هل "الحكمة يمانية"؟

في دلالة اللفظ ومناسبة القول
ربيع ردمان
December 25, 2020

هل "الحكمة يمانية"؟

في دلالة اللفظ ومناسبة القول
ربيع ردمان
December 25, 2020
© محمد المخلافي

 يحدث في فترات الانكسار والتراجع الثقافي والحضاري أن تنكفِئ الشعوب والأمم على نفسها، تفتش في تاريخها ومصادرها عن مقولات ومرويات تتلفع بها لتستر عريها الحضاري وتلوذ بها لمواجهة ضعفها وعجزها، في حاضر لا تملك من أمره شيئًا. لكن استحضار تلك المقولات قد يتحول في كثير من الحالات إلى نوع من الهوس المريض، يدخلها في مزيد من العجز والتبلد، ويصرفها عن إدراك وضعها الحقيقي والوعي بطبيعة المشكلات التي تواجهها واقتراح الحلول المناسبة لها. 

     وأحيانًا قد يقوم المراقب الخارجي بهذا الدور فيعمد إلى استدعاء تلك المقولات، لمؤازة هذا الشعب أو ذاك، وتحفيزه لتجاوز محنته والتغيرات العاصفة التي يمر بها. وهذا ما بدا واضحًا في الإعلام العربي من ترديد مقولة "الحكمة يمانية"، التي تم تداولها على نطاق واسع في الإعلام العربي حين جنح اليمنيون عام 2012، إلى السلم المؤقت بتنازل الرئيس صالح لنائبه والدخول في مؤتمر الحوار الوطني، فبدا لهم هذا خيارًا حكيمًا، في بلد يمتلك شعبه ما يزيد عن 50 مليون قطعة سلاح مختلفة. ويبدو أن ترديد هذه المقولة خلال تلك الفترة قد زاد من شيوعها لدى مختلف فئات المجتمع اليمني، وبرغم غرق البلاد في أتون حرب أهلية مدمرة منذ أكثر من خمس سنوات، إلا أن المقولة تحولت إلى ما يشبه المعتقد الراسخ، وشعارًا يدافع عنه ويتغنى به جميع اليمنيين، ليس العامة فحسب، بل والخاصة منهم ممن يعرفون معنى الحكمة وشروط توافرها وتجليات ممارستها؛ فهل هناك بالفعل حكمة يمانية؟

     أصل هذه المقولة حديث نبوي شهير، ورد في العديد من كتب الحديث والمساند، بما فيها صحيحا البخاري ومسلم، يروى في صيغ مختلفة، وتقديم وتأخير لبعض أجزائه، ففي باب المناقب من صحيح البخاري يرد هذا الجزء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمان والحكمة يمانية». وفي باب آخر وردت الصيغة السابقة مسبوقة بقوله: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية». مما يعني أنه حديث واحد وتمت تجزئته في بابين، أو أنهما حديثان قيلا في سياقين وزمانين مختلفين. وفي صحيح مسلم يرد الحديث كاملًا، أوله الجزء الثاني "جاءكم أهل اليمن"، وآخره الجزء الأول "الفخر والخيلاء"، مع اختلاف بعض الألفاظ، بينما يرد الجزء الثاني فقط في مصنف عبدالرزاق الصنعاني مع زيادة "والفقه يمانٍ".

اليماني في "الحديث"

     ما نسعى إليه في هذه المقالة هو مقاربة مقولة "الحكمة يمانية" من حيث معنى الحكمة وعلاماتها وشروط ممارستها ومدى صحة إطلاق المقولة كشعار وعلاقتها بالواقع الراهن الذي ترفع فيه، لكن قبل ذلك من المهم أن نستعرض بإيجاز آراء العلماء القدامى وشراح الحديث حول دلالات هذا الحديث، والقوم الذين عناهم النبي بقوله. 

تُقابلنا في كتب التراث أربعة أقوال، سوف نجملها على النحو التالي: 

أولًا: مكة

     ذهب بعضٌ إلى أن النبي قال: "الإيمانُ يمانٍ والحكمةُ يمانية" أثناء عودته من تبوك، وقصد بذلك مكة التي كان بها مولده وبعثته، ومنها كانت انطلاقة دعوته الإسلامية، ثم الهجرة إلى المدينة. ومرجع أصحاب هذا الرأي أن مكة واقعة ضمن منطقة تهامة، وتهامة من أرض اليمن، فكل ما ولي مكة من أرض التهايم باتجاه اليمن يعتبر يمانيًّا، وبناء على ذلك فمكة يمانية. وهذا أقل الآراء وجاهة. 

ثانيًّا: مكة والمدينة معًا

     هناك من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول نسبة إلى الناحية أثناء عودته من تبوك، فهو يعني بذلك مكة والمدينة معًا بوصف الأولى منبع الإيمان والثانية موطن استقراره؛ لوقوعهما جغرافيا بين تبوك واليمن. والنسبة إلى الجهة أو الناحية أمر شائع في الشعر العربي القديم، فالنابغة الذبياني، على سبيل المثال، يذم يزيد بن الصقع وينسبه إلى اليمن، وهو رجل من قيس:

وكنتَ أمينَه لو لم تخنه

ولكن لا أمانة لليماني

ومن هذه الناحية أطلق العرب على نجم سهيل صفة اليماني؛ لأنه يُرى من ناحية اليمن. 

ثالثًا: الأنصار

     رأى آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بقوله الأنصار سكان المدينة: الأوس والخزرج، وهما من القبائل اليمنية التي هاجرت واستقرت في يثرب منذ زمن بعيد، وعزو الإيمان إليهم يأتي من باب الإقرار بفضلهم في حماية الدعوة الإسلامية واستقرارها، بالإضافة إلى ما أبدوه من مؤازرة واحتواء لإخوانهم المهاجرين. ويرى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "مختلف الحديث" أن هذا أحسن الآراء.

إذا كان القدامى يذهبون إلى أن المقصود في حديث "أتاكم أهل اليمن" وفد الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري، الذي كان له صحبة مع رسول الله منذ إسلامه المبكر في مكة، فمن المرجح أن النبي كان يستند في كلا الحديثين على مرجعية سابقة عايشها في مجتمع الأنصار

رابعًا: وفد اليمن

     يذهب معظم شراح الحديث في صيغته المبدوءة بعبارة: "أتاكم (أو جاءكم) أهل اليمن" إلى أن المقصود بذلك وفد اليمن من أهل التقوى والصلاح، ويرون أنه لا يجوز العدول عن ظاهر الحديث إلا ببينة ظاهرة.

    من الواضح أن القدماء قد اختلفوا في تعيين المقصود بقول النبي نتيجة لورود أكثر من صيغة للحديث ووجود اختلاف حول خلفية صدوره، ويبدو أننا أمام حديثين قيلا في زمانين ومكانين مختلفين، لا أمام حديث واحد. ومن المؤكد أن القائلين بأن المعني بالحديث سكان المدينة من الأنصار قد اعتمدوا على صيغة الحديث الأولى، التي يقارن فيها النبي بين أهل الوبر وأهل الغنم. وهؤلاء ينطلقون من السياق الذي قيل فيه الحديث ثم الوقائع التاريخية حول الدور الكبير الذي لعبه الأنصار في تثبيت دعائم الدعوة الإسلامية. وليس من المستبعد أن يكون المقصود المجتمع الإسلامي الوليد في المدينة بأنصاره ومهاجريه على اعتبار الجهة ووقوع المدينة في اتجاه اليمن بالنسبة لتبوك. وأما بالنسبة إلى الصيغة الأخرى أو حديث "أتاكم أهل اليمن" فيذكرون أن النبي قالها عند مجيء وفد أهل اليمن، وبعضهم يحددون ذلك بوفد الأشعريين، ولا يعينون لنا بدقة زمن وصول هذا الوفد، لكن من المعروف أن تتابع وفود القبائل اليمنية حدث بعد عودة النبي من غزوة تبوك، التي كانت في رجب من العام التاسع الهجري، وعلى ذلك يبدو أن حديث تبوك أسبق من حديث "أتاكم أهل اليمن". 

الأنصار والأشاعرة

     من الممكن التوفيق بين القولين الثالث والرابع من جهة، كوننا أمام حديثين قيلا في وقتين وسياقين متباعدين، وذلك على اعتبار الأصل اليماني الذي يجمع بين الجماعتين: الأنصار ووفد الأشعريين، فهو يقصد في الحديث الأول الأنصار من ناحية أصولهم كقبائل يمانية، ويقصد في الثاني وفد الأشعريين القادمين من اليمن. ومن المستبعد أن يصدر النبي حكمًا على أهل اليمن القادمين من غير معرفة مسبقة بهم أو تحرز أو استثناء؛ فالحديث ينطوي على عدد من الصفات (إيمان وحكمة ورقة أفئدة ولين قلوب)، التي لا يمكن التحقق منها إلا من خلال الصحبة والتجربة الطويلة لأصحابها. وإذا كان القدامى يذهبون إلى أن المقصود في حديث "أتاكم أهل اليمن" وفد الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري، الذي كان له صحبة مع رسول الله منذ إسلامه المبكر في مكة، فمن المرجح أن النبي كان يستند في كلا الحديثين على مرجعية سابقة عايشها في مجتمع الأنصار، فهو حكم صادر عن معرفة مسبقة وخبرة يومية عميقة استمرت لسنوات من مخالطة مجتمع الأنصار الذين برهنوا طوال تلك السنوات عن صدق إيمان ونفاذ حكمة وحسن صحبة للنبي ولإخوانهم المهاجرين إلى المدينة.

     ويعضد هذا التوفيق ما نجده في حديث عائشة حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة: «كيف بنا يا رسول الله! لو اجتمعت علينا اليمن مع هوازن وغطفان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا! أولئك قوم ليس على أهل هذا الدين منهم بأس». وحتى لو اعتبرنا قوله الصريح "أتاكم أهل اليمن" كنوع من الحنكة السياسية ومحاولة كسب ود القبائل، فإن هذا الحديث المُبكر من الناحية الزمنية يكشف لنا مرة أخرى أن مرجع النبي في قول هذه الأحاديث الأنصار الذين كانوا يمثلون بالنسبة له منطلقا في توقعاته ورؤيته للقبائل اليمنية. وكما يبدو واضحا، فالأصل والمرجع في حديثي "تبوك" و"أتاكم أهل اليمن" هم الأنصار ذوو الأصل اليماني؛ فنسبة الإيمان إليهم نسبة دور وسلوك إيماني لا نسبة أصل أو أسبقية (فالمهاجرون هم الأسبق)، وهي نسبة مؤقتة وخاصة فقط بمجتمع الأنصار ثم وفد الأشعريين القادمين من اليمن لا كل أبناء اليمن في ذلك العصر أو العصور اللاحقة. وتؤكد هذه النسبة الوقائع التاريخية المعروفة، فالأشعريون لم يكونوا الوفد الوحيد؛ إذ تورد كتب السيرة والتاريخ أسماء مجموعة من وفود القبائل اليمنية التي قدمت إلى المدينة في أوقات مختلفة كوفد قبيلة همدان وقبيلة زُبيد وقبيلة مراد وقبيلة بني الحارث بن كعب ورُسُل ملوك كندة. ولا يمكن بأية حال القول إن منطوق الحديث النبوي يشمل كل هذه القبائل اليمنية، إذ من الثابت تاريخيًّا ارتداد بعض هذه القبائل لأسباب معروفة، وقد أقدمت على ذلك في حياة النبي وبعد موته كعبهلة العنسي وقبائل مذحج وعمرو بن معدي كرب الزُّبيدي وقبيلته زُبيد وقيس بن مكشوح المرادي وقبيلته مراد، وقد خاض هؤلاء جولات من الصراع مع جيوش الدولة الإسلامية الوليدة. 

إذا كان الإيمان بالدين الإسلامي قد امتد عبر تلك القرون وتوارثته الأجيال، فهل الحكمة كالدين تتوارث أيضًا؟ هل الحكمة جانب طبيعي يتوارثه البشر ضمن جيناتهم أو ضمن ما يتلقونه من معتقدات وممارسات أم أنها شيء مرتبط بتجربة الحياة والثقافة بشكلٍ عام؟

بين الإيمان والحكمة

     لو افترضنا جدلًا أن قول النبي في أهل اليمن حكم مطلق، غير مقيد بأشخاص أو جماعة ولا بزمن معين بل يمتد بامتداد الزمن وتوارث الأجيال إلى ما شاء الله، وأن منطوق حديثه ينسحب على سكان ما يُعرف اليوم بالجمهورية اليمنية، كما يذهب إلى ذلك معظم من يرفعون هذا الحديث ويدافعون عنه، فمن الممكن القبول بالشق الأول منه: "الإيمان يمانٍ" باعتبار أبناء اليمن المعاصرين امتدادًا لأولئك السابقين، وامتدادًا أيضًا لتلك القبائل التي ما لبثت أن عادت إلى جادة الصواب بعد فورة الردة وما أبلته من بلاء حسن في حركة الفتوحات واستمرار أجيالها اللاحقة على التمسك بهذا الدين والمنافحة عنه إلى يوم الناس هذا. 

     لكن الإيمان يظل اعتقادًا وطقوسًا يتلقاها الطفل منذ تفتح مداركه، فالإيمان شأن خاص، وغالبًا ما تكون آثاره وثمرته عائدة على شخص المتدين في دنياه وآخرته، ويصعب التحقق منه بشكل عملي من قبل الآخرين أو ملاحظة ما ينعكس من ثماره على الناس إلا بشكلٍ محدود جدًّا. في حين أن الحكمة قدرة ذاتية ومهارة فردية تُكتسب بشكل تدريجي بانخراط المرء في صناعة حياته ومستقبله، ومع أنه لا يتوافر عليها الجميع، فإن آثارها وثمارها تتجاوز الذات إلى المحيط والمجتمع، فثمرة الحكمة تشمل الحكيم والمحيطين به، والأهم من ذلك أن الحكمة ممارسة يمكن التحقق من وجودها أو عدمه وملاحظتها بشكل عملي وتمييز مظاهرها وآثارها. 

     وإذا كان الإيمان بالدين الإسلامي قد امتد عبر تلك القرون وتوارثته الأجيال، فهل الحكمة كالدين تتوارث أيضًا؟ هل الحكمة جانب طبيعي يتوارثه البشر ضمن جيناتهم أو ضمن ما يتلقونه من معتقدات وممارسات أم أنها شيء مرتبط بتجربة الحياة والثقافة بشكلٍ عام؟ فحياة الإنسان الفرد هي عبارة عن رحلة تعلُّم، يمر فيها بتغيرات عديدة، تشكل رافدًا لخبرته ضمن مسيرة حياته، فهل من الممكن اعتبار الحكمة صفة تتوارث بشكلٍ جماعي؟ وقبل ذلك ما هي الحكمة التي نعنيها؟

ما الحكمة؟    

     للحكمة معانٍ وتعريفات عديدة، تختلف باختلاف المنظورات والمجالات التي ينطلق منها الدارسون قدماء ومحدثين، لكن الحكمة في أبسط معانيها هي صواب الأمر وسداده، ووضع الأشياء في مواضعها، وتأخذ الحكمة في المنظور الديني معنى الفضائل، التي تتضمن مراقبة المرء لنفسه، والسمو بأقواله وأفعاله، تحقيقًا لمبدأ الخوف من الله. وفلسفيًّا تعرف الحكمة بأنها "معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به". ما يهمنا في هذا السياق هو الحكمة العملية، التي تعني الخبرة والمهارة في إدراة شؤون الحياة، فالحكمة تقتضي معرفة واسعة وعميقة بمتطلبات الحياة وأحوالها، والوعي بالتشابك القائم بين مختلف سياقاتها، ثم القدرة على الربط بين المشكلات وجذورها وبواعثها والحزم في اتخاذ القرار الصائب. كما إنها تقتضي أيضًا القدرة على الاستبصار، والتنبؤ بمسارات الأمور والمعوقات التي قد تعترض الأهداف المرسومة، والاستعداد لكل ذلك بالحلول الملائمة. 

     غير أن الحكمة في النهاية ليست مجرد توفر الخبرة، والقدرة على التحكم بها عند اتخاذ القرارات، فالحكمة العملية عند أرسطو شيئان: إرادة الأخلاقي، ومهارة الأخلاقي، فالحكمة وإن كانت تتطلب التصميم الواعي على أداء فعل معين والقدرة على أدائه ببراعة وإحكام، فلا بد أن يتم ذلك ضمن نسق أخلاقي يؤطر مسارها، ويمنعها من أن تتلون بالأغراض والمصالح الضيقة للفرد أو لطائفته الصغيرة، على حساب المصلحة الكبرى للشعب أو الأمة.

     وإذ تبين لنا معنى الحكمة العملية وشروط ممارستها، فمن أين تنبع هذه الحكمة؟ وكيف تتكون لدى الشخص؟ ومن أين تكتسب فعاليتها؟ لا شك أن الحكمة لا تورث أو يتم تلقيها، بل تكتسب بشكل تدريجي، ويتحكم فيها أكثر من جانب، منها الجانب الذاتي المتمثل في الشخص ومدى استعداده الفطري في أن يكون شخصية سوية وناجحة، ويتعزز هذا الجانب بالتربية الأسرية السليمة، والتعليم البنّاء، الذي يعينه على إنضاج شخصيته واكتشاف قدراته ومهاراته، وتنمية حس المسؤولية لديه تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، بالإضافة إلى وجود مؤسسات سياسية واقتصادية وثقافية حقيقية تتيح له فرصة عادلة لخوض التجارب، واكتساب الخبرات العملية وتطوير مهاراته وصقلها.

حكمة الفرد وحكمة الشعب

     ضمن هذا الإطار يمكننا التفريق بين مستويين من الحكمة، فهناك الحكمة الشخصية والحكمة العامة أو حكمة الشعب، فالأولى تتمثل في أفراد يتسمون بالقدرة الفذة على إدارة حياتهم، ويحققون نجاحًا كبيرًا على المستوى الخاص أو العام، وبعض هؤلاء الحكماء تسنموا مناصب قيادية، ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم ودولهم، على نحو ما نقرأ عنهم في كتب التاريخ، كما نعرف أمثالهم كنماذج معاصرة في إدارة المشاريع والمؤسسات الخاصة أو العامة وقيادات الدول. لكن ما يمكن ملاحظته بشأن حكمائنا العرب من القادة في القديم والحديث، أن نجاحهم ظل مرتبطًا بوجودهم وينتهي كل شيء بعد إزاحتهم أو موتهم، والسبب في ذلك أن كل حكمة فردية لا يتاح لها أن تمتد وتتحول إلى شتلات داخل ثقافة المجتمع عبر برامج عامة وشاملة، فإن مصيرها ينطوي بانطواء صفحة صاحبها.

لو راح أي قارئ منا يستعرض تاريخ اليمن منذ 1400 عامٍ، متلمسًا مظاهر الحكمة العملية أو علاماتها في تاريخ البلد السياسي، لما وجد سوى بضعة أسطر مضيئة موزعة على فترات وعصور مختلفة

    ولا يمكن الحديث عن وجود حكمة عامة أو حكمة الشعب إلا بتوفر أدنى قدر من الشروط التي تسمح بظهور مثل الحكمة الجماعية، وتتمثل هذه الشروط في وجود حرية فعلية وفرص متساوية لكل أفراد الشعب؛ مما يمكّن مجموعة كبيرة من أفراد الشعب في المشاركة على رسم سياساته الاقتصادية والاجتماعية وتنفيذ خططه بنجاح واقتدار. وإذا كانت الحكمة في السابق أو الحكمة الشخصية تتمثل في ظهور أشخاص متفردين ونادرين، يتعالون على كل الشروط الموضوعية ويحققون نجاحًا فريدًا في المواقع التي يشغلونها، فإن الحكمة العملية اليوم لم تعد بنت الصدفة والقدر، والشعوب الحية لم تعد تنتظر، كما نفعل نحن، أن يرسل القدر إليها بطلًا حكيمًا أو مخلصًا ينهض بها ويقودها نحو التقدم. ولئن كان من صفات الحكيم الفرد وعيه الشديد بذاته وفهمها والقدرة على التحكم في رغباته وانفعالاته وعواطفه، والمراجعة المستمرة لخططه وأهدافه، فهذا ما تقتضيه حكمة الشعب، وتقوم به من خلال مجموعة المؤسسات والأذرع السياسية والاقتصادية للدولة والجامعات ومراكز الأبحاث الرسمية والخاصة التي تعمل دومًا على تنمية مواردها المادية والبشرية بخلق فرص عمل ومشاركة جماعية لكل أبناء الشعب، والمحافظة على مؤسساته وحمايتها من تسلّق المهووسين والمغامرين؛ لكي تظل بيئةً خصبةً وولّادة في تخليق أجيال من الحكماء، الذين يخصبون حياتها ومستقبل أجيالها. 

يمكننا الانتهاء إلى القول إن الحكمة العملية ليست جانبًا بيولوجيًّا يمكن تناقله عبر الشفرة الوراثية أو يتم تلقيها كما يتم تلقي الممارسات والمعتقدات

نموذج حكمة الشعب

     ولو أخذنا على سبيل المثال بريطانيا، كنموذج لحكمة الشعب – ليس بغرض قياس اليمن بها، فهذا أمرٌ لا يصح منهجيًّا ولا موضوعيًّا، وإنما بالقياس إلى الدول الأوروبية والإمبراطوريات الأخرى التي رافقت صعودها منذ بداية العصور الحديثة – سوف نجد أن هذه الجزيرة بمساحتها التي تبلغ أقل من نصف مساحة اليمن، قد استطاعت خلال الخمسة القرون الماضية أن تحافظ على كيانها القومي كمملكة موحدة تجاه رياح التغيير التي اجتاحت أوروبا، من صراعات دينية إلى ثورات وحروب أهلية، وكانت أقل الدول كلفة جراء تلك التغيرات، فقد حسمت أمرها باكراً في الشأن الديني حين تبنّت المذهب البروتستانتي، وأصبحت الكنيسة الأنجليكانية تابعة للبلاط الملكي، بدلًا من التبعية لبابا روما، وبفضل التجربة البرلمانية المبكرة والإصلاحات التشريعية، فقد تمكنت بريطانيا من أن تحول دون وصول ثورات التحرر، التي اقتلعت وأطاحت بالعديد من الملكيات في أوروبا. كما كانت في طليعة الدول في اجتراح عصر التحول الصناعي ومنبع الفكر الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي الحر.

      وإذا تأملنا وضع الكثير من الإمبراطوريات القديمة والحديثة، التي كانت تمتد رقعتها على مساحات واسعة، فسنجد أن سقوطها كان مدويًّا، فقدت معه كل أراضيها ومكتسباتها، وانتهى الأمر ببعضها محتلة في عقر دارها. لكن بريطانيا كانت حالة فريدة، فحين كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس امتازت بالإدارة الذكية والبراجماتية في رعاية مصالحها والاستفادة القصوى من مستعمراتها؛ إذ لم تتبع سياسة الاستعمار الكلي وتغيير ثقافة السكان المستعمَرين بالقوة، فهي لم تعمد مثلًا إلى استعمار كل جنوب اليمن لكلفتها العالية، بل اقتصرت على مستعمرة عدن، لموقعها الذي يخدم نفوذها وتجارتها وحركة أسطولها في المحيط الهندي، وعقدت اتفاقيات مع زعماء المناطق المحيطة بعدن. ومع غروب شمس الإمبراطوية لعوامل بنيوية، كان من ضمنها حربان عالميتان ومرحلة الكساد الكبير في الثلاثينيات، تمكنت من التلاؤم مع تغير موازين القوى، وظهور قوى جديدة كأمريكا والاتحاد السوفيتي، وظلت محافظة على مكانتها كدولة رائدة في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والفكر، فكيف توفر لها ذلك؟ وهل كان ذلك لوجود أبطال وقادة متفردين؟ لا شك أن جزءًا من النجاح يعود إلى أولئك القادة التاريخيين، أمثال "إليزابيث الأولى"، و"وليام بيت"، و"ديفيد لويد"، و"بنيامين ديزرائيلي"، و"وينستون تشرشل"، و"مارجريت تاتشر"، الذين قادوا بحكمة هذا البلد في كل المنعطفات التاريخية الحرجة، لكن كان يقف وراء هؤلاء القادة طائفة واسعة من مجموع الشعب الواعي واليقظ، يتوزعون في مؤسسات وكيانات ودوائر محلية صغرى وكبرى، ويشكلون رافدًا للمؤسسات الكبرى السيادية ونظام الحكم، وما كان لنجاح تلك القيادات التاريخية أن يتم إلا بتوفر تلك البيئة الصحية والمؤسسات السياسية والاجتماعية الولادة والقادرة على الفرز، والدفع بالقيادات الكفوءة لتولي زمام الأمور، في مختلف مواقع القرار الصغير والكبير منها والخاص والعام. 

    في حين لو راح أي قارئ منا يستعرض تاريخ اليمن منذ 1400 عامٍ، متلمسًا مظاهر الحكمة العملية أو علاماتها في تاريخ البلد السياسي، لما وجد سوى بضعة أسطر مضيئة موزعة على فترات وعصور مختلفة، فلم تعرف اليمن استقرارًا استمر لفترة طويلة نوعًا ما سوى في عصر الدولة الرسولية، التي لم تكن تسيطر بشكل كلي على اليمن، لكن التأكيد على هذه الفترة مصدره تلك الآثار الثقافية والحضارية الدالة على غنى تلك المرحلة التاريخية. وفي العصر الحديث عرفت اليمن بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر غير قائد سياسي، قاموا بإصلاحات في فترة حكمهم القصيرة، لكن هذه الفترة المعاصرة لم تخلُ من منطق العصور الغابرة، إذ ظل الاغتيال والانقلاب هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة، ومن الطبيعي أن تكون الغلبة والقهر هي أداة السلطة لحكم الشعب، ما دام وصولها إلى الحكم تم عن طريق القوة. ومن المهم الإشارة هنا إلى ما قاله محمد حسنين هيكل في تعليقه على ما كان يجري في اليمن عام 2011: "ما يجري في اليمن ليس ثورة، بل قبيلة تريد أن تتحول إلى دولة، ولو نجحت في ذلك، فهذا إنجاز كبير لليمنيين". وسواء منذ ذلك التاريخ البعيد أو التاريخ القريب يمكن لأي مراقب أن يرى بوضوح إلى أين تسير أحوال البلد وتلك الحكمة المزعومة، فقد ذهب كل شيء، فلم يعد هناك لا قبيلة ولا نسيج مجتمعي، وليس هناك سوى أطلال دولة ومجتمع فقير ممزق ومتناحر.

     وبناء على ما سبق، يمكننا الانتهاء إلى القول إن الحكمة العملية ليست جانبًا بيولوجيًّا يمكن تناقله عبر الشفرة الوراثية أو يتم تلقيها كما يتم تلقي الممارسات والمعتقدات، وإذا كانت الحكمة في السابق نتاجًا للصدفة وضربة القدر وتجاوزًا للشروط الموضوعية، فإن حكمة اليوم هي نتاج ثقافة وتخليق لهذه الشروط وتعزيزها، فحكمة الشعب تربية وخبرة تصقلها الممارسة، وتتشكل من خلال وجود مؤسسات حقيقية، لا قوالب مفرغة من مضمونها، تعمل على توفير الفرص المتساوية للجميع، والبيئة الصحية جسدًا وفكرًا وحرية لممارسة الحياة وإدارتها وتنمية طاقات الإبداع لدى أفراد الشعب، بحيث يكونون قادرين على إدارة حياتهم الخاصة والعامة بإبداع واقتدار.


•••
ربيع ردمان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English