يقف العالم اليوم قاب قوسين أو أدنى من حدوث انقلاب جوهري في ميزان القوى العالمي؛ وبالتالي ننتظر متغيرات حادّة ودرامية في طبيعة النظام الدولي السائد منذ نهاية الحرب الباردة. تجري عملية تقسيم وإعادة تقسيم العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا وجيوسياسيًّا، وَفقًا لما سيُسْفر عنه الصراع لتعديل ميزان القوى.
تستعد أوروبا لإشعال حرب جديدة في أوروبا نفسها، ولا تخفي بعض الدول الأوروبية رغبتها في نشوب مثل هذه الحرب، وقد بدأت بريطانيا -وهي صاحبة الخِبرة التاريخية الطويلة عمليًّا- التمهيدَ لهذه الحرب. مسرح الحرب سيكون أوكرانيا على أنقاض علاقة مع روسيا امتدت لأكثر من ألف عام، ولا بأس أن تكون في بيلاروس (روسيا البيضاء) وتكون روسيا طرفًا فيها.
الحرب الجديدة عارية من الادعاء الأيديولوجي. لم يعد للاشتراكية من وجود في روسيا، فروسيا تواجه الغرب بأدواته (اقتصاد السوق، التقنيات العسكرية الحديثة، الإعلام والطاقة)؛ فروسيا تسعى لمواجهة التوسع الأطلسي شرقًا، بينما يمعن الأخير في التوسع وكأنه يدفع الروس نحو زاوية ضيقة.
روسيا تسعى للاستفادة من ميزة توفر الغاز الطبيعي الذي تزوّد به أوروبا؛ ربما تفكر أوروبا: (لماذا) لا تستحوذ على الغازّ الروسيّ بالمجان أو حتى بأسعار رمزية، بينما كانت أوروبا تطالب بتفعيل آلية السوق في مجال الطاقة؟
لا تنتهي قصة ما يدور في العالم هنا، فأوروبا والولايات المتحدة لا تقلق من روسيا وحدها. تستند أوروبا على تاريخها الاستعماري الطويل، وهي غير قادرة على التحرر من إرث ذلك التاريخ. والولايات المتحدة تأخذها المخاوف على مكانتها الإمبراطورية في العالم، حتى وإن كانت قد فقدت الكثير في المضمار الاقتصادي والعسكري لصالح قوى دولية وإقليمية صاعدة.
قطعت الصين أشواطًا كبيرة، بل قل فلكية في النهوض الاقتصادي والعلمي والتقني وصناعة الفضاء، وأصبحت تنافس الاتحاد الأوروبي وأمريكا وروسيا في هذه المجالات؛ الأمر الذي أثار قلق الولايات المتحدة وأثار حفيظتها من هذا المنافس المفاجئ الذي لم تكن تحسب له حسابًا، مع أن هذا من سنن الكون في التطور والزوال. ليس هذا فقط ما يقلق الأوروبيين والأمريكان، بل والخطط الصينية الطموحة لإيجاد فضاء صيني يعتمد على القوة الصلبة إلى جانب القوة الناعمة القائمة على الاقتصاد الثقافة والدبلوماسية، إضافة إلى خطتها الرائدة لبعث طريق الحرير بمعايير معصرنة تلبي احتياجات النهضة الحديثة للصين وتدمج معها الدول الواقعة على امتداد طريق الحرير من وإلى الصين.
ما نشهده اليوم من تصعيد في الحرب "العبثية" التي يصِرّون على تسميتها بالحرب اليمنية، ليست وليدة اليوم، لقد بدأ بأُحجية صاخبة في شبوة، وتعزز بأحجية متحورة في الساحل الغربي
خطّ الحرير الجديد سيكون حزامًا يضمّ أكثر من ستين دولة؛ بينها جنوب شرق آسيا، وأهم مناطق الشرق الأوسط والأدنى اللذين يتداخلان في مثلثين كبيرين؛ يضم الأول هرمز وباب المندب وقناة السويس، أما الثاني فيمتد على قاعدة بحرية واسعة من بحر العرب وشرق أفريقيا حتى خليج البوسفور حيث يتصل هناك بأجزاء من القارة الأوروبية.
مطرقة الصراعات المتعددة
هذه الظروف مجتمعة أجّجت صراعات عميقة دولية وإقليمية؛ منها ما هو متعلق بمصادر الطاقة والموارد، ومنها ما هو متعلق بالمخاطر الجيوسياسية التي تهدد بعض الدول، ومنها ما له علاقة بالنفوذ الإقليمي. وقد وجدت الولايات المتحدة نفسها مستغرقة في جميع هذه الصراعات والتناقضات، مباشرةً أو عبر حلفائها. فقد انخرطت كلٌّ من الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا في سبتمبر 2021، في تحالف سُمّي معاهدة (أوكوس)، وقد فُهِم على نطاق واسع أن هذا التحالف يهدف للوقوف في وجه الصين على المستوى الإقليمي، وقبل ذلك كانت الولايات المتحدة قد شكّلت تحالفًا مناهضًا للصين، ونفوذها في بحر الصين الجنوبي ضم إلى جانبها كلًّا من أستراليا واليابان والهند. وبموجب اتفاقية أوكوس ستتحصل أستراليا على غواصات بالدفع النووي من الولايات المتحدة، وهو ما دفع أستراليا لإلغاء صفقة مع فرنسا لإنتاج دفعة من الغواصات، وهذا دفع إلى الواجهة بأزمة بينيّة مع فرنسا.
بهذه المقدمة، أردنا أن نبرهن على الترابط الوثيق بين الصراعات الإقليمية والدولية وتماهي السياسات معها بصورة لا يمكن أن تخطِئَها عين. وقد أصبحت الحرب الدائرة في بلادنا جزئية في هذه المعمعة منذ وقت طويل؛ بمعنى أن الجزء لا يمكن بحال أن يشغل العالم عمّا هو كلي إلا بالقدر الذي يتعاظم تأثير هذا الجزئي على الكلي.
الدولُ العظمى اليومَ منشغلةٌ بصراعات أكثر قلقًا لها على المستوى العالمي والتوازن الاستراتيجي بينها، ولا تشغلها الحرب في اليمن إلا بالقدر الذي يمكن أن تؤثر به على مصالحها الحيوية، كمصادر الطاقة أو طرق الإمداد، وما دامت لم تتأثر، فلِمَ العجلة إذا كان اليمنيون لديهم نَفَس طويل للحرب.
صحيح أن الرئيس بايدن عيّن ليندر كينج مبعوثًا إلى اليمن، لكن مهمة المبعوث لم تكن إيقاف الحرب، بل البحث في سبل الوصول إلى ذلك. وقد قام بمعية المبعوثين الأمميين بجولات مكوكية هنا وهناك بهذا السبيل. لم يتجاوز ليندر كينج أيًّا من العقبات التي تعيق إيقاف الحرب، بل إن الولايات المتحدة في هذه اللحظة بالذات تحتاج إلى تصعيد وتيرة الحرب لمزيد من الضغط على دول المنطقة بخطورة الحوثيين والحاجة إلى تقوية تحالفاتها معها ومع إسرائيل بغية مواجهة الخطر الإيراني، خاصة بعد اتفاقية (أبراهام). وعلى الرغم أنّ الإمارات وبعض الدول سارعت بالطلب من الولايات المتحدة بإعادة تصنيف الحوثيين كحركة إرهابية (كانت إدارة ترامب قد فعلت ذلك، إلا أنّ الإدارة الجديدة أعادت النظر في الأمر)، ولكني لا أرجح أن تلبي الولايات المتحدة ذلك الطلب، ولو فعلت فإنه سيكون من السهل تصنيف أي جماعة أو حركة لا ترضى عنها هذه الدولة كجماعة إرهابية، ولو كانت تعتبر اليوم حليفًا لها. هذا سيكون مؤشرًا جديدًا على الفشل الذي يحصده العالم بسبب عدم القدرة على صياغة تعريف عالمي موحد لمفهوم الإرهاب.
ما نشهده اليوم من تصعيد في الحرب "العبثية" التي يصِرّون على تسميتها بالحرب اليمنية، ليست وليدة اليوم، لقد بدأ بأحجية صاخبة في شبوة، وتعزز بأحجية متحورة في الساحل الغربي.
ففي سبتمبر 2021، بسط الحوثيون السيطرة على بعض مديريات محافظة شبوة، من بينها بيحان في واحد من أكثر ألغاز هذه الحرب غرابة، ولم يعطِ أيُّ طرف تفسيرًا لِمَا حدث، لكنها الحرب تفرض شروطها. وربما لا تحتاج إلى تفسير لكل تلك المجريات عندما تدرك تعدد أطرافها المحليين والإقليميين؛ وبالتالي تعدد مشاريعهم التي تتصادم في مآلاتها النهائية.
بصورة غير متوقعة، انسحبت ما يطلق عليها القوات المشتركة من عدة مناطق في الحديدة في نوفمبر 2021، لتحل قوات أنصار الله (الحوثيين) محلها. وحسب بيان قيادة القوات المشتركة، فإن الانسحاب يأتي في إطار خطة إعادة الانتشار المحددة في اتفاق ستوكهولم؛ بينما صرح مصدر حكومي "مجهول" لوكالة شنخوا، أن "الانسحابات تمت بشكل مفاجئ وبدون أي ترتيبات أو اتفاق، ودون إبلاغنا بذلك".
أما الأمم المتحدة التي تدّعي وقوفها على ملف الحرب والسلم، فقد أكّد المتحدث باسمها أنه "لم يتم إبلاغ الأمم المتحدة مسبقًا"، وحسب ناطق الأمم المتحدة فقد اكتفت المنظمة بالمراقبة فقط.
فالأطراف المحلية المتحاربة نفسها لا تجتمع على مشروعٍ بعينه، ولكن يغلب تعدد المشروعات المنفصلة على كل طرف، ويبدو ذلك ظاهرًا للعيان في كل المناطق حيث يحضر أكثر من طرف، ويمكن أن تكون تعز وعدن ومأرب وشبوة نماذجَ صارخة على تعددية المشاريع المصاغة حزبيًّا أو مناطقيًّا للمستقبل، وكلها مشاريع دون دولة المواطنة التي خرج الناس في 2011، في ثورة جديدة لأصل بنائها.
على أنه ليس من الصعوبة استنتاج أنّ ما حدث في الحالتين، لا يخرج عن كونه تفاهمات متعارضة، فإذا كان ما حدث في شبوة، كما تم تصويره على أنه صفقة سرية بين "أنصار الله" والإصلاح المسيطر عمليًّا على شبوة، فإن ما حدث في الساحل الغربي كذلك لا يمكن تفسيره إلا على أنه تفاهمات بين الانتقالي وحراس الجمهورية لتوجيه بعضٍ من قوات العمالقة جنوبًا ثمّ نحو الشرق إلى شبوة لمجابهة التحدي الجديد هناك. ولكن من جهة ثانية لا يمكن الجزم بحال أن هذه التفاهمات تمت بمعزل عن المؤثرات الخارجية الداعمة للطرفين.
قد لاحظنا بعد الضربات الحوثية إلى أبو ظبي، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي تينيت، سارع ليس إلى التضامن مع دولة الإمارات فحسب، بل عبر عن "دعم إسرائيل للإمارات في هذا الوقت المركّب"، أول ما يتبادر إلى الذهن من هذه العبارة هو أن إسرائيل بصدد الدخول كلاعب جديد في الحرب. ولكنما أين سيكون مسرح عملياتها؟ أهي اليمن أم إيران؟ وما هي عواقب دخول لاعبين جدد في مضمار الحرب على الإمارات والسعودية وإيران؟ وما هي الخطوط الحمراء التي سترسمها الدول العظمى للمتحاربين. وأين سيكون الحدّ الفاصل بين المصالح الدولية والإقليمية ومنسوب الدماء في هذه الحرب، إذا ما قررنا أننا مجرد "أطرش في زفة" لا يعرف أصحابها؟
لكن دعونا من حكاية الحرب اليمنية الخالصة؛ لأنها حكاية ممجوجة لا تصلح حتى لتكون ضمن حكايات ما قبل النوم، الواقع لا يقبل التفسير السطحي لجوهر ومجريات هذه الحرب أو أي حرب في أي مكان بمعزل عن فواعلها الحقيقية وبمعزل عن صراعات المنطقة المتفجرة دومًا.
لا يمكن الحديث عن الأطراف اليمنية للصراع إلا من حيث كونها بهارًا إضافيًّا لتعميق نكهتها المحلية.
صراع القوة
في حالتها التي سبقت الحرب، لم تكن الجمهورية اليمنية قادرة على أن تكون طرفًا في حرب لأسباب يدركها الجميع، وهي لن تكون كذلك على المدى البعيد؛ لأنها دولة محطمة الأركان كالقاطرة التي توقفت على قضبانٍ صدِئة تأكلها عوامل التعرية من كل مفصل.
وحتى في الحالة السابقة، لم تكن البلاد لتدلف أي حرب غير حروبها الداخلية المعتادة (حروب الشطرين، حروب القبائل، حروب التجار والمناطق، حروب النافذين)؛ بمعنى أن الدولة الشطرية أو الموحدة لم تكن في حال يسمح لها بلعب دور القوة الإقليمية الوازنة أو حتى القوة المجازية.
كانت السعودية أكثر الدول طموحًا لِلَعب دور الشرطي الدولي الذي ينفّذ المهام الموكلة إليه أمريكيًّا. وقد بدأ ذلك الطموح مبكرًا بعد انتقال الوصاية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. ولذلك رأيناها كانت دائمًا على الضدّ من حركات التحرر العربية والثورات العربية، ولم يكن مستغربًا من هذا المنظور أن تعادي ثورة سبتمبر في الشمال ضد الملكية، وتقديم الدعم للملكيين ليس حبًّا منهم بقدر ما كان الأمر متعلقًا بالخوف من تأثير نتائج الثورة على المملكة الموغلة في رجعتيها وتخلفها، على أن نزوعها العدائي اتجه نحو خلق وضعٍ غير مستقر على الدوام لدى جارتها الجنوبية من خلال شراء شيوخ القبائل وإغداق الأموال عليهم ليكونوا حائط الصدّ ضِدّ قيام دولة مستقرة في اليمن.
وهي إلى ذلك، جاهرت بالعِداء ضدّ ثورة 14 أكتوبر في الجنوب منذ اليوم الأول، وليست حرب الوديعة والشرورة إلا بعض تجليات ذلك الموقف.
وإذا كانت مجريات الصراع المصري والسعودي في اليمن في تلك الفترة تدور حول مشروعية الدور الإقليمي لكلا الدولتين، وهو دور يتطلب الاعتراف به، فإن ذلك الاعتراف لن يتمدد إلا بالغلبة والظفر. ولكن الغلبة والظفر لم تكن بالمتناول، فإذا كانت مصر قد خسرت معركتها في اليمن، فإن السعودية لم تكسب غير المشايخ وبعض القيادات وأفرادٍ من النُّخَب المرتبطة بها.
الحرب في اليمن ليست إلا جانبًا واحدًا من جوانب الصراع في المنطقة لتحريك ميزان القوى أو تعديله لصالح هذا الطرف أو ذاك، على أن هذا الميزان لم يتحرك قطّ في صالح السعودية ودول الخليج، بل العكس هو الصحيح. هذا الصراع الإقليمي في المحصلة النهائية لا يمكن فصله عن الصراع بين القوى العالمية المعاصرة
المعادلة نفسها اليوم قائمة في المنطقة، مفاعيل أخرى برزت؛ فقد تغيرت خارطة المنطقة بعد تدمير العراق برغبات إقليمية متعددة، بينها سعودية وإسرائيلية وإيرانية وقوة أمريكية غاشمة.
أرادت السعودية أن تكون الدولة الإقليمية المحورية البديلة للعراق، وطمحت العسكرية التركية نحو ذلك، ولم تتخلف إيران عن الرَّكْب؛ بينما تقتنص إسرائيل الفرص لتقديم نفسها كقوة بديلة للولايات المتحدة التي وجدت نفسها موزعة في أكثر من صراع كوني دفاعًا عن وجودها ونفوذها الإمبراطوريّ في مواجهة الصعود الصيني المتقارب باستمرار مع الاتحاد الروسي؛ الأمر الذي جعلها غير حاسمة في تحديد أولويات صراعها الجديد. هل تبدأ تصفية الحساب مع روسيا أم مع الصين؟ وأيهما الخطر الأكثر جدية على استمرار هيمنتها. وإسرائيل كذلك تعمل كي تمثل نقطة ارتكاز للغرب في رأس الخليج لتلعب الدور الذي لعبته إيران (الشاهنشاهية) أثناء الحرب الباردة لما يوفره ذلك الدور لها من أفضليات جيوستراتجية و(طاقوية) واقتصادية وعسكرية على المدى المتوسط والبعيد، ليس فقط على حساب دول الخليج، بل وعلى حساب التمويل الغربي المقابل لذلك الدور.
لكن المتغيرات ليست محدودة، ولا تسير في اتجاه واحد، بل هي كالموجات التي تحيط كل الأمكنة. لم تستفد السعودية من سقوط العراق، والمستفيد الأكثر هما إسرائيل وإيران بصورة مباشرة، أما السعودية فقد تحملت الأعباء وما زالت.
إيران وظّفت استثمارات كبيرة في تطوير بُنيتها العسكرية، وقطعت أشواطًا ملموسة ومخيفة، ليس فقط لدول الإقليم بل ولإسرائيل والولايات المتحدة على وجه الخصوص. بينما إسرائيل اجتازت مراحل شاسعة في مضمار التسليح والاقتصاد والبحث العلمي، طوح بها مؤشر التوازن العام مع الدول العربية مجتمعة. بينما ظلت السعودية على حالها؛ صندوقًا لتمويل الحروب، وجرفت معها جاراتها في الخليج وبعض الدول الأخرى في الطريق نفسه، فاشتعلت المنطقة برمتها (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، ...)، والنتيجة تعاظم الموقوف الإيراني والتركي والإسرائيلي على حساب الموقف العربي.
إذا كانت السعودية تلعب في الحالة اليمنية كضمير للمتكلم "الشرعية"، فإن إيران ظهرت في الحالة نفسها كضمير مستتر غائب التقدير بحضور "أنصار الله" (الحوثيين)، على أن المراهنة السعودية على أنها صاحبة الكلمة الفصل في شؤون المنطقة، ليس بالمقدور البرهنة عليها.
الجدير بالملاحظة، أن إيران لا تنفي دعمها لـ"أنصار الله" بل وتوافقها معهم، ولكنها لا تضع نفسها في الواجهة بديلًا لهم. إن الصراع الإقليمي متداخلٌ للغاية والفصل بين حلقاته يبدو عويصًا، منذ البداية كان التداخل؛ فالحضور الإيراني في اليمن قابَلَه الحضورُ السعوديّ القديم، وإلى جانبهما برز الحضور التركي الداعم للإخوان، هذا الحضور الثلاثي ترافق في كل مناطق الصراع "العربي" في سوريا. حضر الإيرانيون بصورة سافرة بناء على تفاهمات نظامية محددة؛ بينما الحضور التركي هناك قائم على دعامتي الاحتلال السابق لسوريا وعلى العلاقة المتنامية بالإخوان كتنظيم عابر للوطنية، فقد أشارت مستشارة الأسد أن الأتراك "طالبوا صراحة من الرئيس الأسد إشراك الإخوان في الحكم وإطلاقهم من السجون"، وأن الأتراك بعد فشل ضغطهم على الرئيس السوري "أنشَؤُوا المخيمات على الدود قبل نشوب الأحداث".
أما الحضور السعودي في الوضع السوري، فأقرب للسيناريو اليمني عبر بعض الأفراد والزجّ بالاستخبارات السعودية للقيام بعمليات في الأراضي السورية، وتشكيل جماعات جهادية مسلحة كالنصرة وجيش الإسلام وجيش الشام، بمشاركة بقية دول المجلس الخليجي.
في سوريا، كان هناك تناغم بين الموقف التركي والسعودي، حتى إن السعودية هددت باستخدام قاعدة إنجرليك التركية لقصف سوريا، ولكن هذا التناغم سرعان ما تلاشى بفعل تغير الموقف السعودي من الإخوان المسلمين، وتناقض الأجندات السعودية والتركية، خاصة بعد أزمتها مع قطر.
في الجهة المقابلة، حققت إسرائيل اختراقًا كبيرًا في علاقتها بدول الخليج، لتنتقل هذه العلاقة من إطارها السريّ إلى الحالة العلنية وتبادل السفراء بضمانة سعودية، حسب المصادر الإسرائيلية، فيما سُمّي بصفقة القرن أو صفقة أبراهام. لتكشف الأيام عن عمق تلك العلاقات وتسارع وتائرها لتضخ بعض دول الخليج عشرات في شريان الاقتصاد الإسرائيلي، فضلًا عن عقد صفقات لشراء أنظمة دفاع جوي إسرائيلية، وعقد اتفاقيات للأبحاث العلمية المشتركة؛ بينما كان بمقدورها عمل كل ذلك مع دول أخرى، كألمانيا والهند والصين.
أدّى إشهار التطبيع الخليجي مع إسرائيل، ليس فقط لتقوية الموقف السياسي الإيراني لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، بل –وربما- إلى تعزيز التعاطف مع إيران بين أوساط الشيعة العرب؛ ذلك أن الشعارات الإيرانية الداعمة للقضية الفلسطينية تبدو على النقيض تمامًا من مواقف بعض الدول العربية خلال حروب غزة.
شارك كثيرون من الساسة والأكاديميين الخليجيين في التأصيل لفكرة تأهيل اليمن قبل النظر بطلب عضويتها. كانت اليمن بالنسبة لهم شبيهة بالقاصر المصاب بقصور النمو ويحتاج لعدة جرعات مختلفة من العلاج، كان آخره الكي بالحرب
إذن، الحرب في اليمن ليست إلا جانبًا واحدًا من جوانب الصراع في المنطقة لتحريك ميزان القوى أو تعديله لصالح هذا الطرف أو ذاك، على أن هذا الميزان لم يتحرك قطّ في صالح السعودية ودول الخليج، بل العكس هو الصحيح. هذا الصراع الإقليمي في المحصلة النهائية لا يمكن فصله عن الصراع بين القوى العالمية المعاصرة (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) التي تتنافس في سياق تحديد ماهية النظام العالمي الذي يجب أن يسود.
ما الذي أدّى للتصعيد الجديد وعودة القصف الجوي لنقطة الصفر، بالنسبة للتحالف العربي؟
ما هو الاحتمال الأقرب للتصديق فيما يجري؟
قلنا إن سقوط ثلاث مديريات في شبوة بيد "أنصار الله" واحدة من طلاسم هذه الحرب، واستعادتها من قبل قوات العمالقة سيزيد من غموض هذه الطلاسم، بل إن بعض وسائل إعلام "الشرعية" أخذت تتندر بها.
هل هجوم العمالقة في بيحان، هو ما أغاظ "أنصار الله" ودفعهم لقصف "أبو ظبي"؟!
لا أعتقد بالمجمل؛ لأن مناطق كثيرة تمت السيطرة عليها من قبل طرف، يتم عادة استردادها أو السكوت عنها، ولم ينجم عن ذلك فعل عنيف أو ردَّ فعلٍ أعنف. لقد سبق أن استولى الحوثيون على كامل شبوة قبل استعادتها من قبل خصومهم، ولكن استعادتها لم يغير كثيرًا الواقعَ على الأرض، ولا نعتقد أن تغييرًا مهمًّا سيحدث بعد استعادة المديريات الثلاث في شبوة.
السؤال الأهم الذي يضع نفسه أمامنا: ما هي الفوائد التي سيتم جنيها جنوبًا؟ وهل ترقى إلى مستوى الدماء التي تم وسيتم سفكها هناك.
وإذا جزمنا بترابط حلقات الصراع وملفاته، فإن الاحتمال الأقرب أن عمليات مقايضة بهذه الملفات تجري في الأبواب الخلفية، وكل طرف يريد تحقيق أفضل الشروط فيها. الحديث هُنا لا يدور عن الأطراف المحلية للصراع. فهذه الأطراف تقريبًا مغيبة كليًّا عمّا يجري بعيدًا منها.
تحاول السعودية ومعها دول الخليج اللعب على الملف النووي الإيراني، الذي تجري المفاوضات حاليًّا لإحيائه، ولكنها لا تملك من الأوراق ما يجعلها في موقف المقايض الرابح. فهي دول مستهلِكة في مجال التسليح والبحث العلمي وإنتاج الطاقة، وهي متواكلة كليًّا على الولايات المتحدة حصرًا، حتى وإن هددت باللجوء إلى مصادر بديلة فذلك من باب التمني، ولا ينطلي على الولايات المتحدة وإسرائيل بدرجة رئيسة، ولا على إيران التي وسعت من شراكاتها الدولية الاستراتيجية بصورة محسوسة. إذن، ليس أمام السعودية في هذه الحالة غير المقايضة بورقة الحرب في اليمن، ولكن بحسبة بسيطة فإن إيران لن تضحي أو تقدم تنازلات ملموسة في برنامجها النووي أو الصاروخي خدمة لأيٍّ مِن حلفائها، ولكنها يمكن أن تُقدِم على تنازلات ثانوية في ملفات أخرى لا تستطيع دول الخليج الخوض فيها.
إذن، تحولت دبلوماسية الأبواب الخلفية إلى بحيرة مياه آسِنة؛ فالتحركات الدبلوماسية الإماراتية-الإيرانية والحديث عن العلاقات المستقرة والمفيدة بين الجانبين، لم تثمر -كما يبدو- في تحقيق رغبات الطرفين، وربما أن أطرافًا أخرى دسّت أنفها فيما يجري؛ مما أفسد كل الترتيبات. لعل هذا ما حرَّك الحوثيين والتحالف العربي لخوض سباق كسر العظم، لكن المشكلة في الوضع اليمني أن كل العظام مكسّرة، لعدم استقرار البلاد لعقود كثيرة، ولا يوجد حاليًّا ما يمكن أن تدمره طائرة التحالف غير بيوت المدنيين؛ أما البنية التحتية العسكرية والمدنية المتواضعة، فقد دمرتها في بداية الحرب.
وبالتالي، فإن أي قصف صاروخي نحو الرياض أو "أبو ظبي" سيكون مكلفًا ومؤلمًأ لقطبي التحالف، ولكنه سيكون له ردٌّ انتقاميّ متهور كُلفته سيدفعها المدنيون، لأن بنك أهداف التحالف قد نفد عمليًّا منذ زمن بعيد. أعتقد أن ضوء نهار قريب سيكشف عن ماهية الإخفاقات الجانحة في مستنقع الحرب.
جزرة السعودية المفخخة!
على خلفية الزخم الجديد لإيقاع الحرب، أشار نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، إلى سعي (السعودية ودول الخليج العربي ليكون [اليمن] ضمن المنظومة الخليجية لينعم شعبه بالأمن والاستقرار والتنمية كسائر شعوب الخليج)، هل فعلًا دول الخليج تنعم بالأمن في اللحظة الراهنة؟ وهل فعلًا الشعب اليمني منهم وهم منه؟ إذن لنقرأ بعض سطور التاريخ:
لقد كانت السعودية من أكثر المعارضين لانضمام اليمن بشطريها لمجلس التعاون الخليجي؛ فعلى الرغم من أن العلاقة حينها بين نظام صالح والمملكة في أوج عنفوانها عند تأسيس المجلس، إلا أن المملكة ظلت تعامل الجمهورية العربية اليمنية بازدراء؛ فلم تكن اليمن بالنسبة إليها أكثر من فناء خلفي ترمي فيه مخلفاتها غير القابلة للتدوير، ولذلك تجاهلت وأخواتها، الجارةَ الجنوبية التي مثّلت لهم حائط الصدّ ضِدّ النفوذ الشيوعي القادم من الجنوب، كما زعموا. هذا التجاهل دفع نظام صالح للدخول مع مصر والأردن والعراق فيما عُرف بمجلس التعاون العربي عام 1989، ولكنه قضى نحبه بعد غزو الكويت مباشرة.
وبعد قيامها تقدمت الجمهورية اليمنية بطلب للانضمام إلى مجلس التعاون، وتم رفض الطلب مرارًا بحجة أنها غير مؤهلة للانضمام لنادي الأغنياء المميزين، بسبب فقرها واختلاف نظامها السياسي عن السائد في دول المجلس. وهي ترتئي ضرورة ملحة لإعادة تأهيل اليمن حتى تليق بالعضوية.
شارك كثيرون من الساسة والأكاديميين الخليجيين في التأصيل لفكرة تأهيل اليمن قبل النظر بطلب عضويتها. كانت اليمن بالنسبة لهم شبيهة بالقاصر المصاب بقصور النمو ويحتاج لعدة جرعات مختلفة من العلاج، كان آخره الكيّ بالحرب. الحديث اليوم عن إدماج اليمن في المنظومة الخليجية يجعلنا نتساءل: هل –فعلًا- اجتاز اليمن خلال هذه السنين دورة التأهيل الكامل لنيل شرف العضوية؟ وهل كانت الحرب هي أفضل أساليب التأهيل، وبالتالي أصبحت خالية من الفساد والمحسوبية وغيرها من الآفات التي بررت بها دول الخليج رفض عضوية اليمن سابقًا؟
ببساطة نقول إن الحديث عن ضمّ البلاد في المنظومة الخليجية لا يعدو أن يكون (جزرة) سعودية مفخخة جديدة تُرفَع أمام اليمنيين لدفعهم نحو مزيد من إراقة الدماء.
الخلاصة:
لقد أدّت تغذية الحرب بالشعارات الدينية وإضفاء القداسة عليها وعلى خائضيها، إلى تعظيم وحشيتها وإخراجها من السياق العام للصراعات السياسية. وكما حصل في 1994، فقد خاض مؤمنو تحالف الحرب ضد الكفرة والشيوعيين في الجنوب، وانتصروا ونهبوا وتفودوا، ولكنهم في المحصلة لم يستطيعوا إيجاد نظام سياسي أو ديني أو حتى "مشكَّل" مستقر؛ لأن أسباب الحرب لم تكن دينية، ولم تكن بين الفضيلة والرذيلة. اليوم تتكرر المسألة بصورة أشد قتامة وهمجية، فالكلّ يحارب الكل باسم الدين والمذهب والفضيلة والوطنية، شعارات مرعبة تعتري هذه الحرب (من كل حدب وصوب)، ولا أحد عنده استعداد للحديث عن إيقاف الحرب إلا باستئصال الآخر، وهو أمر بعيد المنال.