على الرغم من تقدُّم عمره، ما يزال العامل عبده سالم الذي التحق بالعمل في مصنع الغزل والنسيج بالعاصمة صنعاء، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، يتردّد ما بين الساعة والأخرى إلى مكان يبعد أمتارًا عن بوابة مصنعه الذي توقفت أقسامه مجتمعة عن الإنتاج منذ 17 عامًا، مُبديًا نباهة شديدة لأيّ حركة قد تصدر من داخل السور، ورافعًا إحدى يديه فوق جبهته علّها تنجح في حجب ما يمكن من أشعة الشمس عن بصره الضعيف، كلما تهيّأ له رؤية السراب المتراكم من عوادم السيارات وزمهرير الشمس كدخانٍ متصاعد من مدخنة المصنع، يعود بعدها إلى منزله غير مطمئنٍ لشيء سوى أنّ زملاء آخرين ما زالوا في عمر يسمح لهم بتمييز السراب دون الحاجة لوضع أيديهم على جباههم، يقومون بنفس المهمة عديمة الجدوى، دون تكليف من أحد.
داخل أسوار المصنع، أقسامٌ مغلقة وأطلال مبانٍ تكالبت عليها عوامل التعرية وطالها دمار الحرب، مدخنة صدِئة، وآلات بعضها خرجت عن الخدمة لأسباب عديدة، وأخرى عادت لحالتها الساكنة بعد فشل عملية إعادة التشغيل الأخيرة، ولا حركة تستدعي كل ذلك الانتباه من سالم، الذي صادفه مُعدّ التحقيق أثناء زيارته للمصنع.
في حين يبقى السؤال المطروح: ما الذي حصل لخط الإنتاج الصناعي الأول في اليمن، ليتوقف عن العمل، مع تحوُّل قلعة الصناعات اليمنية إلى أطلال شاهدة على فشل الدولة وذكريات عالقة في صدور العاملين بقطاع القطن، وجرحًا نازفًا في كبرياء الكرامة الوطنية؟
صعوبات إعادة التشغيل
خلال ثمانية أعوام من توقف المصنع، بلغت الخسائر المباشرة التي تكبّدتها خزينة الدولة 6 مليارات و716 مليون ريال، حسب تقرير صادر عن وزارة المالية في سبتمبر عام 2013، لكن حجم الخسائر غير المباشرة كان مهولًا جدًّا، إذ تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالقطن في تهامة، بنسبة تفوق الـ80% عمّا كانت عليه قبل توقف المصنع المستهلك لـ12 طنًّا من إنتاجهم، ولم يتجاوز إنتاج البلد من محصوله عام 2019، سوى 16 طنًّا، بحسب بيانات الإحصاء الزراعي لوزارة الزراعة والري.
أضرّ توقف المصنع كثيرًا بعملية إنتاج الذهب الأبيض (القطن) في اليمن، الذي غطّت عائداته في منتصف السبعينيات 36% من الموازنة العاملة للدولة، فيما سدّ بيع مؤسسة القطن في الحُديدة -المناط بها تقديم العون للمزارعين من بذور وقروض ووقود قبل بدء الموسم مقابل التزامهم بسدادها بعد الحصاد، لصالح بنك اليمن والكويت- نافذة الأمل لدى المزارعين في تهامة، ودفعهم للتوجه نحو إحلال زراعة التبغ بديلًا للقطن في مزارعهم.
تلك الفترة اتسمت بتراجع حضور منتجات المصنع في السوق، مع كثافة حضور المنسوجات المستوردة ذات الجودة العالية والتكلفة الأقل، وبدأ المصنع يصارع لدرجة أنّ تسويق منتجاته كانت إحدى أصعب المهام التي تواجهه.
كما دفع المصنع ثمنًا باهظًا بوقوعه في قلب منطقة الصراع الدائر بين الأطراف المتصارعة بالعاصمة صنعاء في 2011، حيث توقفت تمامًا عمليات تجارب الإنتاج التي كان المصنع يجريها في قسم النسيج، وطالته أضرارٌ بليغة نتيجة القذائف والأعيرة النارية المتساقطة على أقسامه وآلاته التي أُعطِب بعضها وتأثّر الآخر، مضيفة أعباءً أخرى إليه، إلّا أنّ الاستهداف المباشر الذي طاله من قبل طائرات التحالف، كان السبب في خروجه نهائيًّا عن الخدمة، حيث نتج دمارٌ كليّ في قسم النسيج، و40 من مجموع 90 آلة انتهى مصيرها بالإتلاف.
خلال السنوات التي تلت توقفه عن العمل، شهد المصنع عدة محاولات لتشغيله، كانت أكثرها إصرارًا المحاولة الأخيرة التي جاءت بعد 15 سنة من توقفه.
يقول رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة لصناعة الغزل والنسيج في صنعاء، عبد الإله شيبان، في تصريح لـ"خيوط"، إنّه تم تشغيل قسم الخياطة في 2020، لتلبية الاحتياجات من الكمامات والملابس الطبية لمواجهة انتشار جائحة كورونا، كما تم تأهيل أقسام المصنع للعمل بمبادرة من طلاب من قسم (الميكاترونيكس) بكلية الهندسة- جامعة صنعاء، ومهندسي المصنع وكوادره الذين حدّدوا احتياجاته، وبدأت المؤسسة باستيرادها.
يضيف شيبان، أنّ قسم الغزل حاليًّا، قادرٌ على استئناف العمل في ظرف شهر، والبدء بتشغيلٍ يوميّ بمقدار تسعة أطنان يوميًّا، فالكفاءات بآلات القسم متوفرة، وهو قادر على إنتاج أنواعٍ معينة من الغزول التي تنتجها دول كالهند وغيرها، فيما أعيد تشغيل 75 آلة متضررة من القصف في قسم النسيج، وما يزال محتاجًا للمزيد من التحديث لينتج 14 ألف ياردة.
وتقدّر المؤسسة حجم التمويل لإعادة التأهيل بنحو 5 ملايين دولار، في حين تتطلب عملية تشغيله مبالغ طائلة يستطيع بموجبها المصنع سدّ جميع احتياجات السوق من الغزول.
ويمتلك اليمن الكثير من المزايا المشجّعة لصناعة القطن، حيث إنّ "القطن اليمنيّ من أجود وأنقى أنواع القطن في الشرق الأوسط والعالم، والكثير من البلدان التي تستورده تقوم بإعادة معالجته وتسويقه للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الذي يتيح خيارات كثيرة للاستيراد والتصدير".
ويرى شيبان أنّه لكي تنجح اليمن باستثمار المزايا التي تمتلكها، فإنّه يتحتم عليها الدخول بشراكات دولية، قائلًا: "صناعة القطن لن يُكتب لها النجاح حقيقة بدون شراكة دولية"، ويشير إلى أنّ دولة الصين المتربعة على عرش صناعة القطن عالميًّا، هي أنسب البلدان لذلك.
وتؤكّد المؤسسة العامة لصناعة الغزل والنسيج في صنعاء، أنّها أعدت خطة لتحديث جميع أقسام المصنع، خلال خمس سنوات، لكنها بالمقابل تواجه عديدًا من التحديات؛ أهمّها توفير التمويل الكافي لتنفيذ الخطة التي تتضمن إعادة تأهيل جميع أقسام المصنع وتوفير آلات ومعدات جديدة، تمكّنه من مواكبة التكنولوجيا المتطورة المستخدمة حاليًّا في العالم.
في السياق، تشير دراسة جدوى أعدّتها لجنة مختصة في المصنع، اطلعت عليها "خيوط"، إلى أنّ تكلفة عملية تحديث مكتملة لأقسام المصنع، تقدّر بأكثر من 20 مليون دولار، وهو مبلغ يساوي ثلاثة أضعاف المبلغ المقدم بالقرض، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الدراسة كانت في 2001؛ أي إنّها لم تشمل الأضرار التي لحقت بالمصنع بفعل التوقف لسنوات، وجراء أحداث 2011، وقصف طيران التحالف في يوليو عام 2015.
طراز وتمويل صينيّ
بناء على اتفاقية صداقة موقّعة بين اليمن والصين أواخر الخمسينيات، أكملت الأخيرة تشييد المصنع عام 1967، كأول مدينة صناعية متكاملة لصناعة الغزل والنسيج في الجزيرة العربية، تضمّ أربعة مصانع تم التعارف على توصيفها بالأقسام، وهي: الغزل، النسيج، الصباغة، الطباعة.
إضافة إلى مصنع للزيت ومحلج للقطن وثلاث محطات منفصلة لتوليد الكهرباء والبخار وترشيح الماء والعديد من الورش الفنية والمستودعات، وتنتج خيوطًا وأقمشة من 10 إلى 11 مليون ياردة سنويًّا، حسب الموقع الرسمي لوزارة الصناعة والتجارة.
كل شيء تم بناؤه على الطراز الصيني، فيما عدا اختيار موقع تشييد المصنع بالعاصمة صنعاء؛ كان قرارًا يمنيًّا حينها، حسب العديد من الروايات المتطابقة، وهكذا استمرّ تواجد الكوادر الصينية في إدارة وقطاعات الإنتاج حتى الوقت الذي كان سالم قد التحق بالعمل في المصنع.
ويذكر سالم في حديثه لـ"خيوط"، أنّ "المصنع لم يتوقف عن العمل حتى في حصار السبعين يومًا"، وهي الفترة التي حاصرت فيها فلول الملكية صنعاء، عاصمة الجمهورية الوليدة لسبعين يومًا (بين 28 نوفمبر 1967 - 8 فبراير 1968)، فيما شهد فترة ازدهار وزخم كبيرين بعد تولي الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي مقاليدَ الحكم، إذ تم تحديث المصنع بتزويده بخط إنتاج، بـ115 نول نسيج روسيّ الصنع، منها 95 نولًا طاقتها مضاعفة، سمحت للمصنع فنيًّا بعدم الاعتماد على القطن الصافي كمادة خام وحيدة، ومكّنته من خلطها بتقنية "البوليستر".
تم إغراق المؤسسة بالقروض التي قدّمتها البنوك الحكومية والأهلية للمؤسسة، لترتفع مديونيتها إلى 8 مليارات ريال، حيث قدّم بنك التسليف الزراعي (كاك بنك)، مبلغ 300 مليون ريال، تضاعفت أرباحها ونسبة فوائدها بشكل كبير ومريب بوصولها إلى حوالي مليارَي ريال.
كانت السياسية التي تبنّتها حركة التصحيح بقيادة الحمدي تجاه مصنع الغزل والنسيج، قائمةً من منطلق أنّ العاملين في مجال القطن يمثّلون النواة الأولى لمجتمع العمل بالبلد، ومن باب مصنع الغزل دخلت اليمن كعضو في اتحادات العمّال العربية والآسيوية والدولية، وانضمّت لاتفاقيات العمل المختلفة، حسب ما تؤكّده المعلومات الرسمية.
وأنشأت الدولة مدينتَين سكنيّتَين لمزارعِي القطن؛ واحدة في الحُديدة، والأخرى كانت في صنعاء لعمّال المصنع الذين ذهب حلمهم بالاستقرار بمنازلهم الجديدة مع اغتيال الحمدي، فيما تم مصادرة جزءٍ كبير من أراضيهم لصالح جهات نافذة، وما تبقّى مقيّدٌ بأدراج المحاكم، بعد النزاع عليها بين العمال والمؤسسة من جهة، ومصلحة أراضي وعقار الدولة من جهة أخرى، حسب أحد العمال الذي وصف لنا -بأسف- حالهم بعد توقيف الأرض، بالقول: "نمنا أغنياء، وصحونا فقراء!".
مسار التعثّر
طوال عقد الثمانينيّات، استمرّت مسيرة المصنع تراوح ما بين التعثّر والنهوض، تتعثّر بالتغيرات التي تفرضها المنافسة في السوق، في ظلّ الاقتصاد المفتوح، وتحاول اللحاق بركب التطور بالتكنولوجيا المستخدمة بصناعة القطن عالميًّا، عبر استيراد آلات وأدوات جديدة من دول مختلفة، بجهود لم تكن تستند على رؤية علمية مدروسة، بحسب مدير الشؤون الفنية بمصنع الغزل والنسيج، خالد الأغبري، في حديثه لـ"خيوط".
يقول الأغبري إنّه "كان يجب قصر تحديث المصنع وتزويده بالتكنولوجيا المواكبة للعصر من الصين فقط؛ لكونها الجهة التي قامت بتشييده، ولكون الحكومات الصينية المتعاقبة ظلّت تشعر بالتزام معنويّ تجاه المصنع الذي يعبّر عن رمز الصداقة بين البلدين".
مع تحقيق الوحدة عام 1990، بدأت ملامح الانهيار تظهر على المصنع، لأسباب عدة، منها: التضارب بالرؤى، الذي شهدته تلك المرحلة حول مصير مؤسسات الشطرين، حيث تنازعت الرؤى حول مصير مصنعَي القطن والمنسوجات في عدن وصنعاء، بين ضمّهما إلى مؤسسة واحدة أو إبقائهما مستقلَّين، ونتج عن ذلك انحلال مصنع الغزل في عدن بعد حرب صيف 94، وتعثّر مصنع الغزل في صنعاء، حسب إجماع كلّ المختصين والمهتمين بالمصنع.
ويذكر أحد العمّال الذين لهم باع طويل في المصنع، ويعمل في قسم المخازن، أنّ تلك الفترة اتسمت بتراجع حضور منتجات المصنع في السوق، مع كثافة حضور المنسوجات المستوردة ذات الجودة العالية والتكلفة الأقلّ، وبدأ المصنع يصارع لدرجة أنّ تسويق منتجاته كانت إحدى أصعب المهام التي تواجهه.
مؤامرة رسمية
نتيجة لعدم استبدال الآلات القديمة بآلات حديثة تواكب تطورات السوق، تراجعَ إنتاج المصنع من أربعة أطنان إلى أقل من طنَّين يوميًّا، في الفترة التي سبقت إعلان المؤسسة رسميًّا أنّها غير قادرة على توفير نفقاتها التشغيلية عام 2000، وبدلًا من أن تقوم الحكومة بالمبادرة لحل المشكلة، ذهبت المؤسسة الأمنية والعسكرية التي كانت تستهلك 80% من منتجات المصنع، إلى الاستيراد الخارجي عام 2001، الأمر الذي جعل أحد العمال يذهب إلى فرضية تعرُّض المصنع لمؤامرة.
كما تم إغراق المؤسسة بالقروض التي قدّمتها البنوك الحكومية والأهلية للمؤسسة، لترتفع مديونيتها إلى 8 مليارات ريال، حيث قدّم بنك التسليف الزراعي (كاك بنك)، مبلغ 300 مليون ريال، تضاعفت أرباحها ونسبة فوائدها بشكل كبير ومريب بوصولها إلى حوالي مليارَي ريال، فصلت الحكومة فيها عام 2009، بتشكيل لجنة ببيع الأرضية الشمالية للمصنع لصالح البنك، في خطوة يصفها مدير الشؤون القانونية للمؤسسة الوطنية لصناعة الغزل والنسيج، أحمد القعطبي، بـ"المجحفة جدًّا، والضربة القاصمة للمؤسسة".
تضاؤل الأمل
بناء على توصيات لجنة مشكّلة من وزارة الصناعة والتجارة، أعلنت المؤسسة في يوليو/ تموز 2005، منح عمّالها الذين يتجاوز عددهم 1900 عامل وعاملة، إجازةً مفتوحة إلى أنّ يتم الانتهاء من عمليات التحديث بالقرض الذي حصلت عليه المؤسسة من قبل الحكومة الصينية، بقيمة 7.5 مليون دولار.
كان من المتوقع ألّا تتجاوز عملية التحديث لجعل المصنع قادرًا على تغطية ما نسبته (30-40%) من احتياجات السوق، أكثر من عام، حسب الإعلان، لكن ما جرت عليه الأمور كان مختلفًا تمامًا.
اقتصرت العملية على قسم الغزل فقط، واستمرت حتى عام 2007، الذي تم فيه إجراء أول عملية تشغيلية يتيمة للقسم بإنتاج عشرين طنًّا بلون الخيط الطبيعي، ما زالت في مخازن المصنع حتى اللحظة؛ لعدم قدرته على تصريفها نتيجة لإغفال عملية التحديث لآلات التلوين، حسب ما كشفه لمعدّ التحقيق، أحدُ الفنّيّين في القسم.
وحول سبب عدم تحقيق النتائج المرجوة من التحديث الذي تم بالقرض الصيني، يوضح مدير الشؤون الفنية، الأغبري، أنّ "المبلغ الذي جاء بطلب من الحكومة الصينية للجانب اليمنيّ، لم يكن كافيًا لتحديث جميع أقسام المصنع".
قد لا يكون مَردُّ انتظار العامل المتقاعد، عبده سالم، لعودة انبعاث النار من مدخنة المصنع رغبةً منه باتخاذ موقعه بخط الإنتاج كما كان في سابق السنوات، بقدر ما يعني له ذلك، أنّ خمسين عامًا من عمره، لم تذهب هباءً منثورًا، بعد أن قضى سبعًا وثلاثين سنة بالخدمة وخرج منها براتب تقاعدي (33 ألف ريال)، صار استلامه متقطعًا خلال سنوات الحرب، إذ عمال المصنع في مساكن متهالكة بمدينة العمال التي لم يعدّ فيها شيء يستحق تلك التسمية. فقط يتمنّى سالم ألّا تبقى قلعة صناعته الأولى حصرًا للذكريات.