابراهيم صغيري والدكتور عبد الودود قاسم مقشر.
والله من وراء القصد
صنعاء، 20 يناير 2023م
(*) مقدمة الكتاب الذي يحمل نفس العنوان (رحلة من الحبشة إلى اليمن)
الهوامش:
1 يُنطق الحرف (W) في اللغة الألمانية كنطق الحرف (V) في اللغة الإنجليزية.
2 حل السفير كورت بروفر محل السفير السابق فايس،رئيساً للبعثة الدبلوماسية الألمانية في الحبشة، وكلف بالسفر إلى صنعاء لإجراء المفاوضات مع الإمام.
3. محافظة إب هي المحافظة الوحيدة، التي ماتزال محتفظةباسم (لواء)، في التداول الشعبي اليومي، مقروناً بصفتها الخضراء (اللواء الأخضر)،التي اكتسبتها من كونها أخصب مناطق اليمن وأغزرها مطراً وأكثرها اخضراراً.
4 العلاقات اليمنية _الألمانية، 1927 _ 1940م، دراسة وثائقية، القاهرة، 1992م.
5 أنظر في ملحق هذه الترجمة جانباً من الاتصالاتوالمراسلات، التي تضمنها كتابنا (العلاقات اليمنية _ الألمانية).
6 أسسمحمد علي الإدريسي إمارة الأدارسة في شمال اليمن، (عسير والمخلاف السليماني). وبعدالحرب العالمية الأولى، سلم البريطانيون الأدارسة، مدينة الحديدة وما حولها،وتمددت الإمارة الإدريسية بذلك إلى تهامة وبعض مناطق الجبال المتاخمة لها. وقدتمكن الإمام في عام 1925م من هزيمة الإدريسي واستعادة المناطق التهامية، بما فيهاالحديدة. وطلب الأدارسة الحماية من سلطان نجد والحجاز، عبد العزيز آل سعود، وعقدوامعاهدة حماية معه. ثم اختلفوا معه ولجأوا إلى الإمام يحيى، وكان لجوؤهم، ومطالبةعبد العزيز بتسليمهم له، الشرارة التي أشعلت الحرب السعودية _ اليمنية في عام1934م.
7 اهتمتألمانيا الهتلرية اهتماماً مباشراً بالدول الأوربية المحيطة بها، واعتبرتها مجالاًحيوياً لها، وسعت إلى إحكام السيطرة عليها، عبر العمل العسكري، الذي فجر الحربالعالمية الثانية، وانتهى بتدمير ألمانيا وتقسيمها إلى دولتين، إحداهما (ألمانياالاتحادية) تابعة للمعسكر الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، والأخرى(المانيا الشرقية) تابعة للمعسكر الشرقي، وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي.
8 أوكل الإمام يحيى إليه مهمة مقابلة الأجانب،الذين يصلون إلى صنعاء في فترات متقطعة، كما أوكل إليه مخاطبة الجهات الخارجية.وكانت رسائله إلى الخارج باللغة الفرنسية، التي كان يجيدها. ولاعتماد الإمام عليهفي هاتين المهمتين، وعدم وجود من يمكن أن يحل محله، لم يسمح له أن يغادر صنعاء،حتى إلى عدن للعلاج، كما أشارت إحدى الوثائق الألمانية، التي أوردناها في كتابنا(العلاقات اليمنية _ الألمانية).
9 أنظر نص مشروع المعاهدة المقترح من الجانبالألماني في كتابنا (العلاقات اليمنية _ الألمانية).
10 أنظر نص مشروع المعاهدة المقترح من الجانباليمني فيكتابنا (العلاقات اليمنية _ الألمانية).
11 كانت حجة ألمانيا في عدم تضمين معاهدة صداقةوتجارة اعترافاً بالإمام حاكماً مستقلاً لليمن المستقل، أن مثل هذه المعاهدات لاينص فيها على الاعتراف، وأن تضمينها نصاً بالاعتراف سيشكل سابقة غير معهودة فيالمعاهدات بين الدول. لأن عقد المعاهدات لا يتم إلا بين دول مستقلة أصلاً، ومعترفباستقلالها.
12 وهذايعني خضوع المواطنين الألمان، عندما يكونون في اليمن، لأحكام الشريعة الاسلامية.
13 بدا الدكتور كارل راثينس وكأنه مندوب اليمن فيأوربا، حتى أن بعض الكتاب اعتبره مستشار الإمام. وقد تولد هذا الالتباس من طبيعةالمهام، التي طلب الإمام منه القيام بها، والتي لا توكل إلا إلى شخص له صفة رسميةفي الدولة اليمنية، لاسيما التواصل مع وزارة الخارجية الألمانية، لحثها على المضيفي موضوع المعاهدة، والتواصل مع اتحاد البريد العالمي، لتقديم طلب باسم اليمن،للانضمام إلى عضويته، والتقدم إلى الحكومة الألمانية بطلب إرسال خبير للشؤونالبريدية إلى اليمن، وطباعة طوابع بريد يمنية ...إلخ. وإيكال مثل هذه المهام إلىمواطن ألماني، شاءت الأقدار أن يزور اليمن، كان سببه عدم وجود تمثيل دبلوماسيلليمن في الخارج، في عهد الإمام يحيى. انظر كتابنا (العلاقات اليمنيةالألمانية).
14 حول بعضالشخصيات الأجنبية واليمنية، التي نشطتتجارياً في اليمن، أنظر كتابنا (العلاقات اليمنية _ الألمانية)، ص 45 _ 50.
15 قدمت كتابات بعض من زاروا اليمن في عهديالإمامين يحى وابنه أحمد صورة عن الحياة العامة، بكل جوانبها، السياسيةوالاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والخدمية، التي لم تختلف كثيراً في العهدين.أنظر مثلاً:
Hans Heltritz,Entdeckungsreisen in Südarabien,Köln, 1977. ، ترجمه إلىالعربية خيري حماد، بعنوان (اليمنمن الباب الخلفي)، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت (بدون تاريخنشر). وكلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، ترجمة محسن العيني، دار الطليعة للطباعةوالنشر، ط1، بيروت، 1960م. والطبيبة الألمانية، إيفاهِوك، Eva Höck, Als Ärztin unter Beduinen, Zürich 1958. وتقرير البعثةالطبية الألمانية الشرقية (1958م)، الذي قمنا بترجمته، بعنوان (اليمن عشيةالثورة)، ونشر في صنعاء، عام 2018م.
16 في تقريرالبعثة الطبية الألمانية الشرقية، التي زات اليمن في عام 1958م، والذي أشرنا إليهفي الهامش السابق، ما يؤكد ذلك.